صفحة الكاتب : نبيل محمد حسن الكرخي

من الاخطاء العقائدية عند مدرسة الحكمة المتعالية ... ( 17 )
نبيل محمد حسن الكرخي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
قباحة عشق الغلمان:
لم تنتقل الافكار الغنوصية والفلسفية وحدها الى التراث الاسلامي فحسب بل انتقلت معها بعض الاخلاق الرديئة التي كان عليها الغنوصيون والفلاسفة القدماء وابرزها قباحة عشق الغلمان ! فقد اشتهر عن سقراط وافلاطون وارسطو ممارستهم لرذيلة اللواط وتجميلهم لعشق الغلمان ، وانتقلت هذه الرذائل مع الافكار لتلوث الامم الاخرى التي تبنت الغنوصية والفلسفة الى ان وصلت اخيرا الى ابواب الحكمة المتعالية واتباع ملا صدرا وتراث ابن عربي.
قال في قصة الحضارة: " وأعجب من هذا الوفاق بين البغاء والفلسفة اعتراف اليونانيين في غير حياء بالانحراف الجنسي. فلقد كان أكبر من ينافس العاهرات هم غلمان أثينة، وكانت العاهرات اللائي يسربلهن العار من قمة رءوسهن إلى أخمص أقدامهن لا يفتأن ينددن بما في عشق الذكور للذكور من فساد خلقي شنيع" ، الى ان يقول" ترى كيف يفسر الإنسان انتشار هذا الشذوذ الجنسي في بلاد اليونان؟ فأما أرسطاطاليس فيفسره بخوفهم أن تزدحم بلادهم بالسكان"[1].
ويقـول د. خالـد منتصـر: "ويحدثنـا أفلاطـون عن عشـق سقـراط للغـــلام "اليسباديس"، ويذكر ديوجنيس أن سقراط عندما كان غلاماً كان معشوقاً لمعلمه" ... الى ان يقول:"لا ينتهى الكلام عن الإغريق والشذوذ بدون أن نذكر كتاب "العشاق" الذى ينسب لأفلاطون وموضوعه المقارنة بين عشق الذكور للإناث وعشق الذكور للذكور، إن الكتاب عبارة عن مناظرة بين رجلين أحدهما يدافع عن حب الرجل للمرأة والآخر يدافع عن حب الرجال للغلمان، ويقوم "ليسنيوس" بدور الحكم بينهما وينتهى إلى رأى يلخص موقف الإغريق فى عبارة قصيرة فهو يقر بأن الزواج شئ لا غنى عنه فى حين أن عشق الغلمان هو دلالة الحكمة ولهذا نراه يحبذ قصر ممارسته على صفوة المجتمع وحكمائه"[2] !
ويُجَمّل ملا صدرا في اسفاره قباحة ومعصية عشق الغلمان ، فيقول: "فصل في ذكر عشق الظرفاء والفتيان للأوجه الحسان: اعلم أنه اختلف آراء الحكماء في هذا العشق وماهيته وانه حسن أو قبيح محمود أو مذموم فمنهم من ذمه وذكر انه رذيلة وذكر مساويه وقال إنه من فعل البطالين والمعطلين ومنهم من قال إنه فضيلة نفسانية ومدحه وذكر محاسن أهله وشرف غايته ومنهم من لم يقف على ماهيته وعلله وأسباب معانيه وغايته ومنهم من زعم أنه مرض نفساني ومنهم من قال إنه جنون الهي . والذي يدل عليه النظر الدقيق والمنهج الأنيق وملاحظة الأمور عن أسبابها الكلية ومباديها العالية وغاياتها الحكمية ان هذا العشق أعني الالتذاذ الشديد بحسن الصورة الجميلة والمحبة المفرطة لمن وجد فيه الشمائل اللطيفة وتناسب الأعضاء وجوده التركيب لما كان موجودا على نحو وجود الأمور الطبيعية في نفوس أكثر الأمم من غير تكلف وتصنع فهو لا محاله من جمله الأوضاع الإلهية التي يترتب عليها المصالح والحكم فلا بد ان يكون مستحسنا محمودا سيما وقد وقع من مباد فاضله لأجل غايات شريفة . اما المبادي فلانا نجد أكثر نفوس الأمم التي لها تعليم العلوم والصنائع اللطيفة والآداب والرياضيات مثل أهل الفارس وأهل العراق وأهل الشام والروم وكل قوم فيهم العلوم الدقيقة والصنائع اللطيفة والآداب الحسنة غير خاليه عن هذا العشق اللطيف الذي منشأه استحسان شمائل المحبوب ونحن لم نجد أحدا ممن له قلب لطيف وطبع دقيق وذهن صاف ونفس رحيمة خاليا عن هذه المحبة في أوقات عمره . ولكن وجدنا سائر النفوس الغليظة والقلوب القاسية والطبائع الجافية من الأكراد والاعراب والترك والزنج خاليه عن هذا النوع من المحبة وانما اقتصر أكثرهم على محبه الرجال للنساء ومحبة النساء للرجال طلبا للنكاح والسفاد كما في طباع سائر الحيوانات المرتكزة فيها حب الازدواج والسفاد والغرض منها في الطبيعة ابقاء النسل وحفظ الصور في هيولياتها بالجنس والنوع إذ كانت الاشخاص دائمة السيلان والاستحالة . واما الغاية في هذا العشق الموجود في الظرفاء وذوي لطافة الطبع فلما ترتب عليه من تأديب الغلمان وتربيه الصبيان وتهذيبهم وتعليمهم العلوم الجزئية كالنحو واللغة والبيان والهندسة وغيرها والصنائع الدقيقة والآداب الحميدة والاشعار اللطيفة الموزونة والنغمات الطيبة وتعليمهم القصص والاخبار والحكايات الغريبة والأحاديث المروية إلى غير ذلك من الكمالات النفسانية فان الأطفال والصبيان إذا استغنوا عن تربيه الاباء والأمهات فهم بعد محتاجون إلى تعليم الاستادين والمعلمين وحسن توجههم والتفاتهم إليهم بنظر الاشفاق والتعطف فمن أحل ذلك أوجدت العناية الربانية في نفوس الرجال البالغين رغبه في الصبيان وتعشقا ومحبه للغلمان الحسان الوجوه ليكون ذلك داعيا لهم إلى تأديبهم وتهذيبهم وتكميل نفوسهم الناقصة وتبليغهم إلى الغايات المقصودة في ايجاد نفوسهم والا لما خلق الله هذه الرغبة والمحبة في أكثر الظرفاء والعلماء عبثا وهباء فلا بد في ارتكاز هذا العشق النفساني في النفوس اللطيفة والقلوب الرقيقة غير القاسية ولا الجافية من فائدة حكمية وغاية صحيحه . ونحن نشاهد ترتب هذه الغايات التي ذكرناها فلا محاله يكون وجود هذا العشق في الانسان معدودا من جمله الفضائل والمحسنات لا من جمله الرذائل والسيئات و لعمري ان هذا العشق يترك النفس فارغة عن جميع الهموم الدنياوية الا هم واحد فمن حيث يجعل الهموم هما واحدا هو الاشتياق إلى رؤية جمال انساني فيه كثر من آثار جمال الله وجلاله حيث أشار اليه بقوله لقد خلقنا الانسان في أحسن تقويم وقوله ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين سواء كان المراد من الخلق الاخر الصور الظاهرة الكاملة أو النفس الناطقة لأن الظاهر عنوان الباطن والصورة مثال الحقيقة والبدن بما فيه مطابق للنفس وصفاتها والمجاز قنطرة الحقيقة . ولاجل ذلك هذا العشق النفساني للشخص الانساني إذا لم يكن مبدأه افراط الشهوة الحيوانية بل استحسان شمائل المعشوق وجوده تركيبه واعتدال مزاجه وحسن أخلاقه وتناسب حركاته وافعاله وغنجه ودلاله معدود من جمله الفضائل و هو يرقق القلب ويذكى الذهن وينبه النفس على ادراك الأمور الشريفة ولاجل ذلك امر المشائخ مريديهم في الابتداء بالعشق وقيل العشق العفيف أو في سبب في تلطيف النفس وتنوير القلب وفي الاخبار ان الله جميل يحب الجمال وقيل من عشق وعف وكتم ومات مات شهيدا . وتفصيل المقام ان العشق الانساني ينقسم إلى حقيقي ومجازي والعشق الحقيقي هو محبه الله وصفاته وافعاله من حيث هي افعاله والمجازي ينقسم إلى نفساني والى حيواني والنفساني هو الذي يكون مبدأه مشاكله نفس العاشق المعشوق في الجوهر ويكون أكثر اعجابه بشمائل المعشوق لأنها آثار صادره عن نفسه والحيواني هو الذي يكون مبدأه شهوة بدنية وطلب لذه بهيمية ويكون أكثر اعجاب العاشق بظاهر المعشوق ولونه واشكال أعضائه لأنها أمور بدنية والأول مما يقتضيه لطافة النفس وصفاتها والثاني مما يقتضيه النفس الامارة ويكون في الأكثر مقارنا للفجور والحرص عليه وفيه استخدام القوة الحيوانية للقوة الناطقة بخلاف الأول فإنه يجعل النفس لينه شيقة ذات وجد وحزن وبكاء ورقه قلب وفكر كأنها تطلب شيئا باطنيا مختفيا عن الحواس فتنقطع عن الشواغل الدنيوية وتعرض عما سوى معشوقها جاعله جميع الهموم هما واحدا فلأجل ذلك يكون الاقبال على المعشوق الحقيقي أسهل على صاحبه من غيره فإنه لا يحتاج إلى الانقطاع عن أشياء كثيره بل يرغب عن واحد إلى واحد . لكن الذي يجب التنبيه عليه في هذا المقام ان هذا العشق وإن كان معدودا من جمله الفضائل الا انه من الفضائل التي يتوسط الموصوف بها بين العقل المفارق المحض وبين النفس الحيوانية ومثل هذا الفضائل لا تكون محموده شريفة على الاطلاق في كل وقت وعلى كل حال من الأحوال ومن كل أحد من الناس بل ينبغي استعمال هذه المحبة في أواسط السلوك العرفاني وفي حال ترقيق النفس وتنبيهها عن نوم الغفلة ورقدة الطبيعة واخراجها عن بحر الشهوات الحيوانية واما عند استكمال النفس بالعلوم الإلهية وصيرورتها عقلا بالفعل محيطا بالعلوم الكلية ذا ملكه الاتصال بعالم القدس فلا ينبغي لها عند ذلك الاشتغال بعشق هذه الصور المحسنة اللخمية والشمائل اللطيفة البشرية لان مقامها صار ارفع من هذا المقام ولهذا قيل المجاز قنطرة الحقيقة وإذا وقع العبور من القنطرة إلى عالم الحقيقة فالرجوع إلى ما وقع العبور منه تارة أخرى يكون قبيحا معدودا من الرذائل ولا يبعد ان يكون اختلاف الأوائل في مدح العشق وذمه من هذا السبب الذي ذكر ناه أو من جهة انه يشتبه العشق العفيف النفساني الذي منشاؤه لطافة النفس واستحسانها لتناسب الأعضاء واعتدال المزاج وحسن الاشكال وجوده التركيب بالشهوة البهيمية التي تنشأها افراد القوة الشهوانية . واما الذين ذهبوا إلى أن هذا العشق من فعل البطالين الفارغي الهمم فلانهم لا خبره لهم بالأمور الخفية والاسرار اللطيفة ولا يعرفون من الأمور الا ما تجلى للحواس وظهر للمشاعر الظاهرة ولم يعلموا ان الله تعالى لا يخلق شيئا في جبله النفوس الا لحكمه جليله وغاية عظيمه. واما الذين قالوا إنه مرض نفساني أو قالوا إنه جنون الهي فإنما قالوا ذلك من اجل انهم رأوا ما يعرض للعشاق من سهر الليل ونحول البدن وذبول الجسد وتواتر النبض وغور العيون والأنفاس الصعداء مثل ما يعرض للمرضى فظنوا أن مبدأه فساد المزاج واستيلاء المرة السوداء وليس كذلك بل الامر بالعكس فان تلك الحالات ابتدأت من النفس أولا ثم أثرت في البدن فان من كان دائم الفكر والتأمل في امر باطني كثير الاهتمام والاستغراق فيه انصرفت القوى البدنية إلى جانب الدماغ وينبعث من كثره الحركات الدماغية حراره شديده تحرق الاخلاط الرطبة وتفنى الكيموسات الصالحة فيستولى اليبس والجفاف على الأعضاء ويستحيل الدم إلى السوداء وربما يتولد منه الماليخوليا . وكذا الذين زعموا انه جنون الهي فإنما قالوا من اجل انهم لم يجدوا دواء ا يعالجون ولا شربه يسقونها فيبرؤن مما هم فيه من المحنة والبلوى الا الدعاء لله بالصلاة والصدقة والرقى من الرهبانيين والكهنة وهكذا كان دأب الحكماء والأطباء اليونانيين فكانوا إذا أعياهم مداواة مريض أو معالجة عليل أو يئسوا منه حملوه إلى هيكل عبادتهم وأمروا بالصلاة والصدقة وقربوا قربانا وسئلوا أهل دعائهم وأحبارهم ورهبانهم ان يدعوا الله بالشفاء فإذا برى المريض سموا ذلك طبا إلهيا والمرض جنونا إلهيا . ومنهم من قال إن العشق هواء غالب في النفس نحو طبع مشاكل في الجسد أو نحو صوره مماثله في الجنس. ومنهم من قال منشأه موافقه الطالع عند الولادة فكل شخصين اتفقا في الطالع ودرجته أو كان صاحب الطالعين كوكب واحد أو يكون البرجان متفقين في بعض الأحوال والانظار كالمثلثات أو ما شاكل ذلك مما عرفه المنجمون وقع بينهما التعاشق ومنهم من قال إن العشق هو افراط الشوق إلى الاتحاد وهذا القول وإن كان حسنا الا انه كلام مجمل يحتاج إلى تفصيل لان هذا الاتحاد من اي ضروب الاتحاد فان الاتحاد قد يكون بين الجسمين وذلك بالامتزاج والاختلاط وليس ذلك يتصور في حق النفوس ثم لو فرض وقوع الاتصال بين بدني العاشق والمعشوق في حاله الغفلة والذهول أو النوم فعلم يقينا ان بذلك لم يحصل المقصود لان العشق كما مر من صفات النفوس لا من صفات الاجرام بل الذي يتصور ويصح من معنى الاتحاد هو الذي بيناه في مباحث العقل والمعقول من اتحاد النفس العاقلة بصوره العقل بالفعل واتحاد النفس الحساسة بصوره المحسوس بالفعل فعلى هذا المعنى يصح صيرورة النفس العاشقة لشخص متحده بصوره معشوقها وذلك بعد تكرر المشاهدات وتوارد الانظار وشده الفكر والذكر في اشكاله وشمائله حتى يصير متمثلا صورته حاضره متدرعة في ذات العاشق وهذا مما أوضحنا سبيله وحققنا طريقه بحيث لم يبق لاحد من الأزكياء مجال الانكار فيه . وقد وقع في حكايات العشاق ما يدل على ذلك كما روى أن مجنون العامري كان في بعض الاحانين مستغرقا في العشق بحيث جاءت حبيبته ونادته يا مجنون انا ليلى فما التفت إليها وقال لي عنك غنى بعشقك فان العشق بالحقيقة هو الصورة الحاصلة وهي المعشوقة بالذات لا الأمر الخارجي وهو ذو الصورة لا بالعرض كما أن المعلوم بالذات هو نفس الصورة العلمية لا ما خرج عن التصور وإذا تبين وصح اتحاد العاقل بصوره المعقول واتحاد الجوهر الحاس بصوره المحسوس كل ذلك عند الاستحضار الشديد والمشاهدة القوية كما سبق فقد صح اتحاد نفس العاشق بصوره معشوقه بحيث لم يفتقر بعد ذلك إلى حضور جسمه والاستفادة من شخصه كما قال شاعر انا من أهوى ومن أهوى انا * نحن روحان حللنا بدنا فإذا أبصرتني أبصرته * وإذا أبصرته أبصرتنا ثم لا يخفى ان الاتحاد بين الشيئين لا يتصور الا كما حققنا وذلك من خاصية الأمور الروحانية والأحوال النفسانية واما الأجسام والجسمانيات فلا يمكن فيها الاتحاد بوجه بل المجاورة والممازجة والمماسة لا غير بل التحقيق ان لا يوجد وصال في هذا العالم ولا يصل ذات إلى ذات في هذه النشأة ابدا وذلك من جهتين . إحديهما ان الجسم الواحد المتصل إذا حقق امره علم أنه مشوب بالغيبة والفقد لان كل جزء منه مفقود عن صاحبه مفارق عنه فهذا الاتصال بين اجزائه عين الانفصال الا انه لما لم يدخل بين تلك الأجزاء جسم مبائن ولا فضاء خال ولا حدث سطح في خلالها قيل إنها متصله واحده وليست وحدتها وحده خالصه عن الكثرة فإذا كان حال الجسم في حد ذاته كذلك من عدم الحضور والوحدة فكيف يتحد به شئ آخر أو يقع الوصال بينه وبين شئ . والأخرى انه مع قطع النظر عما ذكرنا لا يمكن الوصلة بين الجسمين الا بنحو تلاقى السطحين منهما والسطح خارج عن حقيقة الجسم وذاته فاذن لا يمكن وصول شئ من المحب إلى ذات الجسم الذي للمعشوق لان ذلك الشئ اما نفسه أو جسمه أو عرض من عوارض نفسه أو بدنه والثالث محال لاستحالة انتقال العرض وكذا الثاني لاستحالة التداخل بين الجسمين والتلاقي بالأطراف والنهايات لا يشفى عليلا طالب الوصال ولا يروى غليله واما الأول فهو أيضا محال لان نفسا من النفوس لو فرض اتصالها في ذاتها ببدن لكانت نفسا لها فيلزم حينئذ ان يصير بدن واحد ذا نفسين وهو ممتنع ولاجل ذلك  ان العاشق إذا اتفق له ما كانت غاية متمناه وهو الدنو من معشوقه والحضور في مجلس صحبته معه فإذا حصل له هذا المتمنى يدعى فوق ذلك وهو تمنى الخلوة والمصاحبة معه من غير حضور أحد فإذا سهل ذلك وخلى المجلس عن الاغيار تمنى المعانقة والتقبيل فان تيسر ذلك تمنى الدخول في لحاف واحد والالتزام بجميع الجوارح أكثر ما ينبغي ومع ذلك كله الشوق بحاله وحرقه النفس كما كانت بل ازداد الشوق والاضطراب كما قال قائلهم . أعانقها والنفس بعد مشوقة * إليها وهل بعد العناق تداني والثم فاهاكى تزول حرارتي * فيزداد ما القى من الهيجان كان فؤادي ليس يشفى غليله * سوى ان يرى الروحان يتحدان والسبب اللمي في ذلك ان المحبوب في الحقيقة ليس هو العظم ولا اللحم ولا شئ من البدن بل ولا يوجد في عالم الأجسام ما تشتاقه النفس وتهواه بل صورة روحانية موجوده في غير هذا العالم"[3].
واراد الشيخ محمد رضا المظفر (صاحب كتاب عقائد الامامية) وهو من علماء الحكمة المتعالية ، الدفاع عن موقف ملا صدرا من عشق الغلمان ، فزاد الطين بلّة ! فنجده يقول واصفاً ملا صدرا: "فمن مميّزات هذا الرجل العظيم زيادة على سمو تفكيره وحرية رأيه وصراحته فيتسجيل أفكاره ، واعتداده بعقله ، وإنْ خالف رأيه جميع الناس" الى ان يقول:"ومن المباحث التي ظهرت فيها شجاعته الأدبية المسألة التي ذكرها في السفر الثالث تحت عنوان (عشق الظرفاء والفتيان للأوجه الحسان) ، ويعني بعشق الظرفاء الحب العفيف للملاح من الغلمان خاصة ، فذهب الى وجوده وأنه ممدوح بل لازم لمن اراد السلوك الى الله تعالى واستعمل في هذه المسألة البيان الواضح الأخاذ ، وآراؤه الجريئة فيها تعد من المآخذات عليه عند الناس". ثم يقول: "إنَّ هذا العشق اعني الالتذاذ الشديد بحسن الصورة الجميلة والحب المفرط لمن وجدت فيه الشمائل اللطيفة وتناسب الاعضاء وجودة التركيب لا ينبغي الشك بحسنه وأنه ممدوح ، ويدل على ذلك النظر الدقيق وملاحظة الامور عن أسبابها الكلية ومباديها العالية ، وغاياتها الحكمية ، ولا نصغي الى من يقول انه رذيلة ، فيذمه ويذكر مساويه إذ يجعله من فعل البطالين والعاطلين ، لأنّا نجده موجوداً على نحو وجود الامور الطبيعية في نفوس أكثر الامم من غير تكلّف وتصنّع ، فهو لا محالة من جملة الأوضاع الإلهية التي يترتب عليها المصالح والحكم ، فلا بد أن يكون مستحسناً ممدوحاً"[4]. ثم يصفه بأنه "ممدوح شرعاً لكن اثباته من طريق عقلي لا من طريق الادلّة اللفظية"[5] ، معللاً ذلك بـــ "أنه موجود على نحو وجود الأمور الطبيعية في نفوس أكثر الأمم من غير تصنّع ! هذا هو طريقنا إلى إثبات أنه ممدوح شرعاً ، لأنّا نعلم أن الله تعالى لا يخلق شيئاً في جبلة النفوس إلا لحكمة جليلة وغاية صحيحة ، والعشق لا شك أنه مما جبل عليه الإنسان الرقيق القلب اللطيف الطبع وموجود في نفسه كسائر الأمور الطبيعية ، لا من العادات التي تكتسب اكتساباً لوجوده في نفوس الأكثر ، فيكون من الأمور المستحسنة المحمودة عند الله التي تترتب عليها مصلحة عامة للبشر"[6]... "نحن لم نجد احداً ممن له قلب رقيق وطبع لطيف وذهن صاف ونفس رحيمة خالية عن هذا العشق في أوقات عمره ، بينما نجد سائر النفوس الغليظة والقلوب القاسية والطبايع الجافة من بعض الأمم خالية عن هذا النوع من الحب ، وإنما أقتصر أكثرهم على محبة الرجال للنساء والنساء للرجال طلباً لإشباع الشهوة الجنسية كما في طباع سائر الحيوانات المرتكزة فيها هذه الشهوة. ومن هنا يأتي الافتراق بين العشق وبين ما قست عليه من الصفات الذميمة فإنها تختلف معه في المبادىء ثم الغايات ، لأن مبادىء هذه الصفات مبادىء شيطانية لأجل غايات دنيئة ، إذ أن مثل الحسد والغضب مبدؤه حب النفس والكبرياء والجبروت وغلظة القلب وقساوته الذي لا يحب الخير لغيره ، وغايته العدوان على الغير وظلمه وسلب نعمته من مال أو منزلة واحترام وعز وحو ذلك. أما العشق فهو يقع من مبادىء فاضلة لأجل غايات شريفة وهذايحتاج الى شرح أما المبادىء فلأنا نجد أكثر نفوس الأمم التي لها تعليم العلوم والصنايع والآداب والرياضات مثل أهل فارس والعراق والشام والروم وكل قوم فيهم العلوم الدقيقة والصنايع اللطيفة والآداب الحسنة غير خالية عن هذا العشق اللطيف الذي منشأه استحسان شمائل المحبوب ، فهو منبعث كما قلنا آنفاً عن القلب الرقيق والطبع اللطيف والذهن الصافي والنفس الرحيمة. وأما الغاية منه ، فلما يترتب عليه من تأديب الغلمان وتربية الصبيان وتهذيبهم وتعليمهم العلوم الجزئية والصنايع الدقيقة والآداب الحميدة والأشعار اللطيفة الموزونة والنغمات الطيبة والقصص والأخبار والحكايات الغريبة والأحاديث المروية ن الى غير ذلك من الكمالات النفسانية ، فإن الاطفال والصبيان إذا استغنوا عن تربية الآباء والأمهات فهم بعد محتاجون الى تعليم الأساتذة والمعلمين وحسن توجههم والتفاتهم إليهم بنظر الاشفاق والتعطّف. فمن أجل ذلك أوجدت العناية الإلهية في نفوس الرجال البالغين رغبة في الصبيان وتعشقاً ومحبة للغلمان الحسان الوجوه ، ليكون ذلك داعياً إلى تأديبهم وتهذيبهم وتكميل نفوسهم الناقصة ، وإلا لما خلق الله تعالى هذه الرغبة والمحبة في أكثر الظرفاء والعلماء عبثاً وهباءً. ونحن نشاهد ترتب هذه الغايات التي ذكرناها فلا محالة بكون وجود هذا العشق في الانسان معدوداً من جملة الفضائل والمحسنات ، لا من جملة الرذائل والسيئات"[7].
ومن خلال ما ذكره الشيخ المظفر وجدنا العديد من الاثارات نتطرق لذكر بعضها:
ـ لو كان منطلق ملا صدرا عشق الجمال فلماذا اقتصر على جمال وجه الغلمان بدون دوافع جنسية فلِمَ لم يتحدث عن عشق الفتيات الصغيرات غير البالغات ؟! الا يُتَصور أنَّ قصر الامر على الغلمان من وراءه دوافع شذوذ تحرف الامر باتجاه الغلمان !!
ـ قرن بين عشق الغلمان وبين وجود العلوم الدقيقة والصنايع اللطيفة والآداب الحسنة والرياضات في الامم مثا اهل فارس والعراق وغيرهم ، فما هي العلاقة بين تلك العلوم الدقيقة التي قد يقصد بها الفلسفة والتصوّف الغنوصي بدليل ذكره الرياضات ايضاً ؟ ألا يكشف ذلك على ان الغنوصية في مختلف الامم كانت غالباً مرتبطة بعشق الغلمان ؟!!
ـ الامم التي يستشهد الشيخ المظفر بها كالفرس والهند والاغريق وغيرهم ، الم يكن اللواط وزنى المحارم وغيرها من المنكرات شائعاً فيها ومقبولا فيها ، فكيف يستشهد بفعل تلك الامم لتصحيح قباحة عشق الغلمان !؟
ـ ان استقراءه لفعل الامم الأخرى هو استقراء ناقص ، فكيف يصبح حُجةً ؟!  
ـ ان المبررات التي ذكرها ملا صدرا قد تفتح الباب ليس فقط لعشق الغلمان بل يمكن ان تمتد تحت نفس الذرائع الى اعلان عشق البنات والنساء عموماً فالمبرر نفسه موجود في الجميع ! اما الحكم الشرعي بغض البصر وحرمة النظر فيمكن تاويله والالتفاف عليه كما برروا صحة عشق الغلمان !
ـ ان ملا صدرا اذا كان يقصد العشق غير الجنسي فإن من يتلقى عنه لا يمكن ان يضع لنفسه الامارة بالسوء حداً بين العشق الجنسي واللاجنسي ، ومع توفر العوامل الحياتية والنفسية كالخلوة والقرب والنزوة والغفلة وغيرها يمكن ان تنشط كل هذه المخاوف لتصبح واقعاً مؤلماً. فعلى اقل اقل اقل تقدير ربما يكون هذا العشق محرّماً من باب سد الذرائع.
ـ قوله: (نحن لم نجد احداً ممن له قلب رقيق وطبع لطيف وذهن صاف ونفس رحيمة خالية عن هذا العشق في أوقات عمره). وحاشا الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) ان ينسب هذا اليهم، وإلا كان في كلامه تجاوز عليهم.
ـ قوله : (وأما الغاية منه ، فلما يترتب عليه من تأديب الغلمان وتربية الصبيان وتهذيبهم وتعليمهم العلوم الجزئية والصنايع الدقيقة والآداب الحميدة والأشعار اللطيفة الموزونة) الخ ... فما ذنب الصبيان غير حِسان الوجوه ؟ أنتركهم في الجهل وعدم تعلم الصناعات والفقر؟
 
ولم ينفرد ملا صدرا بقباحة عشق الغلمان بل الظاهر انه اثّر بها على آخرين ، فقد مرّ علينا آنفاً في بحثنا هذا الاشارة الى سرمد الكاشي الذي كان من تلاميذ كل من المير الفندرسكي وملا صدرا ، والذي استولى عليه غرام ولد اسمه ابهي چند بن راجه من الهنود[8] !
هل هي حكمة متعالية ام حكمة تعشق الغلمان الحسان والالتذاذ الشديد والحب المفرط على حد تعبير الشيخ المظفر !!
وللإنصاف فإنه ليس جميع اهل الحكمة المتعالية يقبلون بقباحة عشق الغلمان او يتعقلونها ، فعلى سبيل المثال نجد ان الحكيم السبزواري (متوفى 1289هـ)في حاشيته على الاسفار اعترف بأنه ممنوع منه شرعاً[9].
والأكثر قبحا من افكار ملا صدرا ومحاولته تشريعها دينياً ، هو كلام البعض الذين يحاولون الدفاع عن ملا صدرا ويبررون موقفه ويغطون عليه بمعسول كلامهم وتاويل واضحات كلامه ! انهم يصطفون الى جانب ملا صدرا في الترويج للرذيلة وتشريعها دينياً !!
فربما يمكن تبرير بنحو أو آخر المنحى الفلسفي او العرفاني الذي ينتهجه ومحاولته تغيير ملامح الدين تبعاً لهما ، لكن ان يتم تبرير تعشقه بالغلمان على هذا النحو الفاضح والصريح فهذا من عجائب دهرنا !!
ونتحدى اي رجل دين من اتباع الحكمة المتعالية ان يصعد منبراً عاماً ويقرأ كلام ملا صدرا عن عشق الغلمان ويرى رد فعل المسلمين تجاهه وكيف سيرفضونه ويلفظونه من واقعهم.
والسؤال الاهم هو: كيف سيكون وجه الاسلام والعالم لو ساد فكر ملا صدرا فيه ؟ وهل سيكون تشريع زواج المثليين في الدول الاسلامية مباحاً ام لا؟!
 
 
 
________________________________________
الهوامش:
[1] قصة الحضارة / وِل ديورانت – ج7 ص108.
[2] مقال بعنوان (قراءة فى تاريخ الشذوذ الجنسي - الفصل الثالث) ، بقلم د. خالد منتصر ، منشور في موقع ايلاف الالكتروني ، بتاريخ 19 مايو 2006م.
[3] الحكمة المتعالية في الاسفار العقلية الاربعة / الشيخ صدر الدين محمد الشيرازي ت1050هـ – ج3 ص171 وما بعدها.
[4] احلام اليقظة مع الفيلسوف صدر المتألهين/ الشيخ محمد رضا المظفر – ص187 و188.
[5] المصدر السابق – ص188.
[6] المصدر السابق – ص188 و189.
[7] احلام اليقظة مع الفيلسوف صدر المتألهين/ الشيخ محمد رضا المظفر – ص189 و190.
[8] فهرس التراث / محمد حسين الحسيني الجلالي - ج1 ص864.
[9] احلام اليقظة مع الفيلسوف صدر المتألهين/ الشيخ محمد رضا المظفر – ص188.

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


نبيل محمد حسن الكرخي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2016/11/12



كتابة تعليق لموضوع : من الاخطاء العقائدية عند مدرسة الحكمة المتعالية ... ( 17 )
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net