صفحة الكاتب : احمد العبيدي

وإذا الموءودة نطقت قصة قصيرة
احمد العبيدي

  (كتبت هذه القصة من وحي مأساة الانفجارين اللذين ضربا مسجداً وحسينية في الحلة يوم 20/5/ 2013 ،

إنها قصة حقيقية بتفاصيلها وشخوصها)
بقلم / احمد العبيدي / الحلة
كان التعب مستحوذاً على خلايا جسدي كلها حين عدتُ من العاصمة بعد نهار قضيت نصفه في نقاشات ساخنة ونصفه الآخر جالساً خلف مقود سيارتي ، كم صار الوصول الى بغداد والتنقل فيها مملاً ومرهقاً ، طرق مغلقة وزحامات خانقة وسيطرات لا تحسن غير تمثيل دور عنق زجاجة .
ما ان وصلت البيت متلهفا لارتشاف دقائق من الاسترخاء في حديقتي التي اقضي فيها جل وقتي حين أكون بالبيت حتى استقبلتني قرة عيني ذات الخمسة أعوام ، بتوددها المعتاد : ماذا جلبت لي معك ؟ حقا ان البنات حسنات ، يعرفن كيف يملكن قلوب آبائهن ، سألتني وعيناها تتراكضان في أرجاء السيارة علّها تعثر على بغيتها .
عاجلتها لامنع إحباطها : بنيتي لقد أتعبتني رحلة اليوم ولم أشأ أن أشتري لك ما لا ترغبين ، سنذهب غدا الى سوق الحلة سوية لتختاري ما  تريدين .
لم يقنعها ذلك ، أصرّت ان اشتري لها (الموطا) من حانوت جارنا الذي لا يبعد عنا أكثر من مئة متر .
حسنا لا حيلة لي غير الامتثال : لنذهب.
مثقلة قدميَّ أجرّهما على شارعنا المترب ، فبقاؤك غاطساً لا تتحرك في مقعد سيارة ثلاث ساعات يصيب عضلات جسمك بالتصلب والفتور ، لكني وجدت المشي فرصة لتحرك الدم وعودة النشاط والتودد للجيران والتواصل معهم .
في طريق عودتنا وحيث كانت هي مشغولة بالموطا تلطع منها مرة واخرى تنظر الى كلب اعتاد الجلوس باسطا ذراعيه في منعطف الزقاق لا يؤذي أحداً ، سمعت صوتا من خلفنا ينادي : رقية... رقية ... رقية ... 
كانت طفلة تصغر ابنتي بشهور ، ترتدي ثوباً أحمر نظيفاً وقد صنعت لها أمها خصلتين من شعرها جانبيتين كابنتي تماماً .
كررت الطفلة : رقية... رقية ... رقية ...
اسمعي يا قرة العين هذه البنت تناديك ، تظن ان اسمك رقية .
شغلني صوت هذه الطفلة ، أمتعني ، أطربني ، بل شدني إليه .
قصّت قرة العين حكاية النداء لأمها وأشّرت لها مكان البيت الذي كانت الطفلة تقف على عتبته . 
ذكرتني ابنتي بشأن الطفلة في اليوم التالي ، لقد نادتها اليوم حين راحت برفقة أمها للحانوت مرة اخرى : رقية... رقية ... رقية ...
ماذا يكون سرّ هذا النداء ، ولاي شيء استأثر بروحي واهتمامي حتى راح يتردد صداه في ذهنيّ : رقية... رقية ... رقية ؟!!!
لقد عرفت اسم الطفلة ، انها مريم . لقد نادتني اليوم رقية أيضاً . قالت لي ابنتي بفرح .
قلت لها بلطف : حسنا بنيتي لن أذهب اليوم لاي مكان فأنا متعب أكثر من أي يوم مضى ، رافقيني للحديقة لاصلي المغرب . لا تفتأ تجلس قربي تنتظر انتهائي من الصلاة مهما أطلت ، تصلي معي مرة وتضرب عن الصلاة مرات .
حين انتهيت من الصلاة ، تناهى إلى سمعي صوت هاتفي النقال يرن بنغمته الهادئة المفضلة لدي ، ها إنه الوالد : السلام عليكم بني أين انت ؟
أجبته : وعليكم السلام أنا في البيت أبي ، خيراً إن شاء الله ؟
عقب بتوتر بدا لي من صوته المتسرّع : لقد حدث انفجاران قبل قليل ، حمداً لله على سلامتك ، إبق حيث أنت ، الوضع خطير بني .
طمأنته : حسنا أبي لا تقلق أنا في البيت مع السلامة.
إن هي إلا لحظات حتى رن الهاتف ثانية ، إنه العبد الصالح كما أسمّيه : السلام عليكم ، حاج ، التفجيران اللذان وقعا قبل قليل استهدف أحدهما مسجد الوردية والآخر حسينية زين العابدين التي افتتحناها قبل شهور ثلاثة ، ويبدو أن الضحايا كثر ، سأذهب الى هناك لأرى ما حدث .
أرعبني الخبر ، قلت في نفسي : حرب المساجد قد عادت ، حرب قذرة ملعونة ، أبطالها كأعواد ثقاب تحترق لتحرق ما حولها .
ناديته : لا حول ولا قوة الا بالله ، اذهب أنت وسأحاول اللحاق بك بأسرع ما تسمح به السيطرة التي لا شك انها أغلقت الشارع كما تفعل مع كل انفجار .
حين وصلت حسينية زين العابدين كان قد مر على الانفجار أقل من ساعة ، كان الناس يتراكضون ، أحدهم يسأل الآخر : هل رأيت حيدر ؟ ما هي أخبار عباس ؟ هلا شاهد أحد ثائر ؟ والشرطة قد ملأت مكان الإنفجار . حين شاهدت الحطام الملطخ بالدماء كادت عيناي تصرخ بالبكاء . أي مجنون فعل هذا يا رب ، أي مفتون بالعشاء مع الرسول فجّر نفسه هنا ليحيل المكان ركاماً من أشلاء ودموع ودماء وأنقاض ؟!!
لم يكن مسجد الوردية أهون حالا ، وهو لا يبعد سوى بضع مئات من الامتار عن موقع الانفجار الأول .
لم نمكث كثيراً ، فقد ذهبنا الى المستشفى وكان الوقت قد تأخر قليلا ، فوجدناها تغص بالناس الذين كانوا يتحركون بعشوائية ويملأون المكان كله . الوضع في غاية الفوضى الناس تتناقل أخبار الجرحى والشهداء ، علي جليل استشهد ، حيدر مجروح ، حسين لم يعثروا عليه ..
عدت الى البيت يتملكني الحزن والتعب لا ألوي على شيء ، لكنني قاومت نفسي وجلست امام حاسبتي أكتب على الفيس تفاصيل الانفجارين ، وحين شارفت على الانتهاء انطلق من بيت جارنا صراخ وعويل نساء ، انه صوت الثكل ، استطيع ان أميزه بوضوح ، تعجلت إنهاء الخبر لانهض مسرعاً نحو مصدر الصوت ، واذا بالناس يتجمعون أمام الباب الذي كانت تقف عليه الطفلة مريم ذات النداء الرخيم : رقية... رقية ... رقية ...
ماذا حصل أخبروني ؟ سألت الواقفين.
أجابني جاري أبوعمار : لقد ذهب عليٌ برفقة ابنته عصر هذا اليوم الى الطبيب فلما انتهى من الطبيب كان الاذان قد رفع في المسجد القريب ، فدخل مع ابنته ليصلي المغرب ، فدخله انتحاري فجر نفسه بين جموع المصلين . لقد عثر اخوته على ابنته الصغيرة ميتة قد مزق جسدها الطري حقد لئيم ، ولم يعثروا على علي ، لعل ملامحه شوّهتها الحروق فلم يميزوه  بين جثث الأموات .
سألت وكادت نفسي تزهق : ما عمر الطفلة ؟ 
انها صغيرة ، عمرها أربع أو خمس سنوات . أجابني بهدوء
أتكون هي مريم ؟ سألت كمن يسأل عمن يعرف .
نعم هي مريومة . أجابني أبو عمار مطرق الرأس بحزن شديد ، وأما الواقفون حولنا ، فظلوا كأن على رؤوسهم  الطير .
أسرعت للبيت أكتب بقية مأساة هذا المساء ، كنت أطبع على أزرار حاسبتي وعيناي نصف مغمضتين ، والحزن والتعب والنعاس قد أخذ مني مأخذاً عظيماً . فما أن أكملت الخبر حتى شعرت ان عليّ أن أغادر هذا اليوم ، أن أغرق في النوم ، أن أرحل مع الاموات ولو لساعات .
استيقظت باكراً ككل يوم ، لكنه لم يكن يوماً كباقي الايام ، فأول ما سمعت فيه ذات العويل والصراخ الذي أفزعني في الليل ، ياحي يا قيوم ، لعلهم وجدوا جثة علي فاستأنفوا العويل .
وبينما رحت أجري صوبهم لحقت بي طفلتي ، فلما وصلت وإذا بسيارة تحمل فوقها تابوتاً صغيراً لا يتجاوز طوله متراً واحداً ، والاطفال والنساء متعلقون بالتابوت يبكون بحرقة ولوعة ، الجميع كان يبكي ، الرجال والشباب مع النساء والاطفال . 
لقد وصلت متأخراً بعض الشيء ، كان الاهل يودعون طفلتهم الى مثواها الأخير. 
تحركت السيارة ذات التابوت الصغير لتجتازني ، شعرت أن قشعريرة استولت عليّ ، انها مريم ... لقد رحلت مريم ، لن نسمع بعد اليوم نداءها الرخيم ..
وحين انعطفت السيارة بالقرب مني وراحت تبتعد مسرعة عاد ذلك الصوت مخترقا عنان السماء ليتناهى إليّ من بعيد : رقية... رقية ... رقية ..

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


احمد العبيدي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2013/08/10



كتابة تعليق لموضوع : وإذا الموءودة نطقت قصة قصيرة
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net