سومغايت ... في العقل الطوراني
د . جواد كاظم البيضاني
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
د . جواد كاظم البيضاني
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
بدت عوامل الانهيار والتحلل الذاتي ومن ثم التفكك من الناحية لإكلينيكية على الاتحاد السوفيتي الذي كان يعاني من أزمات اقتصادية وسياسية وقومية ، ويبدو أن سياسات الرئيس السابع والأخير للاتحاد السوفيتي ميخائيل غورباتشوف، بمثابة رصاصة الرحمة للقضاء على البنية الهشة لهذا الكيان. فقد بدأت ملامح الصراع القومي والديني واضحة. وكانت أوربا الغربية تحفز على زيادة حدة التوتر بين دول هذا الاتحاد بعد أن تمكنت من تدمير البنية الإستراتيجية لمنظومة حلف واشو .
في ذات الوقت كان الترك يعدون عدتهم في الهيمنة على مساحات واسعة من منظومة هذا الكيان، معتمدين في ذلك على المد القومي الذي بدأ يسري في جسد الدويلات الناطقة بالتركية .وكما هو واضح فان المشروع الطوراني يرتكز على مقولة عنصرية ، يعلمها الترك لأبنائهم، ومفادها :" أن الترك هم اعظم امة في العالم اختارتها الاقدار لسيادة العالم". ومن الطبيعي ان يجد هذا الجنس الهجين عقبة كبيرة امامهم ولعل عقد التاريخ هي التي تورقهم ، والتي تقف حائل في وجه تطلعاتهم غير المنطقية ، فكان صدامهم حتمي مع الامم العريقة التي تجذر تاريخها في الارض التي استقرت بها، ومن بين هذه الامم ، الامة الارمنية ذات التاريخ الذي بدأ مع التاريخ. وسبق للقادة الترك ان تحدثوا بهذا الخصوص، ولعل حديث جمال (باشا) السفاح الذي قال فيه :" سأفني الأرمن بالحديد والنار ، وسأفني العرب بالتجويع"، يوضح حجم ما كان يورق الترك من الارمن والعرب بسبب نزعاتهم التحررية ورفضهم الخضوع ، وهذه السمة هي التي تميزت بها الشعوب الحرة صاحبة التاريخ الاصيل، ولا شك ان الشعب الارمني واحد من تلك الشعب التي تميز بتمسكه بقوميته وحضارته وتاريخه ولغته ، ومن الصعب أن ينصهر ، سياسياً وادارياً ، كشعب متحضر – ضمن مجموعة أقل تحضراً فقد كانت لغة القوة والحديد والنار هي السبيل الأوحد امام الطورانية للوصول إلى مبتغاهم. فكان الصدام حتمي بين هذا الشعب والاذر .
كانت القيادة الاذرية ومنذ الحقبة السوفيتية تجاهر بانتمائها العرقي وتدعوا إلى اعادة اللحمة بين أركان الترك المبعثرة في المعمورة ويدعون إلى بناء وحدة اقتصادية وسياسية والاجتماعية والثقافية بين هذه المجاميع، بل ان الزعيم الاذري ابي الفضل الشيبي كان يحمل على صدره وسام زينه رسم مصطفى كمال (أتاتورك). على ان تركيا سعت ومن خلال ابواقها الاعلامية الى تحفيز هذا التوجه وتعزيزه بين الشعوب ذات الاصول التركية ، وهذا ما رأت به روسيا خطرأ كبيراً على مصالحها عبر عنه سفيرها في انقرة خلال تلك الحقبة ألبرت تشرنيشف قائلاً:" يعتقد بعض الاشخاص هنا في انقرة أن هذه الجمهوريات منطقة خاضعة لسلطة تركيا، ويرون أنه ينبغي أن تملأ تركيا فراغاً هناك. إنها وجهات نظر غير مرغوب فيها. ليس هناك فراغ ، أن روسيا لديها مصالح مهمة جداً فيها تاريخية واقتصادية وسياسية ".
لقد حفز البوق الاعلامي الغوغاء واثار مشاعرهم وكان سبب في احداث (29) شباط ، ويرى يعض الباحثين ان الدوافع التي وقفت وراء هذه المد العنصري الدعوات التي اطلقها الارمن في شباط / فبراير عام 1988 في اقليم ارتساخ (ناغورني قاراباخ)، فقد قدم نواب مجلس الشعب لهذا الاقليم ذو الاغلبية الارمنية مقترح الى مجلس السوفيتي الاعلى باتحاد الجمهوريات السوفيتية يدعون من خلاله بالانفصال الإداري من التبعية السياسية لأذربيجان السوفياتية آنذاك، والانضمام إلى أرمينيا السوفياتية، باعتبار الإقليم من الناحيتين؛ العرقية والتاريخية ، أقرب ما يكون إلى أرمينيا . بيد ان الحقيقة تدفعنا للقول ان من واجب الحكومة الاذرية حماية مواطنيها بغض النظر عن انتمائهم العرقي والديني ، فهذا عرف توافقت عليه الشعوب ونصت عليه مواثيق الامم المتحدة. غير ان حكومة اذربيجان كانت تدفع الى تازيم الاوضاع وتاجيج المواقف الشعبية من خلال التظاهرات التي كانت تحمل في شعاراتها اهداف عنصرية تجسد نمط الانتقام العنصري الذي بنيت عليه العقلية الطورانية في التنظمية وأيدلوجيتها الانتقامية التي تقوم افكار المنتمين اليها.
وفعلا حدث ما كانت تخطط له اذربيجان حيث قامت مجاميع من المسلحين الاذربيجانيين بمهاجمة الارمن واختطاف العديد منهم بمصائر مجهولة وقتل اخرين وسحلهم بمظاهر عنصرية توحي الى الحقد الدفين الذي حمله الطورانيين الاذر.
لقد هيأت لي الاقدار ان اطلع على حجم المعانات التي تعرض لها سكان باكو من الارمن وبلدة سومغايت الساحلية التي تعرضت الى حالة ذكرتنا باحداث (1915) حيث عمليات الاغتصاب والسحل وقطع الرؤوس امام اعين الشرطة الذين انخرطت اعداد منهم بهذه المأسي المروعة، بل وصل بهم الامر الى حرق الارمن وهم احياء.
ان إمَاطَةُ اللِّثَامِعن هذه الاحداث يحفز العالم الى ماسي تعرضت لها البشرية بفعل تغاضي العالم عن الماسات الكبرى التي تتابعت احداثها ، فلوا ان العالم وقف وقفة بوجه الترك للاعتراف بالابادة التي وقعت على الارمن ما كان لهذه الأحداث أن تقع. نعم سيحدث المزيد بفعل تجاهل العالم لاحداث 1915 والتي ساقت لنا تبعات لا نزال نعاني منها ، فهل يعي العالم حجم التهديد الذي تشكله الطغم الطورانية على ام البشرية؟
لقد ذكرتني هذه الاحداث بما قاله العالم النووي الروسي، أندريه ساخاروف، في رسالة وجهها، عقب المذبحة، إلى الرئيس السوفياتي، ميخائيل غورباتشوف: " لو كان أحد قبل مذبحة سومغايت يرتاب في أنّ أذربيجان، قد يكون لها الحق في ناغورنو كاراباخ، فبعد هذه المأساة، لا أحد لديه حق أخلاقي للإصرار على ذلك".
هوامش البحث:
- جواد كاظم البيضاني، ارمينيا في ظل المعاهدات، ط1،(بغداد، دار ارارات للطباعة والنشر، 2022).
- علي جوني، مجلة الشرق الاوسط، مجلة تصدر عن مركز الدراسات الاستراتيجية والبحوث والتوثيق في بيروت، العدد23/ اكتوبر / تشرين الأول، 1993ص32.
- نعيم اليافي، جمال باشا السفاح، دراسة الشخصية والتاريخ،( الاذقية، دار الحوار، 1993)، ص133
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat