صفحة الكاتب : نبيل محمد حسن الكرخي

من ذاكرة "الثورة الاسلامية في العراق" وتحديات الواقع
نبيل محمد حسن الكرخي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله محمد وآله الأبرار واللعنة الدائمة على أعدائهم من الأولين والآخرين الى قيام يوم الدين.

يرتبط أسم (الثورة الإسلامية في العراق) بثلاثة أيام ترسَّخت في الذاكرة العراقية:

اليوم الأول هو يوم 17تشرين الثاني 1982م حينما اعلن السيد محمد باقر الحكيم (رحمه الله) تأسيس كيان "المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق".

واليوم الثاني هو يوم 9/4/2003م وسقوط النظام الصدّامي البعثي العفلقي المتغطرس والذي تسلّط على الشعب وتحكم بمقدراته وأذاقه الويلات والنكبات المتتالية الى يوم سقوطه، وتسبّبه أيضاً بتعرّض العراق لإحتلال قوات التحالف الأمريكية – البريطانية.

واليوم الثالث هو يوم 12/5/2007م وفيه إعلان تغيير أسم كيان (المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق) إلى (المجلس الأعلى الإسلامي العراقي) والذي انتقل تدريجياً الى متاحف التاريخ السياسي بعد صراع الزعامات وإنشقاق ما عُرف بـ (تيار الحكمة) بزعامة سيد عمار الحكيم. وهكذا أنتهت شكليّاً قصة "الثورة الإسلامية في العراق"!

كانت الذريعة المعلنة في تغيير أسم كيان (المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق) أنَّ الثورة تعني التغيير وهو الأمر الذي حدث فعلاً على مستوى التغيير السياسي بسقوط النظام فلم يعد هناك داعي لبقاء الأسم! وهي ذريعة شكلية فيما يبدو تجنباً لإحراج إعلان الخضوع للضغوط السياسية من قبل القوى الغربية آنذاك، فالكيانات السياسية عادة لا تغيّر اسمها إذا وصلت للسلطة أو حققت أهدافها فعلاً على حد ما اعلنوه، هذا إذا كانوا قد حققوا اهدافهم فعلاً!!

فهل كان لكيان (المجلس الأعلى للثورة الاسلامية في العراق) غايات سياسية فقط ام أيضاً إجتماعية ودينية للنهوض بالواقع الإسلامي للمجتمع وترسيخ عرى الإسلام في الدولة عبر إلزام الدولة الارتكاز الى المفاهيم الإسلامية في التشريعات الدستورية والقانونية وتطبيقها ورعايتها واحترامها.

وهل أنَّ مفهوم "الثورة الاسلامية" يستهدف تغيير السلطة فقط أم يستهدف إزالة الظلم عن الشعب وتحقيق العدالة الاجتماعية وتحصيل حقوق الشعب والارتقاء بالطبقات الفقيرة وترسيخ قيم الاسلام في المجتمع والدولة! فعندما زال النظام هل زالت كل المظالم عن الشعب أم ظهرت مظالم جديدة تتمثل بالاحتلال واستهداف تنظيم القاعدة والارهابيين الطائفيين والدواعش للمكوّن الشيعي، ومظالم جديدة أخرى تتمثل بمآسي الفسادين المالي والإداري التي رافقت تسلق "الثوريين" الى السلطة!!

 

فقضية تغيير أسم "الثورة الاسلامية" الى أسم آخر لا يعني فقط تغيير أسم كيان سياسي بل هو إعلان لعدم صلاحية مفاهيم "الثورة الإسلامية" لعالمنا السياسي المعاصر وإيحاء بعدم إنسجام مفهومها مع الحالة السياسية الديمقراطية الجديدة في العراق، وكأنما هناك تعارض بين مفاهيم "الثورة الاسلامية" وبين المفاهيم الديمقراطية! وقد تسبب هذا الإيحاء بأكبر ضرر في ذهنية المتلقي المسلم الشيعي في عصرنا الحاضر، فكأنما تم تلقين الناس أو الإلقاء في ذهنيتهم تصوّر أنَّه لم تعد هناك حاجة للعمل الاسلامي ومفاهيم الثورة الاسلامية بإعتبار أننا في عصر الديمقراطية! وربما هذا هو السبب في انَّ العديد من "الفرسان الثوريين" تركوا ثوريتهم واتجهوا للإنغماس في العمل السياسي الحزبي بعيداً عن "روح الثورة الاسلامية"، بل وبعضهم أنتقل من قدسية مفاهيم الثورة الاسلامية الى تسافل العمل السياسي ومؤامراته للاستحواذ على القوة السياسية والحزبية واستخدام المال العام لمنافع شخصية أو حزبية والسعي الحثيث للإثراء العام ضاربين بكل مفاهيم الزهد وتأريخهم في التبليغ الاسلامي والدعوة الاسلامية و مفاهيم "الثورة الاسلامية"عرض الحائط! وكان يمكنهم آنذاك إستثمار الحالة الديمقراطية للتأكيد على أهمية مفاهيم الثورة الإسلامية التي يمكن أن تستمر بأدواتها الثقافية الإرشادية والتوجيهية في ظل الحالة الديمقراطية وحرية التعبير التي تكتنف النظام السياسي الجديد. ولكن القوى التغريبية خافت من إستثمار هذه الحالة الديمقراطية في استمرارية مفاهيم "الثورة الاسلامية" فضغطت عليهم لإنهاء تسمية "الثورة الاسلامية" من القاموس السياسي المعاصر في العراق في ظل عصر الاحتلال وما تلاه، وبالتالي إنهاء مفاهيم "الثورة الاسلامية" والتخلّص منها!

ورافق تلك المؤامرة على مفاهيم "الثورة الاسلامية" في العراق أنّ العديد من اولئك "الفرسان الثوريين" المترجلين عن فروسيتهم والمنغمسين في ملذاتهم الحزبية ومنافعهم الشخصية قد شوّهوا صورة تلك المفاهيم المقدسة للثورة الاسلامية، ودفعوا الناس للاستهزاء بمن يرفع تلك التسميات أو يشير إليها متهمين بمحاولة الانتفاع والتكسب غير المشروع بأسم الاسلام وبأسم الثورة والدعوة الاسلامية! فلم تعد لدينا قيادات سياسية صالحة يمكنها ان تقود عموم الاسلاميين والمتدينين دون ان تتعرض لسخريّة المجتمع ورفضه لهم، وهو الرفض الذي انعكس واضحاً في نتائج الانتخابات المتتالية أكثر وأكثر!

ولا يفوتنا الالتفات الى أنَّ القوى الاستكبارية الغربية استثمرت حالة الاحتقان الطائفي والحرب الأهلية آنذاك للضغط على إنهاء مفاهيم "الثورة الاسلامية" - بإعتبار أنَّ هذه المفاهيم والتسمية هي من مختصات الطائفة الشيعية بحسب ظروف التصدّي السياسي للنظام البائد ابتداءً من ثمانينيات القرن الماضي -  في مقابل إحلال السلم الأهلي ومفاهيم العيش المشترك، واستبدال العمل السياسي من مظلّة "الثورة الاسلامية" و"الحزب الاسلامي" و"التنظيمات الاسلامية" الى المظلة الوطنية، فأنتقل شكل الصراع الطائفي من صراع بين أنصار "الثورة الاسلامية" ومفاهيمها و"الدعوة الاسلامية" و"التبليغ والعمل الاسلامي" ضد انصار تنظيم القاعدة والطائفية العشائرية وبقايا البعث ثم تنظيم داعش الذي حمل أسم "الدولة الاسلامية" وما اقترفه من جرائم تحت هذا العنوان المقدّس والذي دفع المعسكر الثاني للانخراط أيضاً تحت المظلة الوطنية! فأنتقل الصراع الشيعي-السني على المستوى السياسي من المظلة الاسلامية الى المظلة الوطنية! فأصبحت الساحة السياسية خالية من أيّة عناوين إسلامية شيعية أو سنية! مما يعني نجاح قوى الاستكبار الغربية في إخلاء الساحة السياسية والإجتماعية من أيّة تطلعات إسلامية أمام الجيل الحالي والاجيال القادمة!!

وكان يمكن في مقابل ذلك إيجاد صيغة توافقية (وطنية-اسلامية) نظراً لظروف المرحلة السياسية التي ذكرناها آنفاً، في ظلّها يتم بناء الوطن دون تضييع مفاهيم العمل الاسلامي والثوري. ولكن هيهات أن يحدث ذلك لأفتقار عموم القيادات السياسية الحزبية والتنظيمية الاسلامية لأرضية النزاهة والزهد التي يمكن أن تشكّل مصداقية في العمل الاسلامي واستمرار مفاهيم "الثورة الاسلامية" أمام المجتمع الذي ضعفت لديه عناصر الايمان بالعمل السياسي الاسلامي وهو يرى الذين يرفعون الشعارات الثورية الاسلامية وقد تكالبوا على الدنيا وفقدوا حتى اخلاقيات العمل السياسي الاسلامي!!

إنَّ الثورة الإسلامية الحقيقية هي التي تستهدف سعادة الإنسان في الحياتين الدنيا والآخرة، فمتى تحقق هدفها هذا يصبح لديها هدف جديد وهو الحفاظ على استمرارية تلك السعادتين، فلا يوجد في ثورتنا الإسلامية مفهوم التوقف أو "التقاعد" أو الإمتناع عن الثورة لـ "وصولها الى الهدف"!

إنَّ ثورتنا الإسلامية الحقيقية في عالمنا المعاصر هي ثورة ثقافية بركنها الأساسي لنشر الوعي الإسلامي وأساليب العيش الكريم في ظل عقيدة إسلامية صافية المنبع.

فهذا العراق العلويُّ في عظمته والحسينيُّ في شموخه، عراق الأئمة الأطهار (عليهم السلام)، عراق الأولياء والصالحين، هل يمكن ان تنتهي فيه مفاهيم الثورة الاسلامية فعلاً؟! هل يمكن أن يركع امام مفاهيم الحداثة والتغريب والخضوع للإرادة الأمريكية في تأسيس هوية أحزابه وهوية السلطة التي تستند إليها الدولة العراقية!

إنَّ الثورة الإسلامية بجميع أبعادها الإيمانية والثقافية والاقتصادية والسياسية يجب ان تبقى مستمرة، وهي فعلاً مستمرة في ضمير المخلصين جيلاً بعد آخر، إنْ شاء الله، لأنها نهضة من اجل الحق ضد الباطل آخذين بجميع ملامحها من ثورة إمامنا الحسين (صلوات الله عليه) ونهضته الخالدة حفاظاً على دين جده المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم). فهي ليست ثورة سياسية مرتبطة بوجود الطاغوت البعثي فتزول إذا زال – رغم انَّ التحدي (البعثي العفلقي - الصدامي) ما زال مستمراً الى جانب تحديات أخرى كظهور داعش وغيرها من الجهات المعادية للإنسانية - بل هي ثورة إنسانية، ثقافية في واجهتها الأولى، وحضارية في واجهتها التالية ثم تأتي المسائل السياسية فيها آخر المطاف لأننا مؤمنون أنَّ الأولوية هي لإقامة المجتمع الإيماني وهو بدوره سيكون الأداة الفاعلة لأية تطلعات سياسية مستقبلية.

وقد تواجه ثورتنا الإسلامية من ضمن ما تواجهه من دعايات مضلّلة أنَّها مسيّرة من قبل الجمهورية الاسلامية في ايران من اجل مصالحها القوميّة، وهذه دعايات لطالما رددها البعثيون والطائفيون من اجل تشويه المسيرة الخالدة للفكر الإسلامي في العراق! ونحن نعلم جيداً أنَّ العراق هو مركز من مراكز الشموخ والأصالة الإسلامية، وامتداده التاريخي وتراثه الحوزوي والعلمائي لا يسمح لأحد بتجييره لمصالحه القوميّة أو الفئوية، كما انَّ ثورتنا الإسلامية شاملة لجميع المسلمين من مختلف مذاهبهم ومشاربهم، إذ أنَّ الغرض منها ليس إقامة الدولة الإسلامية وما يكتنف هذا المطلب من إشكالات بعضها ديني وآخر موضوعي، بل الغرض من ثورتنا الإسلامية هو إقامة المجتمع الإيماني في العراق، وهذا يعني أنَّ جميع الأديان والمذاهب تكون آمنة مطمئنة فيه تمارس إيمانها بما لا يتعدى على وجود وإيمان الآخرين، من اجل الوصول الى الغاية التي أشرنا إليها في المجتمع الإيماني السعيد والمحصّن من الغزو الثقافي الغربي والآسيوي، والرصين والأصيل في إيمانه الديني. فيكون هذا المجتمع الإيماني هو المنطلق الصحيح لمفاهيم الوطنية التي تجمعنا في العيش المشترك والآمن.

فهل من ناهض بثورة إسلامية عراقيّة ثقافية أصيلة تتجاوز الكبوات التي اصيب بها "الثوار السابقون" الذين أحالوا انفسهم الى "التقاعد المبكّر"! أو اولئك الذين تركوا ثوريتهم طمعاً بمناصب دنيوية وإثراء غير مشروع وتكالب دنيوي على السلطة! فالثورة الاسلامية العراقية المنشودة تسعى لإقامة المجتمع الإيماني وهو بدوره الذي ينتج سياسيين مؤمنين بقيم الإيمان - والذي أبرز ركائزه الزهد في المنافع الدنيوية - وممارسين لتلك القيم في عالم السياسة الذي يجب ان يكون هدفه الأول والوحيد خدمة الشعب وإقامة المجتمع الإيماني.

إنَّ المرحلة المقبلة للعمل الإيماني تتطلب ظهور قيادات حزبية مؤمنة متسمة بالنزاهة والزهد في واقع عملها السياسية والاجتماعي. وإلا فإنَّ انحدار المجتمع نحو مستنقع الحداثة والتغريب والرذيلة سيستمر بخطوات أوسع مما هي عليه الآن.


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


نبيل محمد حسن الكرخي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2022/02/20



كتابة تعليق لموضوع : من ذاكرة "الثورة الاسلامية في العراق" وتحديات الواقع
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net