صفحة الكاتب : زيد الحلي

في رده على منتقديه :الجواهري ينتصر للجواهري!
زيد الحلي

 الرجل الذي قدمتهُ في قاعة المنتدى الثقافي العراقي في دمشق  مؤخرا واحد من قلة قليلة عايشت مناخاً ثقافياً عراقياً ، تباينت فيه الرؤى وأختلطت في مناخه الاوراق الثقافية لاسيما الشعرية  في خمسينيات القرن المنصرم .. أنه الدكتور " عدنان سليم "  زميل الدراسة لبدر شاكر السياب ونازك  الملائكة  وعبد الوهاب البياتي ولميعة عباس عمارة وعبد الرزاق عبد الواحد في دار المعلمين العالية .. وهوأحد من العاملين في جريدة شاعر العرب  محمد مهدي الواهري " الرأي العام " في أحدى مراحل أصدارها آواخر الاربعينيات وتحديدا في العام 1948 .

ورغم أتفاقي معه عند أستضافته في المنتدى ، ان يتم التركيز في حديثه على ذكرياته مع الجواهري الصحفي وليس مع الجواهري الشاعر ، إلاّ انه  ولفرط محبته وشغفه بشاعرية الجواهري أنساه ذلك الاتفاق ، فأنسحب الى ضفة الشعر وسط اصغاء ومتابعة الحضور ففوت علينا فرصة معرفة الوجه الصحفي للجواهري ، اول نقيب للصحفيين العراقيين !

د. عدنان غاص في شعر الجواهري وأستذكر قصائد عديدة ، أكد على ملامحها وأستنبط ماأحسه بها من صور ومدلولات ... كان الجواهري حاضراً في تلك القصائد من خلال ترديد الحضور لأبيات الشعر التي ألقاها المتحدث  لاسيما من قبل الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد والفنان جواد الشكرجي ، ما أكد التجاوب الحميم معه ودلل على المحبة  العالية التي يحظى بها الجواهري .، فالجواهري كما نعرف لم يكن مجرد شاعر وإنما كان وجهاً من وجوه الأسطورة ، شريكاً في صنعها ، مثلما كان ضحية من ضحاياها ..

صحب الدكتور عدنان حضور المنتدى الى فضاءات الجواهري ، الانسان ، الشاعر ، الكاتب ، الصحفي  وهي فضاءات غنية في البوح  ... فالحديث عن الجواهري مثل نسمة خفيفة ، تهب لترطب ظهيرة قائضة .

بدأ د.عدنان أستذكاراته بالقول أن مشواره مع الجواهري كان عند عمله في صحيفة " الرأي العام " للجواهري ، ملتقطاً للبرقيات من المذياع ، قبل ان تكون وسائل الاعلام كما هي الآن ، وقد شاهده عن كثب في لحظات تجليه ، وكان شاهد عيان لميلاد بعض ما أبدع من شعر ظل خالداً في ذاكرة الاجيال وأكد انه سمع الجواهري مراراً وهو يردد عبارة بقيت مترسخة في الذهن وهي ان ( العراق يستطيع ان يستغني عن اي واحد منا ، لكن لا أحد منا يستطيع الأستغناء عن العراق )

وقال ان الجواهري ، عبر عن اناس عصره بعبقرية فذة ، وخلق منظومة من الصور معبراً عن أبرز صفاتهم ، عذاباتهم ، أفراحهم ، أندفاعاتهم ، الحب ، البطولة . ان جمهرة هؤلاء الناس ، بدت وكأنها نزلت لتوها الى شاطئ دجلة من سفينة قدمت الى الارض ، من بلاد حيث الحكمة والعواطف الجياشة تملأ الوجود بروعة غير أعتيادية . وكأن شخصاً همس في أذن شاعرنا .. ( تعلم ان تكتب الشعر بشكل يجعل يجعل الروح تبكي من جمال الارض والسماء ).

ان القارئ لشعر الجواهري يلاحظ مجموعة من الصور لحياة العراق بما يوحي رغبتها الانطلاق بزورق في وسط نهر دجلة ، صور فيها  ضحكات الطفال وغناء الفتيات .. كان له امكانية فذة في تجسيده الحي لصورالحياة العراقية .. اليس هو القائل :

 حييت سفحك عن بعد فحييني           يادجلة الخير يا أم البساتين

والجوهري بعد هذا وذاك ، قلب خافق لعالم الخيروالطبيعة ، لكن حبه الأكبركان لوطنه العراق ، وروعته تتمثل في الايمان الراسخ بالمستقبل للناس الطيبين البسطاء ..

ويعرج المتحدث الى نقطة مهمة في حياة الجواهري ، وهي تعرض الشاعر الكبير الى حملات من النقد والتجريح من قبل ( شعراء)  ضعاف النفوس ، لا مكان لهم في عالم الشعر .. فردعليهم في عام 1952 ببضعة أبيات بعنوان ( الجواهري ينتصر للجواهري ) قائلاً :

غذيت بشتمك سيد الشعراء                ديدان أوبئة بغير غذاء

علقت زواحفها بمجدك مثلما              طمع العليق بدوحة علياء

وتهضم الارجاس ذكرك مثلما           ضيم الاريج بجيفة نتناء

من عالم الجبروت نزل عنصر         كان الغريب بعالم الجبناء

كان الغريب بعالم متمخض             عن خائن ومخرب ومرائي

وأنا الفداء لمخلص متعذب               أما الدعيّ ففدية لحذائي

                                 ********

اوالجواهري ، انسان  ملحمي القسمات الذاتية والفكرية ، ملحمي المسيرة ... عاش وخاض وقارع بسلاح الشعر وحده غمار قرن بأكمله وتكاد حياته  ويكاد شعره ان يكون سجلاً ملحمياً ، بطولياً موحداً لمعايشته الدراما الحميمة لهذا القرن ، في ساحاته العراقية والعربية والعالمية ، وفي تناقضاته الزاخرة بالانتصارات المبهرة والانتكاسات الفاجعة ، فبرغم ما عاناه في اوائل سنوات عمره داخل وطنه او مغترباً  خارجه ، فأنه لم يتغرب ابداً عن الوعي بوقائع وحقائق وطنه وأمته العربة وعصره ...
على ان هذه المعايشة الفاعلة الحميمة لوقائع وحقائق عصره لم تعزله عن تراثه العربي القديم . بل كان استمراراً حياً مبدعاً لهذا التراث ، مستلهماً لأعرق وأعمق لحظاته التأريخية والشعرية خاصة . إن شعر الجواهري هو شعرتغيير لا شعر تعبير ، شعر مقاومة ومغالبة لا شعر توصيف ، شعر اجابات مقتحمة ملتحمة لا شعر تساؤلات .. وقال بهذ الصدد :

  انا عامل بالفكر أعمل معولي         في صخرة فأحيلها أشتات

وتكاد كل ايقاعات الجواهري وأوزانه الشعرية ان تكون في معظمها طبول حرب صارخة بالتصادم ، صاخبة بالانفعال والغضب والاقتحام  وإرادة البتر تعجلاً بتحقيق رؤاه وغاياته الوطنية والانسانية..

وعنف وحدة الجواهري لا يأخذ بها الآخرين فحسب من خصوم فكره ووطنه وأمته ، بل يأخذ بها نفسه كذلك ، فبرر استعلائه الشديد إحساساً  بذاتيته التي عبر عنها بقوله :

   كلما حدثتُ عن نجم بدا           حدثتني النفس أن ذاك أنا

وبرغم هذا ، فأنه لا يتوانى عن الاعتراف بنواقصه ، ولعل الجواهري ، أصدق الشعراء في نقد نفسه ، فهو القائل :

      لا أكذبنك أنني بشر          جم المساوئي آثم أشر

الجواهري والمتنبي   

 وأختتم الدكتور عدنان سليم حديثه بالقول ان الكثيرين يؤكدون ان الشاعر المتنبي لا يتكرر لكني أقول انه تكرر في شخص الجواهري وأوجه الشبه بين العبقريين لا تعد ولا تحصى ..واهمها : الجزالة ، عمق المعاني والمقاصد ، المعاناة ، الشموخ ، الكبرياء والاعتزاز بالذات .


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


زيد الحلي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2022/03/10



كتابة تعليق لموضوع : في رده على منتقديه :الجواهري ينتصر للجواهري!
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net