صفحة الكاتب : كاظم الحسيني الذبحاوي

الجزء الثالث من كتاب(معاً إلى القرآن ـ منهج تدبري لكتاب الله من خلال قراءة واعية في سورة الشعراء
كاظم الحسيني الذبحاوي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

 الآيات من 10 إلى 35

 
وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ (11)
المعـنـى التدَبــُّري
خطابٌ منَ الله تعالى متَوَجّهٌ إلى نبيّهِ صلّى الله عليه وآله،فيه شروعٌ بإيراد جانبٍ من مواجهة النبيّ موسى(ع) مع فرعون،الهدف منه إتمام التسلية له صلّى الله عليه وآله.
كما أنّ فيه إنذاراً لقومه، سواءً في زمن النزول أو ما بعده منَ الأزمنة، أن ما يظهر منهم من إعراضٍ وتكذيبٍ واستهزاءٍ؛ إنّما هو امتدادٌ لما حصل في أزمانٍ سوابق،كان أولها،على ما في هذه السورة، هو ما وقع في زمان موسى(ع) . 
ويظهر من الآية الأولى إثبات الظلم إلى قوم فرعون،بينما في الآية الثانية نفي التقوى عنهم . 
ثم أن الفائدة من إيراد مادّة (نداء) دون غيرها لتبيين حقيقة أن الواسطة بين الله سبحانه،وبين نبيّه موسى(ع)هي النداء .أما قوم فرعون،فالظلم أمرٌ معهودٌ منهم بقرينة مجيء(لام)العهد عند قوله (الظالمين)،فصاروا بسبب ذلك لا يتّقون،ثم نسَبَتهم الآية إلى فرعون نفسه ،لأنه يتقوّم بهم،وهم يؤازروه؛ولولا ذلك لما تمكّن من بسط الظلم بادعائه الربوبية والإلوهية.وهذه فائدة كون(قوم فرعون)عطف بيان على(الظالمين)، أو أن إحداها بدل عن الأُخرى .
قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ (13) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنبٌ فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ (14)
المعـنـى التدَبــُّري              
الآيات الثلاث أظهرت خوف موسى(ع)من أربعة أشياء ذكرها في كلامه وهي: التكذيب، وضيق الصدر،ونفي انطلاق اللسان،ثُمّ القتل. 
ونراه صلوات الله عليه قدَّمَ ما يتعلّقُ بضمانِ إيصال الرسالةِ السماويّة على ما هو متعلِّقٌ بسلامةِ شَخْصِهِ؛ وأعني به: خوف القتل. 
وعلى أيٍّ؛ فإنَّ تَوَجُّسَـهُ ممّا ذَكَرَهُ،إنّما هو انعكاسٌ لما يقومُ به فرعون وقومه من ترهيبٍ للذين يخرجون على القانون الفرعوني؛فكيف بمن يدَّعي أنّه رسولٌ من رَبٍّ غير فرعون ؟
وقد نسبت الآيةُ ضيقَ الصدر إلى موسى(ع)نفسه بقولها:ويضيق صدري، وهذا يعني أن الضيق يحدث بعد السعة التي كان فيها،وهو تعبيرٌ عن الغيرة على الرسالة،بسبب احتماله وقوع التكذيب،ونفس الشيء يُقال على عدم انطلاق اللسان،لأنّه ترعرع في قصور فرعون فـترة ليست بالقصيرة ،وتسنّى له التعرّف على أدقِّ التفاصيل، ثُم في الآية إشارة إلى حاجة الرسول؛أيَ رسولٍ إلى مزيدٍ من التصبّر والإمداد الروحي، في قبال سعة حجم تكذيب الفراعنة وأقوامهم الذين يؤازروهم ،ولذا أردفه بالطلب من الله تعالى أن يَجعلَ أخاه هارون رسولاً معه. قال تعالى:( وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ [القصص : 34]
ولقد عرضت لنا سورة طه هذا المطلب بوضوح حيث قالت: 
 
(قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي @ وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي @ وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي @ يَفْقَهُوا قَوْلِي @ وَاجْعَل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي @ هَارُونَ أَخِي @اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي @وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي @ كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً @وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً @ إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيراً @ قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى@)[طه:25ـ36]
 ذلك أن على الرسول أن يُهيِّئَ الوسائل اللازمة،التي يجب أن تستمد قوَّتها وفاعليّتها منَ الرسالة التي يحملها،لإيصالها إلى المخاطبين بها .ومن هذه الوسائل،الوسيلة الإعلاميّة المعبَّر عنها في الآية بـ(اللسان)، ذلك أن الإعلام المتطوّر قادرٌ على التعامل مع المخاطبين بما يساهم مساهمة كبيرة في إيصال الخطاب المقصود ببساطة ووضوح،في خضمّ الأجواء المزدانة بالضيق،نتيجةً لتوغّل الفراعنة في التأثير على الناس واستمالتهم،إضافة إلى ممارسة التخويف والتقتيل بحقّ الذين يُعارضوهم،وهو ما كان يحصل بالضبط من جانب فرعون. 
 هذا من جانب، ومن الجانب الآخر؛فإن الرسول يحتاج إلى المؤازرة لتأدية رسالته ،لئلاّ يُتوهم أنه من جنس الملائكة،وتلك سُنّةٌ إلهيّة جرت في الأوّلين، وتجري في الآخِرين قال تعالى:( إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُم مُّرْسَلُونَ [يس : 14] .
ومن تطبيقات هذه السُنّة الإلهيّة ما جاء عن النَّبيّ الأعظم  صلّى الله عليه وآله من حديث المنزلة المعروف الذي يرويه المحَدِّثون في مسانيدهم ،كما يذكـره محمّد بن إسماعيل في صحيحهِ هكذا:« حَدَّثني محّمدُ بْنُ بَشار: حّدَّثَنَا غُنْدَرٌ: حَدَّثَنا شُعْبَةٌ،عن سعدٍ قال:سمعت إبراهيمَ بْنَ سعدٍ عن أبيه قال:قال النَّبيُّ لِعَلِيٍّ:أما ترضى أن تكون مِنّي بِمَنْزِلَةِ هارون مِن موسى»( [1]). 
والمُلاحَظ في هذه الآية أنها لم تُصَرِّح بِمَ يتعلّق خوف التكذيب ،وهو المفعول به في الجملة، لكن السياق يقرر أنه الرسالة ذاتها، خيفة أن يعتريها تقهقرٌ أو إجهاضٍ من لدن فرعون وقومه؛ ألاَ ترى أنه(ع)لم ينسب التكذيب إلى نفسه بأن يقول: أخاف أن يكذّبوني ؟ 
ولكن البعضُ يذكر أن السبب في ذلك هو مراعاة فواصل الآيات ( [2]). وهو وإن كان له وجهٌ؛ إلاّ أنه لا ينهض بمفرده أن يكون سببٌ لذلك . 
أما خوف القتل فيتعلّق بشخصه(ع)نتيجة لمقتل القبطي بسبب الوكزة التي ذكرتها سورة القصص،وقد عبّرت عنها الآية بـ(الذَّنب)مراعاةً لما كان يعتبره فرعون كذلك.وهذا الخوف الذي اعترى موسى(ع)، إنّما ينطوي على خوفٍ على الرسالة ذاتها بصفته حجّة الوقت ،وليس من الحكمة أن يُعرّض للقتل المحتمل، وهو بعدُ لم يقم بإيصال رسالته . 
قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُم مُّسْتَمِعُونَ (15) فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (17)
- بحثٌ لغوي –
قال العلاّمةُ الطباطبائي:«كلاّ للردع وهو متعلّق بما ذكره من خوف القتل»( [3]).  
وقال العلاّمة الطبرسي: « وهو زجرٌ أي لا يكون ذلك»( [4]).وذكر مثلهما العلاّمة الزمخشري( [5])، والعلاّمة محي الدين الدرويش( [6]).  
ولبيان ذلك أقول : إن ما تسالمَ عليه الأُدباءُ وأربابُ اللغةِ، من إعطاء معاني خارجية أرادوا لها أن تتطابق مع ما أراده الله تعالى لمعاني المفردات الواردة في الآيات الشريفات غير معتبر على إطلاقه ؛ إذْ أن التسالم ذاك يعطي دلالة المقاربة حسب، فالإصرار عليه كاشف عن عزل آيات السورة عن قضيّتها،عليه لا يصح غضُّ الطرف عن الظِلال الثقيلة التي تُلقيها قرائن المقام على كلّ مفردة على حِدة، فضلاً عن المقاربات التي تُؤخذ من قرائن خارجيّة ،فلا يوجد معنى مشترك لنفس المفردة حينما تتنوّع مقاماتها عند هذه الآية أو تلك . 
فعند النظر إلى الأداة(كلاّ) في هذه الآية نجد أن المذاق يبتعدُ كل البعد عن إرادة الردع أو الزجر ونحوهما، ولاسيّما بعد ملاحظة الاعتبارات التالية : 
الاعتبار الأول : عدم وجدان مقتضي الردع في المقام بعد تقرير السياق أن ما ذكره موسى(ع)ليس فيه تمرّدٌ أو عصيان تجاه الأمر الربوبي، وقد أشار إلى ذلك العلاّمة الطباطبائي نفسه( [7])؛بل إننا نجد ما ورد في الآيات12،13،14 من هذه السورة هو من الدعاء الذي أعقبته الاستجابة التي تظهر من هذا السياق ومن غيره كما مرَّ معنا في الآيات  25- 36 من سورة طه . 
الاعتبار الثاني:لو كان التكليف بإتيان فرعون طرأ على موسى (ع) وهو لم يكن يعلم به من قبل،لصحَّ أن يُقال:إن هذا الموضوع تكتنفه العشوائية أو التخبّط ولصدَرَ عنه ما يكون مقتضياً للردع أو الزجر، لكن هذا ضروري البطلان لِما جاء في قوله تعالى:( للّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ) [الأنعام : 124]
ثم أن هذا التكليف سبقته مقدمات كثيرة مَثَّلت الإعداد والتهيّئة له ،تظهر بوضوح من عددٍ من الآيات الشريفات كقوله:( وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ [القصص : 14] .  فإتيانه الحكم والعلم يحجز عمّا يكون باعثاً على الردع والزجر . أو قوله تعالى: (قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى @ فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى @ قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى @ وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى @ لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى @ اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى @ قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي @ وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي* وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي @ يَفْقَهُوا قَوْلِي @ وَاجْعَل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي @ هَارُونَ أَخِي @ اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي @ وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي @ كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً @وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً @ إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيراً @ قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى @ وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى@) [طه 19 ـ 37] .
الاعتبار الثالث: ثُمّ أن الردع لا يتناسبُ مع مقام الإخلاص والرسالة والنبوّة التي ورد ذكرها في قوله تعالى:( وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصاً وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً [مريم : 51] .
الاعتبار الرّابع:  قوله في الآية 16 : فأتيا فرعون، فيها دلالة واضحة على الاستجابة لدعائه(ع) الذي أوردته الآية 13 من السورة : فأرسل إلى هارون ، معنى ذلك عدم الحاجة إلى الردع أصلاً. 
 الاعتبار الخامس: ثم أن فيها بيان لعقيدة نفي مغلوبيّة رُسل الله من قبل الطواغيت أمثال فرعون.قال تعالى:( كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [المجادلة : 21].
هذا؛ وقد ذكرنا عند الحديث عن الآيات 12،13،14 من هذه السورة ،أن موسى(ع) قدّم فيها ما يتعلّق بالرسالة على ما كان يتعلّق بشخصه، على هذا أن ما ذكروه لا وجه له .   
بحثٌ متممٌ في معنى(كلاّ)
قال في المغني:« ورأى الكسائي وأبو حاتم ومَن وافقهما أن معنى الرَّدع والزَّجر ليس مستمرَّاً فيها ،فزادوا معنىً ثانياً يصح عليه أن يوقف دونها للكسائي ومتابعيه، قالوا : تكون بمعنى حقّا، والثاني لأبي حاتم ومتابعيه ،قالوا بمعنى إلاَ الاستفتاحية، والثالث للنصر بن شميل والفرّاء ومن وافقهما،قالوا:تكون حرف جواب بمنزلة إي ونعمْ،وحملوا عليه(كلا والقمر)( [8]) فقالوا:معناه إي والقمر...»( [9]) .  
هذا..  
وقد جاء التعبير بالذهاب عند قوله : اذهبا ، لما في معنى فعل الذهاب من احتمال المشقة بنحو التصوّر الذهني عند المأمور به،أو بنحو المشقّة الحقيقيّة،ولذا وردت في الآية الاستعانةبـ (آياتنا)،بقرينة(باء) الاستعانة. معنى ذلك أن فيها تيسيراً لهذه المهمة الصعبة التي يضطلعُ بها حجّتا الله موسى وهارون(عليهما السلام).وستأتي الإشارة إلى هذه الآيات في مبحث قادم إن شاء الله تعالى .  
أما التعبير بالإتيان عند قوله: فأتيا ،تفريعٌ عن اذهبا، وما في معنى فعل الإتيان من سهولةٍ ويُسرٍ؛فهو تفسيرٌ لمعنى التيسيرالذي تضمنته الآيات التي آتاها الله تعالى إلى حُجَّتيه موسى وهارون (عليها السلام)، إيصالاً لرسالة ربّ العالمين. إضافة إلى المعيّة الإلهيّة،وما فيها من تطمينٍ لهما بالغَلَبَة . 
المعـنـى التدَبــُّري              
في الآية الخامسة عشرة أمر الله تعالى كلاًّ من موسى وهارون(عليهما السلام)بالذهاب إلى فرعون بالآيات،كما صرّحَ بذلك قوله تعالى:( اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي @ اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى@) طه : [42 ـ 43] 
أمّا الآيات فهي تسع آيات كما ذكرها القرآن في موضعين،أولهما : قوله تعالى:  (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَونُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُوراً [الإسراء : 101] .
وثانيهما: قوله تعالى:( وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ [النمل : 12] 
أما الآية السادسة عشر؛فأن فيها أمران:- الأمر الأول: أن يأتيا فرعون. أي بما أنّه فرعون الذي يدّعي الربوبيّة العليا،كما يدّعي الأُلوهيّة.ومن هنا تبدو حسّاسيّة الموقف وصعوبة المواجهة التي سيُكابدها كل من موسى وهرون(عليهما السلام)؛ففرعون لم يعهدْ هذا الإتيان،لا هو ولا مَلَؤُهُ ولا الأقباط،ولا سيَّما من مِثْلِ هذين الإسرائيلييَن وقومهما لهم مستعبَدون، ويُذيقونهم شتى صنوف الإذلال .
الأمر الثاني:أن يقولا له:إناّ رسول ربّ العالمين.وهو كفرٌ صريحٌ بربوبيّة فرعون،وما يُظهره من الكفر بمنظومة القيَّم الّتي أَلِفَها الأقباط ؛الّذين يدعوهم موسى(ع)إلى ربٍّ لا يعرفونه،أو أنَّهم لا يُريدون ذلك  ،لهذا فإنَّ ردَّ الفعل سيكونُ قويّاً من الجَميعِ ؛إذْ سيحشدون طاقاتهم لمواجهة هذا الخطر القادمِ إليهم من داخل القصور نفسها، وبالمقابل فإن عزم موسى وهرون(ع)سيشتدّ إتماماً لهذه المهمة الإلهية الكبرى، وذلك ما ستتكفّل بِبَيانهِ الآيات اللاَّحقات .
فإن قلت: لماذا عبَّرَتِ الآيةُ بقولها(رسول)وهما اثنان لا واحد،كما عَبَّرَ عن ذلك قوله تعالى:( َأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى [طه : 47]؟
قلت : إن الآية عبَّرَت عن موسى وهارون(ع)بأنَّهما صارا كنفسٍ واحدةٍ، وكان ذلك استجابة لدعاء موسى(ع)،وقد مضى الكلام فيه . فالعلاقة الإلهية بينهما(ع) صارت هكذا، أي بمنزلة الرسول الواحد ، وإن كانا اثنين .
أما الآية السابعة عشر فإن فيها بيان للغاية من الذهاب بالآيات وإتيان فرعون، وهذه الغاية هي : إرسال بني إسرائيل،وقد أُستُعملت في المقام مادة (رَسَلَ) وجاءت بصيغة الأمر إلى فرعون : أن أرسِلْ معنا بني إسرائيل . ورُبَما تكون الفائدة منه: هي أن الرسول ؛ أي رسولٍ لابُد أن يحمل معه رسالةً منَ المُرسِل له إلى المُرسَل إليهم ،والرسالة قد تكون مادّة حسِيَّة، أو تكون دِلالِيِّة ،والإرسال في المقام يحتمل تحقق الوجهين معاً؛ الأمر الذي يَشُقُّ على فرعون فعله، ذلك أن إرسالهم سيكون مع كلٍّ من موسى وهارون(ع) على هيئة وفدٍ مرسلٍ من لدن الحكومةالفرعونيّة ،يُشعر بإذعان فرعون إلى الرَّب الذي يدَّعيه موسى(ع) ،ولا سيّما أن عدد الإسرائيليين في مصر آنذاك كان ستمائة وثلاثون ألفاً على ما يذكره العلاّمة الآلوسي في تفسيره نقلاً عن البغوي( [10]).
فلو تم إرسالهم على النحو الذي قرره موسى(ع)، فإنه يُنذر بوقوع اضطراب ملحوظ في مملكة فرعون بأقل تقدير؛ ثم لم يأتِ هذا الأمر بنحو: فك رقابهم من الرقّ والتعبيد ،أوْدَعْهُم يذهبون إلى أرض آبائهم أورشليم،لأنّه لوتمّ على هذه الطريقة فإنه يعني أن فرعون عفا عنهم ،أو عطف عليهم، فجعلهم أحراراً؛ وهنا يمكن أن يلتبس الأمرُ على الكثير، فيقال،أن فرعون نِعْمَ الرَّب عطف على رعيَّتِهِ ،أو بنحو ذلك. لكن موسى(ع) يسعى لإبطال هذه العقيدة ،لأن الإسرائيليين كباقي البشر،لم يخلقهم الله ليكونوا عبيداً لفرعون من دون الله تعالى .
وبنو إسرائيل في الآية هم قوم موسى وهارون(ع)، وجاء ذكرهم في الآية بنحو الإطلاق ،أي جميع الإسرائيليين الذين هم تحت سلطة فرعون والأقباط، ويستوي في ذلك مَن هم قابعون في سجونه، ومَن هم في خارجها، لأن الجميع يرزحون  تحت نير الإذلال الفرعوني . 
بحث دلالي     
 ولهذا فأنّ النَّبيَّ الأعظم صلّى الله عليه وآله حينما كان يبيّن نمط العلاقة الإلهية بينه وبين أمير المؤمنين(ع)، كان يبيّنها على هذا النحو؛ فنجده صلّى الله عليه وآله يقول له : أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا ّ أنه لا نبيَّ بعدي( [11]).
وهذا يعني ،وفي جملة ما يعنيه : إشتراك أمير المؤمنين(ع)بمعيّة النَّبيّ صلّى الله عليه وآله في جميع مسائل التبليغ للرسالة الإسلاميّة ،وبعبارة أُخرى: إن أمير المؤمنين(ع)هو الشخص الثاني في الهيكل التنظيمي للدولة الإسلامية التي يقود أعباءَها وفعّاليّاتها النَّبيّ صلّى الله عليه وآله. قال تعالى:( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً)[البقرة : 143] .ففي هذه الآية إرساءٌ للهيكل التنظيمي الذي يتربع على قمّته الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله، ويليه الإمام أمير المؤمنين(ع)الذي هو مصداق للأمة الوسط في المرتبة الثانية،ليمارس دور القيادة البديلة ،أو قيادة الظل-كما يُعبّر اليوم- أما الناس فهم المكلّفون بمختلف مراتبهم. فلا عجب أن يأمرَ اللهُ تعالى نبيَّهُ صلّى الله عليه وآله بأن يُعلن أمام الملأ من نصارى نجران :إن عليَّ بن أبي طالب(ع) هو نفسه. قال تعالى:( فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ [آل عمران : 61] .
فكأنَّ الآية محلَّ البحث بمنزلة الشاهد على قول النَّبيِّ(ع) في حديث المنزلة المار ذكره ،ولعلَّنا نجدُ ذات المعنى قد أشارت إليه آيات أُخر،كما في قوله تعالى:   (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَكَفَرْتُم بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ @ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ @ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَاماً وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ لِّسَاناً عَرَبِيّاً لِّيُنذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ*) [الأحقاف : 10 ـ12]
فهذا الخطاب الذي تطفحُ منه لهجةُ الإنكار الشديد في هذه الآيات، متوَجِّهٌ إلى العرب بقرينة(لساناً عربيّاً) لأنَّهم يعقلوه ،وبوسعهم أن يُدركوا مغازيه ،لكن فئة منهم ،في الأقل، كفرت بهذا الذي هو من عند الله (إن كان من عند الله وكفرتم به)؛ بل قالوا (لو كان خيراً ما سبقونا إليه) استكبارا منهم،ثم قولهم:(هذا إفك قديم) ولكنّ إسرائيليّاً شهد وآمن(وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم) 
هذا . .
وأحسبُ أن أيلولة جملة(على مثله)، وهي موضوع الشهادة في المقام، تكون إلى هذه القضيّة الحسّاسة ؛ وأعني بها : منزلة أمير المؤمنين على بن أبي طالب(ع)منَ النَّبيّ صلّى الله عليه وآله كمنزلة هارون من موسى(ع)، وذلك بدلالة قوله تعالى: ومن قبله كتاب موسى.وبهذا تكون استقامة عودة الضمير المفرد الغائب في(مثله) إلى أمير المؤمنين(ع)؛ فهو مثل هارون(ع)إماماً ورحمةً،وما في هذا القرآن جاء مصدِّقا لما كان في التوراة(وهذا كتاب مصدِّق لساناً عربيّاً) . 
قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (19) قَالَ فَعَلْتُهَا إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ (22)
توطئة
الآيات الخمس تعرض حواراً جرى بين موسى(ع)،وبين فرعون وموضوع المحاورة يتعلّق بشخص موسى وحده من خلال ذِكْرِ بعض الوقائع التي وقعت في قصر فرعون نفسه،كالتربية عنده ،ثُمّ حادثة قتل القبطي، وهي أمورٌ جرت على موسى(ع)دون هارون(ع). هذا وقد عرضت الآيتان الثامنة عشر والتاسعة عشرة ما قاله فرعون لموسى(ع) ،بينما عرضت الآيات الثلاث الأُخر ما قاله موسى(ع) لفرعون .
أوّلاً: التدبر فيما قاله فرعون.  
قوله : ألم نربّك فينا وليداً، ولبثت فينا من عمرك سنين ؟ 
الهمزةُ للاستفهام، وغايته الإنكار،وسببه إثبات تربيته لموسى(ع)، وهو ما لا يسعُ أحدٌ نفيه.أما الباعث عليه فهو مجيئه إليه هكذا كافراً بربوبيته حاملاً له رسالة ربّ العالمين .على الرغم من كونه هكذا،أي أنه تربّى في كنفه منذ أن كان وليداً، وقوله:(نربّكَ)و(وليداً)يلزمه حصول الزيادة، أي أنّك تلقيْتَ تربيتك في كنفنا وليداً إلى أن بلغت مبلغ الرجال،وقرينة ذلك قوله: ولبثت فينا من عمرك سنين، فنحن الذين ربيّناك عندنا وأنت في المهد وليداً؛ ومَن يكون حاله هكذا لا ينبغي له أن يفعل الذي تفعله؛ وإنما يدينُ بدين المنعم عليه ،وكأنه أراد استمالة موسى(ع)،وبطريقةٍ في الكلام تُشبه المعاتبة اللّينة التي تكون بين الأب وابنه العاق، مقرونة بالتوهين من جهة أن ما جاء به موسى(ع)كبيرٌ عليه .
قوله : وفعلت فَعلتك التي فعلتَ وأنت من الكافرين ؟ 
الفَعلة التي قَصَدَها فرعونُ في قوله هذا : هي موت القبطي من جرّاء الوكزة التي وكزه بها موسى(ع)وما أعقبها فرارُهُ من مصر إلى مَدين على تفصيل ذكرته سورة القصص، ولعلّ الباعث الذي دعا فرعون لتسميَة مقتل القبطي ، فَعْلَة هو :
1-صرف مجرى الحوار صوب موضوع لا علاقة له بالدعوة التي جاء بها موسى وهارون(ع)،نتيجة لتيَّقن فرعون من عزمهما على المضيّ في إبطال ربوبيَّته التي ادَّعاها، وهو المستفاد من جملة من الأخبار التي ذكرت كيفيّة دخولهما(ع)على فرعون .
2-تهويل شأن قتل القبطي، وذلك بجعله جريمة فعلها موسى(ع) بإصرار وتعمُّد منه، حتّى وكأنَّه أراد تأكيد وجود عداء مستحكم بين الإسرائيليين وبين الأقباط.بُغية الضغط على موسى(ع)لينصرف عمّا أتى به من الدعوة إلى ربٍّ غير فرعون .
أما قوله وأنت من الكافرين، فيمكن تقريب معناه إلى المُراد من خلال أحد هذه الوجوه : ـ
الأول: إن الجملة حاليّة، أي أن النعم التي أنعمتُ بها عليك وأنت من طائفة ما زالت على كفرها بربوبيّتي ؛وهم الإسرائيليون، وقد أراد بذلك تأكيد الإنعام عليه، ليُثنيه عن عزمه . 
فإن قلت: إذا كان فرعون يعلم بموسى أنه إسرائيلي،فَلِمَ لم يقتله حينما التقطه آل فرعون؛ وهو بعدُ وليدٌ في التابوت ؟
  قلت: يُحتَمل أنه عمل بمشورة امرأته، كما جاء في قوله تعالى:( وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ [القصص : 9] .
فهي التي حملته على إبقائه حيّاً، وتلك سُنَّة الله التي قضت بحجز الطواغيت عن أن ينالوا حجج الله بسوءٍ،وقد جرت في الماضين ،وتجري في الآخرِين .
الثاني : يقترب المعنى من المراد على تقدير وجود محذوف في الجملة، بنحو:صرتَ . أي أنه صار من الكافرين بعد أن قتل القبطي، لأن الكفر في المقام تعلَّقَ بالفَعلة التي نسبها إليه ،أي أن فعلتك هي التي صيَّرتك من الكافرين؛إذْ لو لم تقع واقعة القتل هذه لما كان في حسباني أنك هكذا. الثالث : إن الذي يفعل ما فعلتَ من قتل القبطي، لابدَّ أن يكون منَ الكافرين،وإلا ّ لم يكن كذلك .
ثانياً: التدبّر فيما قاله موسى(ع) 
إقرار موسى(ع) بالفَعلة :ويظهر ذلك من قوله:فعلتها إذاً، وقد جاء إقراره بها جواباً على كلام فرعون: وفعلت فعلتك ؛إذْ لا يسع  موسى(ع)إنكار هذه الواقعة التي شكَّلت الحوادث بعدها منعطفاً خطيراً واجههُ بكل صلابة وحزم،ذلك ما سيأتي بيانه في المباحث الآتية .
 أمّا قوله:وأنا من الضّالّين، وهو أهمُّ مادَّةٍ للتدّبّر في سياق هذه الآيات؛ أثارَ جَدَلاً ما يزالُ قائماً عند الكثير منَ المفسِّرين،لارتباطهِ بقضيّة عقائديّةٍ حسَّاسَةٍ؛وهي قضيّة عصمة حجج الله (ع) .
 وقد دار الجدل حول مقصود موسى(ع)من إقراره بالضَّلال ،فمن قائلٍ يقول: الضَّلال في المقام بمعنى الجهل، وآخر يقول:الضّالين بمعنى المخطئين ،وثالثٍ يقول: الضالين بمعنى الذّاهبين عن الصواب ورابع يقول:الضّالّين بمعنى النّاسين،ثمّ خامسٍ يقول:الضّالين عن النُّبوّة،أي لم يُوحَ إليَّ تحريم قتله،و مؤدّى هذه الأقوال واحد، وهو عدم العصمة .
والملاحظ أن حديث الآيتين عن كلٍّ من(الكفر)و(الضَّلال)كانت مناسبته موضوع(الفَعْلة)الّتي نسبها فرعون إلى موسى(ع)حينما خاطبه قائلاً:وفعلْتَ فَعْلَتُك التي فعلتَ ،وكذا الحال بإقرار موسى(ع) بصدورها عنه .
 ويمكن حمل مراده من الضَّلال هو أن الوكزة التي يتعرّضَ لها الإنسان، ما كان لها أن تُودي بحياته عادةً على النحو الّذي حصل للقبطي نتيجة استغاثة الإسرائيلي بموسى(ع)،وفي ذلك ردٌّ صريحٌ لوصفها بالفعلة من جانب فرعون.
ثُمَّ ليس أدلُّ على ذلك ممّا قاله موسى(ع):ففررت منكم إلى آخر الآيتين؛ فهو يريد أن يُلقي على مسامع فرعون والملاء من حوله:إن توصيفكَ لقتل القبطي أنه فَعلة فعلتُها ،كان توصيفاً خاطئاً لسببين: (الأول): إنني لم أتعمد قتل القبطي؛بل إن موته حصل اتفاقاً على الرغم من أنه مستحقٌّ للمعاقبة .
(الثاني) : حينما فررتُ منكم كان فراري إلى ربّي الله الذي لم يعتبرني كافراً ولا ضالاًّ؛ بل وهبَ لي حُكماً وجعلني من المرسلين. وهذا يعني: إنني مربوبٌ لربّ العالمين لا إليك يا فرعون،وسأكون عمّا قريب حاكماً على هذه البلاد وغيرها. قال تعالى:( إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) [المائدة : 44]
أما قوله : وتلك نعمة أنعمت بها إلى آخر الآية الثانية والعشرين، فهي بالحقيقة جواب موسى(ع)على قول فرعون:ألم نربّك فينا إلى آخر الآية الثامنة عشرة.وقد ساق جوابه مساق السؤال، إمعاناً بالتهَكُّم ِ على خصمه اللدود فرعون،وكيف لا، وقد طفح التصغير والتحقير من كلامه(ع)لِما عَدَه فرعون أنها نعمة يمكن أن يمنّ بها عليه . وهذا هو دأب الفراعنة ،إذ يلجئون إلى إثارة الغبار تغطيةً لجرائم القتل والإبادة الجماعية التي تقوم بها أجهزتهم القمعية وبإشراف مباشر منهم تصفيةً للمستضعفين. وذلك برفع الشعارات المضلِّلَة كرعايتهم للأُمومة والطفولة ونحو ذلك .وهو ما كان يفعله فرعون  حينما رفع شعار : ألم نربّك فينا وليداً. ولهذا نجد أن موسى-ع-أسقط هذه المحاولة التي استهدفت التعتيم على الحقائق حينما قال له:وتلك نعمة تمنُّها عليَّ أن عبَّدت بني إسرائيل،أي أنّك ربَّيت إنساناً واحداً في قصورك التي بنيتها على أكتاف آلاف المستضعفين من طائفتي؛الذين قتلتَ الآلاف منهم أيضاً، فما نفع هذه التربية بإزاء ما تقوم به ؟ أضف إلى ذلك، فيه تأكيد لإرسال بني إسرائيل إلى أُورشليم مع موسى وهارون(ع)، وهو جوهر القضيّة التي جاءَ بها . 
والملحوظ أن فرعون سرعان ما انتقل في حديثه إلى قضيّة أساسيَّة أشدّ خطورة من مسألة التربيّة واللبث في القصور،وأعني بها : قضيَّة مقتل القبطي،وهي الحادثة التي كانت سبباً مباشراً في خروج موسى(ع)من مدائن فرعون، ممّا حدا به أن يؤجّل الإجابة على ما ذكره فرعون أولاً، ليشرع في الجواب عن حاثة القتل، بَدَلاً منَ الحديث عن مسألة التربية . 
 
 
 
بحث دلالي
أن الُحكمَ في الأرض أمرٌ وهبي ؛ أي غير كسبي ، يجعله الله تعالى إلى من يشاء من عباده .والمراد به غير النُّبوة ، ذلك أن الآيات الشريفات قد فرَّقَت بين الحكم وبين النُّبوة، كما جاء في الأمثلة القرآنيّة الآتية:- 
1ـ (مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَاداً لِّي مِن دُونِ اللّهِ وَلَـكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ) [آل عمران : 79] .
2ـ(أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكاً عَظِيماً) [النساء : 54] .
3ـ (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً)[النساء : 58].
4ـ (إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً) [النساء : 105] .
5ـ (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ) [المائدة :50 ]. 
6ـ (أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَـؤُلاء فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ) [الأنعام : 89 ] . 
7ـ (وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ) [الجاثية : 16] .                                    
  فالحكم في الآية محلّ البحث لا يعني النُّبوّة ولا الحِكمة ؛بل يعني إقامة  العدل والحق بين الناس في عالم الدنيا من قبل مَن يُنَصِّبَهُ الله تعالى، وهو ما يقتضي إرساء حكومة العدل الإلهي في الأرض، ذلك أن الله سبحانه قضى أن لا يُخلي أرضه من حجَّةٍ يُقيمه مثابةً على خَلقه( [12])، هذا المعنى الذي ذكره القرآن في بعض آياته : -
 1-(يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ) [ص : 26] . 
2-(لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحديد : 25] .
على هذا فإنه لا مشروعيَّة لحاكمٍ يحكم المسلمين خارج ما أرساه النَّبيّ الأعظم صلّى الله عليه وآله في حديث الثَّقلين ، حيث إن من أصدق وأقرب مصاديق التمسّك بالقرآن والعترة، هو الحكم بما أنزل الله تعالى.
قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23)
المعـنـى التدَبــُّري                        
قول فرعون هذا يُبيّن انقطاعه عن الخَوض في محاولة استمالة موسى عاطفيّاً بإثارة مسألة البِنُوَّةِ عنده ،ثم إخفاقه بالتأثير عليه ليتراجع عن دعوته، من خلال اعتقاده بجدوى تهييج عقدة الشعور بالذَّنْبِ عنده من جرّاء حادثة مقتل القبطي، وصولاً إلى تصغير موسى(ع)،ومن ثَمَّ تصغير وتحقير مراده متمثِّلاً بسؤاله له : وما ربّ العالمين ؟ 
هذا، ويحسن بنا أن نقف على الباعث الذي جعل فرعون يسأل : وما ربّ العالمين، فهنا بواعث أربعة :- 
الباعث الأول:- استدراج موسى(ع)في أثناء عمليّة الحوار لكي يتسنى له إجهاض الدعوة إلى ربّ العالمين ،استكباراً واستهزاءاً ؛وهو باعثٌ راجحٌ يؤكِّده الكلام الوارد في قوله تعالى:( وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ @ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِباً وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ @) [ غافر: 36 ـ 37] .
الباعث الثاني:- التهكّم على موسى(ع)إسقاطاً لشخصه في أعين الملأ حوله، حفاظاً على هيبته أمامهم ،لأنّه أعلن في الأقباط أنه ربّهم الأعلى (فَحَشَرَ فَنَادَى @فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى)[ النازعات :23 ـ 24] .وهذا يقتضي إنكار أي دعوةٍ للربوبية تكون إلى غيره . 
الباعث الثالث :- خلاصة ما ذكره العلاّمة الطباطبائي من أن فرعون متعجّبٌ من الدعوة إلى ربّ العالمين ،لأنه من أهل الأوثان الّذين يعتقدون بتعدد الأرباب،واستقلال كلّ ربّ بعالّمٍ منَ العوالِم،وفرعون ربّ لأهل مصر وما جاورها، وان الله واجب الوجود ربٌّ لا يمكن إدراكه، لأنه ربٌّ لعالَم الأرباب فقط( [13]). 
الباعث الرابع:- ما ذكره أبو البقاء العُكبري:«قوله[وما ربّ العلمين] إنما جاء بما لأنه سأل عن صفاته وأفعاله:أي ما صفته وما أفعاله، ولو أراد العَين لقال مَن،ولذلك أجابه موسى عليه السلام بقوله[رب السماوات] وقيل جهل حقيقة السؤال فجاء موسى بحقيقة الجواب»( [14]). 
قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إن كُنتُم مُّوقِنِينَ (24)
المعـنـى التدَبــُّري              
قول موسى(ع) في هذه الآية جواباً على استفهام فرعون وفيه : 
1- جاء على هيئة خطاب ألقاه على مسامع الجمع الذي يُحيط بفرعون بدلاًلة ضمير المخاطبة(كنتم)،والسبب في ذلك هو أنه(ع) مأمورٌ بإتيانهم شروعاً بهذه المواجهة التاريخية الكبرى : أن ائتِ القوم الظالمين؛ قوم فرعون الآية. ومعناه أنهم المخصوصون بهذا الخطاب الربوبي، أن فرعون يتقوّم بهم،ويشتدّ عزمه بوجودهم معه ،هم دعامته الأولى ويده الباسطة ظلماً على الإسرائيليين؛ ألا ترى أن موسى(ع)لم يقل في جوابه بنحو: إن كنت موقناً يا فرعون؟هذا ما يُعطيه ظاهرالآية. 
2-خطابٌ طافحٌ ببراعةٍ في البيان، وبساطةٍ في التركيب ؛ليس فيه زيادةٍ مُمِلَّةٍ ، ولا نقيصةٍ مُخِلَّةٍ حتّى تتم الحجّةُ على أهل المشهد الفرعوني: ربّ السماوات والأرض وما بينهما ،فتلك حقيقة لا تمتنع العقولُ من إدراكها، وهؤلاء لا شكّ أنهم أصحاب عقول وحواسّ تؤهِّلهم إدراكاً لهذه الحقيقة. ثُم ما في هذا النظام المترامي من مخلوقات يرى بعضها البشر ذوو العقول ،أنها لا يُمكن أن تظهر هكذا إلاّ بتدبيرٍ لها من مدبّرٍ صانعٍ حكيمٍ . فيبقى عليهم أن يتساءلوا : هل أن  فرعون يمتلك أدنى صُنعٍ  وتدبيرٍ لهذا النظام المحسوس في أقلّ تقدير؟
 هذا خلاصة ما أراده موسى(ع) في خطابه الذي جاء بصيغة الجملة  الشَرطيّة: إن كنتم موقنين الآية، لكنّ جواب الشرط فيها محذوفٌ لفظاً مقدَّرٌ دلالةً، فلا يسعهم إنكار هذه الحقيقة، لأنهم  يُدركونها على وجه القطع واليقين. ومَن كان هكذا أيقن بمربوبيّة نظام السماوات والأرض وما بينهما لربّ العالمين؛ ربّ موسى وهارون(ع)، لا إلى فرعون .
 قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ ( 25)
المعـنـى التدَبــُّري                       
خطابُ فرعون هذا حذا فيه حذو موسى(ع) حينما خاطبَ الملاء الذين حوله بقوله:ألا تستمعون،وكأنه أراد أن يقف حاجزاً يمنع تأثّرهم بما يعرضه موسى(ع)من حقائق يبدو أنه أحسّ بخطورتها عليهم،فيمكن أن يكون مآل قوله ألا تستمعون : هو عدم الاعتداد بما ذكره موسى(ع) من ربوبيّة السماوات والأرض لربٍّ العالمين .
قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26)
المعـنـى التدَبــُّري              
خطابٌ آخر إلى قوم فرعون الذين هم حوله ،ورد متفرّعاً عن خطاب الآية الرابعة والعشرين، الذي انصبّ الحديث فيها عن مربوبيّة النظام الكوني لربِّ العالمين، وذلك بذكر بعض أفراده(السماوات والأرض وما بينهما)كمقدّمة لما أراد موسى(ع) عرضه عليهم في هذه الآية .
وحيث إن أبناء البشر الأولين منهم والآخرين، هم من أفراد هذا النظام المترامي، فأن ربوبيّة فرعون المدَّعاة لا يُمكن أن تكون كذلك، أي بمعنى:لو كان فرعون هو ربُّ الحاضرين من البشر،فَمَن ربُّ الأولين منهم ؟ 
بعبارة أخرى: إن فرعون كائنٌ حادث كبقيّة الكائنات، والحادث لا يكون ربّاً لكم،لأن ربّكم الحقيقي أزليٌ، وفرعون ليس كذلك .  
قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27)
المعـنـى التدَبــُّري              
خطابٌ من فرعون إلى قومه فيه : 
1-تَهَكُّمٌ شديدٌ على موسى(ع) يظهر من قوله لهم:رسولكم و أُرسل، فقد نسبه إليهم لا إلى غيرهم ،بمعنى أن الخطر بسلب الربوبيّة منه إنما تقع آثاره عليهم لأنه أكبر من أن يتأثَّر به ،ولكنه في الحقيقة أراد استنهاضهم أما قوله :أُرسل إليكم ،فإن فيه تهكماً واستهزاءاً كبيرين، فقد جعل الفاعل للإرسال مجهولاً،  إنكاراً للحقائق التي عرضها أمامهم .
2- اعتداءٌ ينمُّ عن عجزٍ بالتعامل مع الحقائق الجوهرية التي نطق بها موسى؛إذْ كان على فرعون أن يُذعن لما استمع إليه ،بدلاً من أن يتفوّه بكلامه  هذا الذي وصف فيه موسى(ع)بالجنون من دون مسَوِّغٍ ظهر في هذا الحوار يستدعي إيراد هذه الصفة ؛إلاّ العتوِّ والتجبّر والعدوان. 
قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ (28)
المعـنـى التدَبــُّري              
 واصل موسى(ع)ذكر أفراد النظام الكوني ومربوبيّتها لربّ العالمين،إبطالاً لربوبيّة فرعون التي يدَّعيها،ولم يكن مقصوده من هذا العرض التعداد المجرّد للمخلوقات التي خلقها الله تعالى،فهو لم يُرد أن يذكر لهم أن هناك مشرقٌ ومغربٌ وما بينهما لأنهم يعرفون ذلك،بل أراد أن يبيّن لهم ربوبيّة ربّ العالمين على نظام الكون فقد تغيب هذه الحقيقة عنهم،لاقتصار نظرهم على مملكة مصر وما جاورها،الأمر الذي يجب أن لا يغيب عن أحد من الخلق المكلّفين عند إثارة انتباههم للنظر خارج هذه الدائرة الضيّقة التي اقتصر نظرهم عليها .
فأراد موسى(ع)من خلال إيراده لهذه الحقيقة،أن يٌحرر عقولهم ممّا تغلغل فيها من أفكارٍ صنميّة تصديقاً بفرعون الذي لابُدّ له من أن يتعمّد تغييب الحقائق عن الأقباط،ولذا اختتم المقام بقوله:إن كنتم تعقلون الآية استحثاثاً لهم أن يُعملوا عقولهم التي جعلها الله لهم واسطة للتفكّر والتأمل .
فأهل العقول في كلّ زمان ومكان،هم المكلّفون بإدراك حقيقة مربوبيَّتهم لربّ العالمين وحده، وقد منَّ الله تعالى على خلقه أن بعث إليهم الأنبياء وأرسل الرسل(ع)تبياناً للحقائق التي يتعمّد الفراعنة تغييبها عن العباد . قال تعالى:( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الأعراف : 157] .
وللمفسِّرين في هذا أقوال ، فمن ذلك ما ذكره العلاّّمة الآلوسي في تفسيره:«.أي إن كنتم تعقلون شيئا من الأشياء أو إن كنتم من أهل العقل علمتم أن الأمر كما قلته وأشرت إليه فإن فيه تلويحا إلى أنهم بمعزل من دائرة العقل وأنهم الأحقاء بما رموه به عليه السلام من الجنون»( [15]).ومثله قاله الأستاذ محي الدين الدرويش:« .. قال أولاً :إن كنتم موقنين؛ لأن المقام مقام تدليل وإقناع ؛ثم لما يئس واشتد اللجاج غالظهم وقابل لجاجتهم ونسبتهم إياه إلى الجنون بمثلها ،فنفى عنهم العقل الذي يمكنهم من التمييز بين الأمور»( [16]) . 
وهو كما ترى ليس بسديد ،لأن ما ذكره الأستاذ الدرويش من يأس موسى(ع)،لا شاهد له من السياق بأجمعه،وإن اشتدَّ اللجاج وتفاقمت المغالظة ،لأن ذلك واقعٌ في حسبان موسى(ع)( [17])،ثُم كيف يئن لموسى أن  ينفي العقل عنهم وهم مكلَّفون بهذا الأمر الربوبي ؟ 
أضف إلى ذلك أن حاصل قوله : (إِنَّا مَعَكُم مُّسْتَمِعُونَ) الشعراء : 15 ،   يجعل موسى(ع)مطمئناً غاية الاطمئنان من أنَّ اللهَ تعالى سينصره على خصومه في هذه المواجهة، فلا لزوم من التكلّم بما يُمليه عليه الموقف الحاضر ويجعل الاعتقادَ أنه يتكلم بانفعال وتكلّف من نفسه ،وكيف وهو الحريص على إيصال رسالة ربّ العالمين إلى المخاطبين بها، قبل حرصه على نفسه ؟( [18]).
بحث دلالي
جاء في نص زيارة الوارث u :« السَّلامُ عليكَ يا وارث موسى كليمِ الله»وهو نصٌّ يبعث على التساؤل:ما الّذي ورِثه الإمامُ الحسـين u من موسىu ؟ وللإجابة أقول:إن الوراثة في المقام تعني عِدة أشياء، يكون أبرزها وأظهرها هو أن فرعون موسى كبَّلَ عقول الأقباط بمنظومة منَ القِيَمِ وأضفى عليها قُدسيَّة ًجعلتهم يدينون بها على أنّها تحقق إنسانيَّتهم؛فكانوا عبيداً له يُفرِغون جامَ غضبِهم وغطرستهم على أبناء جنسِهم منَ الإسرائيليين الّذين يعيشون بين ظهرانيهم. قال تعالى:( وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنجَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ) [إبراهيم : 6]
بعدما كان آباؤهم وكبراؤهم مُذعنينَ غاية الإذعان ليوسف بن يعقوب(إسرائيل)عليهما السلام حينما عصفت بهم البلوى،فكان على موسى(ع) أن ينقذهم من هذه الجَهالة وذلك بإنارة الطريق أمامهم ومجادلتهم بالحكمة والموعظة الحسنة .
كذلك فإن بني أُميَّة َ جعلوا المسلمين الذين لا يوالونهم ،عبيدا ً لهم، وأرجعوا الناس إلى ما قبل الإسلام ،وصار دين الإسلام تراثا ً من تراث العرب تتداول مُنتحلاتِهِ ألسن القصّاصين في مجالسهم ، فتبدَّلت الأَحكام،وتغيَّرت السُّنن الإلهيّة،وتعطَّلت الحدود ، حتى ماتت إرادة المسلمين، فخنعوا لظلم الظالمين، وصار الإسلام أُلعوبة بأيدي المخنَّثين،فتوجَّهت عبادة المسلمين إلى الأوثان التي نصبوها في أذهانهم ،بدلاً من أن يتوجَّهوا لعبادة المعبود الحق سبحانه وتعالى ، فانبعث الإمام الحسينu في نهضته المباركة ، طلبا ً للإصلاح في أُمّة جدّه المصطفى صلّى الله عليه وآله باذلاً مهجته من أجل إعلاء كلمة لا إله إلا ّ الله، وكيف وهو القائل : «قد نزل ما ترون من الأمر وإن الدنيا قد تغيرت وتنكرت، وأدبر معروفها واستمرت حتى لم يبق منها إلا كصبابة الإناء، وإلا خسيس عيش كالمرعى الوبيل ألا ترون الحق لا يعمل به ،والباطل لا يتناهى عنه، ليرغب المؤمن في لقاء الله ،وإني لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برما وأنشأ متمثلا لما قصد الطف :
سأمضي فما بالموت عار على الفتى * إذا ما نوى خيرا وجاهد مسلما
وواسى الرجال الصالحين بنفسه *   وفارق مذموما وخالف مجرما
أقدم نفسي لا أريد بقاءها  *      لنلقى خميسا في الهياج عرمرما
فان عشت لم أذمم وإن مت لم ألم *كفى بك ذلا أن تعيش فترغما »( [19]).
قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29)
المعـنـى التدَبــُّري              
قول فرعون هذا فيه عدولٌ من لفظة(ربّ)التي قام عليها الحوار إلى لفظة (إله)،وقد صدر منه ذلك بعناية والتفات شديدين، بعدما تلمَّس من موسى(ع) شدَّة انجذابه وَوَلَهِهِ بربِّ العالمين،وهذا يعني أيضاً صدقيّة كفره بربوبيَّتِهِ التي ادّعاها .
فإن قلت: هل أن كلام فرعون هو إقرار منه بتعدد الآلهة،لتكون الغَيريّة في المقام هو أنه أفضل وأحقّ الآلهة، أم هو إقرار بنفي الأُلوهيِّة  عن غيره  تماماً ؟  
قلت: إن فرعون أراد منَ الغَيرية في كلامه نفي وجودِ إلهٍ آخر على الإطلاق،لِما قد سبق له القول أن عِلْمَهُ في ذلك نافذٌ ،كما جاء التعبير عنه في سورة القصص بقولها :( وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحاً لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ) [القصص : 38]
ومهما يكن؛ فأنَّ كلامه هذا تهديدٌ حقيقيٌّ لموسى(ع)بأن يجعله في جملة المسجونين في سجونه المعروفة .
وبحسب مجرى الحوار، فإن على فرعون أن يُودعَ موسى(ع) السجن، لما عرف منه الكفر بربوبيته وعلى نحو كبير من الوضوح،وهو أهم شيءٍ يشغله، لارتكاز تسلّطه على العباد على هذا المدّعى دون غيره ،وهذا هو حال الفراعنة على مرّ التاريخ،لكنه عدل إلى التهديد دون الفعل نتيجة الخطأ في حساباته السياسيّة فيما بين أن يضعه في سجونه مباشرة،وبين أن قال له في أول الحوار: ألم نربّك فينا وليداً...إلخ. وهذا يعني في جملة ما يعنيه:إنّ الله حال بينه وبين أن يقوم بهذا الفعل الشنيع،وعداً منه تعالى بتسديد ونصرة رُسله(ع) . قال تعالى : (إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ) [غافر : 51]
ثم كيف لا يكون ذلك وهو القائل له:فاذهبا بآياتنا إنّا معكم مستمعون،وهذا ليس بعجيب، فقد كانت الحيلولة الإلهية ناجزة حين ولادته(ع)في ذلك العام الَّذي خصّصه ليبقر بطون الإسرائيليات الحوامل .
  قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُّبِينٍ (30) قَالَ فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31)
المعـنـى التدَبــُّري              
لم يتكلّم موسى(ع) مع القوم كما كان يفعل عند بدء المواجهة ،وإنما تكلّم مع شخص فرعون ،بعدما هدّده بجعله من المسجونين لديه . 
فإن قلت : لماذا عبّر بالمبين ،أوَ لم يكن الذي ذكره قبل هذا مبينا ً؟ 
قلت : إن ما ذكره موسى(ع)من المخلوقات في السموات وفي الأرض قد يستطيع أن يدَّعي المدَّعي بنسبة مربوبيَّتها إليه،وذلك في ظلّ تفشي الجهل في أذهان الأغلبيّة الساحقة من الناس،فتكون نتيجته غفلتهم عن التأمل في الحقائق الجوهرية،واعتيادهم على التفكير المتواصل في توفير الأسباب المباشرة لمعاشهم اليومي،ممّا يُتيح المجال للفراعنة إشغالهم فيها عن طريق بسط سيطرتهم التامّة على أسباب تحصيلها من مصادرها، وهنا يسهل على هذا الفرعون أو ذاك بنسبة هـذه الأسباب إليه،فمن تلكم الأسباب منظومة العقائد التي لابُدَّ للإنسان أن يتبناها في حياته،بلحاظ أن الناس جُبلوا على اعتناق عقيدة يرون أنها حق، لتكون الفرصة سانحة لهم في نشر وترسيخ العقائد الوثنية في أذهان الملايين باستخدام وسائل الترغيب والترهيب؛ليُقال عند ذلك:لولا هذا الفرعون لكنّا من الهالكين،وهنا لابُدّ من اختراق هذا المألوف الفرعوني بوسائل لم يسبق لهم أن اعتادوا عليها أو حتى سمعوا بها،فتكون الحاجة ماسّة لوقوع المعجزات الإلهيّة الأمر الذي لوَّح إليه موسى(ع) في كلامه .
فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ (32) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاء لِلنَّاظِرِينَ (33)
المعـنـى التدَبــُّري              
الآيتان تظهران وقوع معجزتين خارقتين لما هو مأنوس عند البشر جميعا، ًحيث إن عصا موسى(ع)استحالت إلى ثعبان فجأة ،والتعبير بالمبين يعني أن هذا الثعبان هو ثعبانٌ حقيقي لا يشكّ أحدٌ في كينونته كذلك، ويده السمراء صارت بيضاء للناظرين، بعدما توفَّرَ المقتضي لوقوعهما،وهو تخلّف الأسباب الطبيعية عن أن تُثني عزمَ فرعون على جعل حجّة الله موسى بن عمران(ع)من جملة المسجونين لديه ،وان عدم وقوعهما يعني تمكّن فرعون من إجهاض الأمر الإلهي، ولو حصل ذلك فهو خلاف الحكمة من الإرسال . 
قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (35)                                                                                      
معنى لغوي 
قال الرّاغب:« الملأ جماعة يجتمعون على رأيٍ فيملئون العيونَ رواءً  ومنظراً،والنفوسَ بهاءً وجلالا ً...»( [20]) .
فأصلُ(المَلأ)مأخوذٌ من امتلاء شيءٍ بشيءٍ آخر، هذا يعني أن هؤلاء دعامة قويَّة من دعائم فرعون الذي لاشكّ أنه يصرف جهدا كبيرا ًمن أجل ضمان تماسكهم،واستمرار التفافهم حوله وذلك بمنحهم ما يُميِّزهم عن غيرهم حتى يتقبَّلوا ما يُمليهِ عليهم من العقائد الفرعونيّة؛بل ليُجنِّدوا أنفسهم في نشرها وإشاعتها بين طبقات المجتمع الذي يعيشون فيه،وحجز العقائد المخالفة لكي لا تصل إليهم عن طريق زرع التخويف والتشكيك والتشويه للصورة التي تُعرض عليهم،فمن ذلك اتهام موسى(ع)بالجنون تارة ،وبالسحر أخرى ،ثم توهين أمره بتهديده  بالسجن . 
معنى تَدَبُّري ولغوي 
سؤال :لِمَ نسبَ فرعون الأرضَ وإرادة الإخراج منها إلى المَلأ،ولم ينسب ذلك إلى نفسه،وكان قد نسبَ كلَّ شيءٍ إليه لا إلى غيره حينما قال:( وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ) [الزخرف : 51]
الجواب:أولاً:إن فرعون حينما نسبَ كلّ شيءٍ إلى نفسه،كان في غَـضارةٍ من العيش يتكلّم بما يشاء،إلى أن ظهرت دعوة موسى(ع)، فأخذ يتكلم بما تُملي عليه ظروف هذه المواجهة الكبرى بسبب تغلغل القلق والارتباك إلى نفسه من دون الالتفات إلى ما كان قد قرَّره فيما مضى،وليس أدل على ذلك من قوله للمَلأ : ماذا تأمرون ؟ في وقت كان يقول لهم :( يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ) [غافر : 29] .فكيف يكون الرَّبُّ الأعلى والإله الذي لا يوجد غيره مأمورا ً من قبل تابعيه ؟
وأما ثانياً : فإن فرعون أراد استنهاض المَلأ ،وتعبئتهم للحرب المقبلة ضد موسى(ع)لإشعارهم أن النصر فيها مرتبطٌ بالحفاظ على مراكزهم الحسّاسة ومحلّها الأرض بطبيعة الحال،حتى أن الأرض عندما نسبها إليهم كأنها غير الأرض بمعناها المـعروف !
التحقيق في معنى( الأمر) لغةً: 
1- قال الخليل بن أحمد:« الأ َمْرُ : نقيضُ النَّهي،والأمرُ واحدٌ من أمور النّاس.وإذا أ َمَرْتَ من الأمر قلت:اؤْمُرْ يا هذا، فيمن قرأ:[وأ ْمُرْ أهلك بالصّلاة] »( [21]) .
2- قال العلامة الطريحي:« وأمره نقيض نهاه»( [22]) . 
3-قال العلامة الزمخشري:«وأْتََمَرْتُ ما أمرتَني به امتثلتُ»( [23]).         وقال:«وتآمرَالقومُ أْتَمَرُوا مثل تشاوَرُوا واشْتَوَرُوا.ومُرْني بمعنى أشِرْ عليَّ »( [24]). 
4- قال الراغب:« الأمر الشّأنُ وَجَمْعُهُ أُمُورٌ وَمَصْدَرُ أَمَرْتُهُ إذَا كَلَّفْتَهُ اَنْ يَفْعَلَ شَيْئَاً وَهُوَ لَفْظ ٌعَامٌّ لِلأَفْعَال ِوَالأَقْوال ِ كُلّهَا»( [25]) .
5- قال الجوهري:« .. وقولهم : لك عَلَيَّ أ َمْرَة ٌ مُطاعةٌ، معناه :لكَ عَلَيَّ أَمْرَةٌ أُطِيعك فيها ،وهي المرَّة الواحدة من الأَمْرِ..والعامة تقول: وَامَرْتُهُ . وائْتَمَر الأَمْرَ،أي امتثله...والائْتِمارُ والاستئمارُ: المشاورة. وكذلك التَآمُرُ، على وزن التفاعلِ»( [26]). 
6- قال الفيروز آبادي:« الأَمْرُ: ضِدَّ النَّهْي. والائْتِمارُ: المُشاوَرَةُ»( [27])
عرض أقوال المفسّرين في الآية  :
قال العلامة الزمخشري:«(تأمرون)من المؤامرة وهى المشاورة ،أو من الأمر الذي هو ضد النهى، جعل العبيد آمرين وربهم مأمورا لما استولى عليه من فرط الدهش والحيرة »( [28]) .
وقال العلامة الآلوسي:«و(تأمرون)من الأمر ضد النهي ومفعوله محذوف أي تأمروني، وفي جعله عبيده بزعمه آمرين له مع ما كان يظهره لهم من دعوى الإلوهية والربوبية ما يدل على أن سلطان المعجزة بهره وحيره حتى لا يدري أي طرفيه أطول فزل عند ذكر دعوى الإلوهية وحط عن منكبيه كبرياء الربوبية وانحط عن ذروة الفرعنة إلى حضيض المسكنة »( [29]) .
وقال العلامة الطباطبائي:« قوله :" فماذا تأمرون"لعل المراد بالأمر الإشارة عليه لما أن المشير يشير على من يستشيره بلفظ الأمر فالمعنى إذا كان الشأن هذا فماذا تشيرون علي أن أعامله به حتى أعمل به وذلك أنه كان يرى نفسه ربهم الأعلى ويراهم عبيده ولا يناسب ذلك حمل الأمر على معناه المتعارف.ويؤيد هذا المعنى أنه تعالى حكى في موضع آخر هذا الكلام عن الملا أنفسهم إذ قال:" قال الملا من قوم فرعون إن هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم فماذا تأمرون"الأعراف : 110 . وظاهر أن المراد بأمرهم إشارتهم على فرعون أن افعل بهما كذا »( [30]) . 
وقال العلامة المصطفوي:« لمّا طلب فرعون من أتباعه من الأمّة النظر والرأي وأراد جلب خاطرهم وتحريك عواطفهم وتجليل شخصيّاتهم: فعبّر بهذه العبارة  فماذا تأمرون » ( [31]) .
قلت:إن سياق الآية يُقَرّب إلى الذهن المعنى الأول ،فيكون هو المعنى المتبادر من لفظ(الأمر)؛أما المعنى الآخر الذي احتمله البعض من الأعلام، فانه يحتاج لتعيينه إلى قرينة؛وهي بحسب ظنّي مفقودة من المقام ومن خارجه أيضاً،لأن ارتباك فرعون وتخبطه أمر ممكن،ويصح إقامته قرينة واضحة في تعيين المعنى المتبادر،وصرف المعنى الذي احتملوه عن الأذهان. أما معنى قوله في الآية 110 من سورة الأعراف (من قوم فرعون)الذي استدل به العلامة الطباطبائي،فيمكن حمله على معنى:أن قوم فرعون على طبقات ومراتب وكل طبقة تستنسخ الأمر الفرعوني وتُنزله إلى الطبقة التي تليها من أجل تعبئتها وتهيئتها، وهذا يكشف أن انتظامهم لم يكن عشوائياً؛إنما بنحو الهيكل التنظيمي الرأسي .
بحث دلالي
عمد الفراعنة المتأخرون إلى الاستئثار بمقدّرات البلدان التي تمكنوا من السيطرة عليها بنسبة عائدية البلد بأجمعه إلى الملأ الذين يُحيطون بهم، ويجعلون لهم الحق في سلب إرادة العِباد ، فضلا ًعن سلب ممتلكاتهم ومُدَّخَراتهم، ثم لا يعبأون بالأخطار أو الأضرار التي تحدق بسائر الملايين المغلوبين،الذين يرمون بهم حطباً يابساً في نيران حروبهم بدعوى الإشفاق عليهم ،كما جاء في قوله تعالى حكاية عن فرعون:( وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ) [غافر : 26]
هذا،ومنَ المؤكد أن الدافع الحقيقي لقيام الفراعنة بإحاطة أنفسهم بسياجٍ رصينٍ من هؤلاء المَلأ هو أن يكونوا مدافعين جيّدين عن معبودهم حين نزول الأزمات العنيفة في مقابل الأُعطيات الضخمة التي يحصلون عليها من أموال الأغلبية الساحقة.انظر إلى ما يقوله فرعون لهم:(يريد أن يُخرجكم من أرضكم)بمعنى: إن دفاعكم عني إنما هو دفاعٌ عن مصالحكم وبقاءِكم . 
 

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


كاظم الحسيني الذبحاوي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2012/01/06



كتابة تعليق لموضوع : الجزء الثالث من كتاب(معاً إلى القرآن ـ منهج تدبري لكتاب الله من خلال قراءة واعية في سورة الشعراء
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net