هذا هو ترامب إذن، أعجوبة الانتخابات الرئاسية الأخيرة، أي شيء في نظرك هو نشاز في هذا الطبع الأمريكي الخالص الذي تحمله ملامح المقاول الذي أفرزته الدّاروينية السياسية ليكون هو الاستجابة الممكنة للتّحدّي المفروض ضدّ مستقبل الولايات المتحدة الأمريكية؟ في العادة تأتي الشروط السياسية والاستراتيجية بالرئيس المناسب، أمريكا فقدت الكثير لذا هي في حاجة لتذكير العالم بأنّها قابلة للمروق، وتذكّر العالم بأنّها وحدها قادرة على رجّ البنية الدّولية. ألا تستوعبون ماذا يعني سقوط قطب هيمن على العالم ردحا من الزمان؟ أمريكا دخلت تاريخ السير القهقرى، وهي لا تخشى أن تفقد موقعها كقطب عالمي بل تخشى من أن ينفرط عقدها ولن تكون حتى دولة عادية. ذلك لأنّ تفككها وارد، لذا فالهاجس الذي يحكم ذهنية ترامب هو أن يتحوّل إلى أمبراطور على الأمة الأمريكية، وبالتالي نحن أمام تنفيذ الأجندة الأخطر اليوم: العودة إلى هينتنغتون وصدام الحضارات، اليوم فقط وجب أن نتذكّر أنّ هذا الخبير الذي نصح البيت الأبيض بأن يتراجع إلى حدوده الطبيعية وأن يضع تدابير وإجراءات لحماية الهوية الأنغلوساكسونية لأمريكا، هنا وفق البارديغم الحضاراتي أو بتعبير أكثر جرمانية: البارديغم الثقافي سيكون الهمّ الأبرز في السياسة الترامبية هو موضوع الهجرة. كان السور الذي سيشيد حول أمريكا ليعزلها عن المكسيك تعبيرا عن هذا الهاجس والاستجابة للمعضلة التي تفرضها الهجرة، حيث تكهن هنتنغتون قبل سنوات بأنّ أمريكا مهددة بنيويّا، وبأنها الدولة الغربية الأولى التي لن تصبح أوربية. كانت أطروحة تحفي مفهوم الهشاشة الهوياتية الأمريكية أكثر من هشاشة اقتصاد رأسمالي تناقضي قابل للإنهيار.
نحن أمام تدابير ترامبيّة تهدف إلى إنجاز مشروع أمريكا المحروسة. هذا يعني أن ترامب معني بشدّ عصب الإمبراطورية المتآكلة والمهددة بحرب أهلية على المدى الأمريكي الذي تحدده تناقضات الرأسمالية المتوحّشة. وهو بهذا المعنى يريد أن يقايض المحاور الجيوسياسية على مساحة العالم ولا سيما في الشرق الأوسط بأنّ يدركوا أنهم من دون أمريكا هم أعدام سياسية، والنتيجة في نظر المقاول: المقايضة والدّفع الفوري مقابل الحماية.
ترامب ليس أحمقا بل هو نمط أمريكي عادة ما يظهر في اللّحظات المناسبة. يسعى ترامب لتعزيز عزلة الولايات المتحدة الأمريكية والتلويح بالحرب ليمنح إرادته فرصة الهروب غربا على الطريقة الأمريكية. لا إشكال أن يتنازل عن كل تعهّد وأن يخلط الأوراق ولكن ثمّة شيء مهم وراء هذه الخرجات التي يستفزّ بها العالم ويحضّره لمرحلة موت السياسة. تسعى أمريكا للتحلّل من كل التزاماتها. أمّا المخلوقات المرعبة التي أنتجتها برسم لعبة الأمم، فقد باتت مكلفة وهي معنية اليوم بحماية حدودها الطبيعية فقط وليس حماية حدود العالم. ألا تلاحظون أن ترامب غير معني كثيرا بالعالم إلاّ من حيث هو فرصة أمريكية لتعزيز فكرة أمريكا المحروسة؟
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat