صفحة الكاتب : صبحة بغورة

من فـات قديمـــــــه ... !
صبحة بغورة

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

أجدني أنحت الكلمات نحتا عسى أن أتمكن من تشكيل عبارات لموضوع أصبح يبدو لدى البعض أن مجرد تناوله أمرا صعبا بل شديد الحساسية ، إذ ما هممت يوما بالحديث عنه في جمع من الأصدقاء حتى مط أحدهم شفتيه امتعاضا ، و رفع آخر حاجب السخرية الأيمن ، بينما نـأى ثالث بجنبه متجاهلا ما يسمع، فيما أسند رابع رأسه إلى كفه رافعا عينيه إلى سقف الغرفة يحاول تحديد نقطة في الفضاء ، شعرت بالإحراج فانكمشت في نفسي بعض الوقت ولكن ما أتمتع به من صبر طويل و لسان أطول دفعاني إلى مواصلة الحديث بحشرجة اعترت صوتي في البداية أحاول استجماع شجاعة إثارة الحوار من جديد بقدرة متجددة على الفضفضة لفرض موضوع الحديث الذي أردته فرضا على أمل الوصول إلى منتهاه وبالنتيجة التي رسمتها له .
يا سادتي ، إن الموضوع أسهل من تصريف فعل الأمر أو إعراب الأفعال الخمسة بالرغم من أنه شاغل الأمم وحديث الساعة في مختلف المجتمعات واعتقادي أنه من لا يتفاعل مع قضايا عصره بالتفكير والتأمل لا خير يرجى منه في المستقبل ، فحصاد اليوم هو غرس الماضي ، وجني المستقبل على قدر عمل اليوم ..  ولا أخفي عليكم أن شعورا بالرضا بدا يتسلل إلى نفسي إذ شجعني صمتهم على الاستمرار، وتساءلت : هل حقا كان بناة الأهرام في مصر أو السور العظيم في الصين أو ما تركه القدماء في مختلف بلاد العالم من آثار أو قل" معجزات " يقصدون حقا أن تكون يوما ما مزارا للسياح وإن يكون لمجرد رؤيتها مقابل مالي يدخل في خزائن الدول ؟ يبدو أن التساؤل على بساطته قد أثار اهتمام من حولي إذ لاحظت اتجاه حركة مقلات الأعين نحوي ولكن بدون إن تستدير الرؤوس ، لا بـــأس ، صمتهم لا يعني المعارضة على أقل تقدير وهذا عامل مشجع على الاستمرار، حرصت على إعطاء إجابات مقنعة و توضيحات وافية وتفسيرات منطقية تعطي لتساؤلي الوجاهة و تزيل عنه السطحية إذ على قدر الإجابة سيتحدد مصير الموضوع الذي طرحته وكذا نتيجته والأكثر من ذلك مصير الجلسة برمتها إما باستمرار انعقادها أو تفرقها مع سماع عبارات التأفف ، استرجعت المزيد من شجاعتي الأدبية ثم استرسلت قائلة :  إذا ألقينا نظرة على الآثار التي نستدل منها على تاريخ حضارة الإنسان منذ أقدم العصور نجدها في المباني والصور و التماثيل وكلها تؤكد لنا على نوعية عقائده و تفكيره وفلسفاته وحضارته في زمانه ، كما تكشف لنا دراسة تاريخ الفنون عن نوعية الحضارات التي عاشها الإنسان عبر تاريخه الطويل  والظروف التي أحاطت به و دعته إلى ما تركه من أعمال لها من أشكالها دلالات ثابتة تنم عن وجوده ونشاطه وثقافاته ، وتؤكد الطاقات الابتكارية و الإبداعية الكامنة في الآثار مدى صدق الإنسان الفنان في اتخاذ قضايا مجتمعه و مناخ بيئته مصدرا لإلهامه ، لأن التعبير الملتزم المتحرر من قيود الإلزام هو قاعدة الابتكار والإبداع في كل الفنون ومجالات الثقافة والعلوم مهما اختلفت وسائلها في التعبير،إذ مهما تنوعت الأساليب الفنية فالإجماع هو على أن التزام الفنان ببيئته و حتمية تمسكه بتقاليد مجتمعه و محاولته إيجاد صلات تربطه بحاضره من خلال ماضيه العريق سيجعله مهتما بتنمية الشعور الجماهيري بمظاهر الحياة وما درجوا عليه من عادات وتقاليد بأساليب واعية وصريحة وصادقة حتى تصبح فعاليتها ايجابية .. وكمن أفاق إلى نفسه سكت عن الحديث إذ بدا  أنني أطلت في الكلام نوعا ما وبأسلوب شفاهي عالي المستوى ، ولكن طول صمت الأصدقاء وعيونهم المحدقة في شخصي المتواضع هو الذي جعلني أعتقد أنه من باب حسن الاستماع الذي يشجع أكثر على مواصلة الحديث ، ودفعني هذا الاعتقاد إلى أن أميل ميلة واحدة نحو النقد : ياســـــادة .. شواهد كثيرة تؤكد عبث بعض المثقفين و الفنانين العرب باسم المعاصرة وإيثارهم التقليد على التقاليد ، التقليد الذي يعني النقل الحرفي لتفاهات أجنبية دخيلة على أذواقنا وعلى مزاجنا ، لا يكفي أبدا أن تتضمن الأعمال الأجنبية قيم جمالية أو فنية لتكون رسالة فنان يشعر بواقعه و قوميته ، فمن الضروري مخاطبة الناس بلغتهم التي يفهمونها حتى لا ينعزل المثقف أو الفنان عن مجتمعه ، هناك دلائل كثيرة تدعو إلى أن يفكر كل فنان و مثقف في ما يستطيع تقديمه من أعمال مبتكرة بدون التخلي عما ينشده من قيم يتميز فيها بشخصيته.. القضية باختصار تتعلق بالأصالة والحداثة  وكيف يمكن استيعاب الجديد من المفاهيم بدون التفريط في الموروث التاريخي و القيم الحضارية التي تناقلتها الأجيال  جيلا بعد جيل و حافظت عليها فحفظت لنفسها شخصيتها المتميزة ونالت بذلك الاحترام و التقدير لحقب طويلة ومن كل الأمم .. استشعرت انتباها لافتا و تركيزا لم أكن أتوقعه من قبل الجميع فدفعني هذا إلى أن أستطرد في حديثي إلى ما هو أعمق بتناول ظاهرة العولمة ... ! هنا وضع أحد الأصدقاء فنجان القهوة بعدما كاد أن يرتشفه، فيما اتخذ آخر لنفسه مقعدا قريبا مني بعد أن ظل يراقب الحديث عن بعد ، نعم ..  إنها العولمة التي بقدر ما لها من فوائد فلها أيضا أضرار بليغة ، فالتفتح على ثقافات الشعوب لا يعني بالضرورة الذوبان في خصوصيتها  إن الدعوة إلى العالمية في الثقافات و الفنون لا تتعدى في معناها أحد الشيئين : إما أن تكون العالمية بمعناها الشامل أي وحدة الفكر الإنساني وهو أمر ما زال من الأمور التي تبدو كالسراب لأن مثل هذه الوحدة الشاملة تتعارض مع قوانين الطبيعة والبيئات و المجتمعات بأنواعها وأجناسها المختلفة ، وإما أن تكون هذه الدعوة إلى العالمية في الثقافة والفنون صادرة عن رغبة في تحطيم القوميات وإفساد و ضياع القيم الإنسانية التي توارثتها الشعوب في البقاع التي يعيشون فيها بتقاليدهم وبما تعارفوا عليه من عادات ولا أظن أن أحد يستطيع أن يتصور مثلا وجود نخلة تأتي ثمارها بين الثلوج ، إن العبرة الحقيقية التي تكفل للثقافة مدلول العالمية هي صدق التعبير و صدق الإلهام و الأحاسيس الصادرة عن النفس الإنسانية  المرتبطة بحياة المجتمع ، فالفن المصري الفرعوني والفن الإغريقي والصيني والهندي .. هي فنون صادقة التعبير عن أيديولوجية تلك الشعوب ولم يخطر على بال مبدعيها أن تكون في يوم من الأيام وسيلة اتصال بعقلية شعوب أخرى، ومع ذلك فإننا بعد آلاف السنين عندما نراها تنفجر فينا ينابيع التأمل والإعجاب .. والإكبار.. هنا اعتدل أحد الأصدقاء في جلسته وتوسمت منه أن يثري الموضوع بأفكار جديدة ولكنه وبكل رزانة الحكماء وثقة العلماء قال بهدوء كمن يلخص أمرا و يقرر حكما  لينهي نقاشا : يا سادة لم يترك الأولون شيئا للآخرين  لقد كانوا فعلا السباقين إلى فهم طبيعة الأمور حق فهمها  فقديما قيل " من فات قديمه .. تـــاه " ، هنا آثرت الصمت ، ولعنت شـر الفضفضة .. والثــرثرة.


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


صبحة بغورة
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2011/06/24



كتابة تعليق لموضوع : من فـات قديمـــــــه ... !
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net