صفحة الكاتب : عبد الكريم صالح المحسن

تأثير الحضارة البصرية على حضارة بلاد الأندلس
عبد الكريم صالح المحسن

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

 البصرة المدينة الإسلامية الأولى التي تأسست خارج الجزيرة العربية ،أنها مدينة العلم والعلماء ، الحاضرة الشامخة القامة مصر الأمصار الإسلامية والمنهل الذي ينهل منه العلم والفكر والأدب وهي احد أركان وركائز مركز الحضارة الإسلامية والفكر الإسلامي بما اجتمع فيها من جهابذة العلم والمعرفة نابغين في شتى حقول العلم والمعرفة وهي المجمع العلمي الزاهر بما احتوت من العلماء والفلاسفة والأطباء والأدباء بمختلف مشاربهم وأعراقهم.. فهي مدينة الأصمعي وأبو عمر بن العلاء والخليل بن احمد وأبو عبيدة معمر بن مثنى التميمي وانو الأسود الدؤلي وأبو زيد سعيد بن آوس الأنصاري وسيبويه وأبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ وأبو يوسف يعقوب ابن إسحاق الكندي وأبي علي محمد بن الحسن بن الهيثم وأبو محمد القاسم بن علي بن محمد بن عثمان الحرير وابن سيرين وأبو عمر علاء العطوي وأبو داود السجستاني وهي مهد أخوان الصفا وخلان الوفا والأخفش الوسط  وعبدالله بن المقفع وبشار بن البرد وأبو الحسن علي بن محمد البصري الماوردي وأبو الحسن الأشعري والمفجع البصري وقتادة بن دعامة  والقائمة تطول وتحتاج مجلدات للحديث عن علماء البصرة. 
ومن بين تلك البلدان التي أثرت فيها الحضارة البصرية كانت الأندلس (وهو اللفظ الذي أطلقه العرب على القسم الذي سيطروا عليه من شبه جزيرة أيبريه " اسبانيا والبرتغال" وتسمى أيضا "أيبيريا الإسلامية ") حيث كانت البصرة محط أنظار واهتمام كبير من علماء وفقهاء الأندلس لما تملك من مقومات ومدارس الفكر والعلوم والآداب فقد مد العرب المسلمين(والبصرة جزء هام منه) الأندلس بمد حضاري حمل عبارة تتصدر معاهدهم ودور علمهم : (العالم يقوم على أربعة أركان : معرفة الحكيم،وعدالة العظيم،وصلاة التقي ،وبسالة الشجاع) فقد أثرت الحضارة البصرية تأثيرات مباشرة على حضارة الأندلس الإسلامية خلال القرنين الثالث والرابع الهجريين حيث توافد الطلبة والعلماء وطالبي العلم الأندلسيين على أماكن العلم البصرية والأخذ مما موجود فيها من علوم ومعارف على يد أشهر العلماء البصريين وتحفل كتب الطبقات والتراجم بأسماء العديد من علماء الأندلس الذين رحلوا الى البصرة طلباَ للعلم ورغبة في الاتصال بعلمائها وقد أسهمت الحضارة البصرية في رفد الحركة الثقافية في الأندلس ودعمها وتشجيعها وتزويدها بالعلوم والمؤلفات وحثها على الترجمة والتأليف.
بدأت علوم ومعارف وآداب البصرة تحمل الى الغرب عن طريق رحلات طلب العلم التي كان يقوم بها عدد من الأندلسيين الى مراكز الاتقاد العلمي والأدبي في البصرة والقيام بترجمة هذا العلوم والمعارف الى العديد من اللغات الغربية وعندما استقلت الشخصية الأندلسية من القرن الخامس الهجري/الحادي عشر الميلادي عن الشخصية المشرقية أصبحت المصدر الأول لتوجيه الفكر الغربي لذلك أن اثر البصرة لم يكن محصورا في الحضارة الأندلسية فحسب أنما تعدتها الى مجمل العالم الغربي.
وسوف نستعرض بشكل موجز بعض من أشهر علماء وفقهاء الأندلس الذين وردوا الى البصرة من اجل الاستزادة والتعلم ونقل العلوم الى الأندلس فقد ذكر  الدكتور أكرم حسين غضبان العديد من أولئك العلماء الأندلسيين الذين قدموا الى البصرة وقد ذكر منهم: الفقيه الأندلسي احمد بن عباد بن عبدون (عاش في القرن الرابع الهجري/العاشر الميلادي) قادماَ من قرطبة في العام (317هجرية/929ميلادية) وعندما وصل إليها التقى بعدد من علماء الفقه فيها واخذ عنهم أصول الفقه ومصادره وقد درس أراء الفقهاء وتعرف على أساليبهم في حل المسائل الفقهية ثم عاد الى الأندلس وهو يحمل علماَ غزيراَ في الفقه وأصوله ،وكذلك قام الفقيه الأندلسي ابوعبدالله محمد بن وازع الضرير (ت 374هجرية/984ميلادية) برحلة الى مدينة البصرة في العام (351هجرية/962ميلادية) حيث درس على يد أشهر الفقهاء البصريين واطلع على اهمم كتبهم المؤلفة في الفقه ودرس الفقه على يد أشهر الفقهاء فيها وأبرزهم الفقيه أبي اسحق إبراهيم بن علي مما زاد في علمه ومعرفته وقد نبغ في حل المسائل الفقهية مما أفاد فقهاء الأندلس لنقله علوم فقهاء البصرة وفي علم الحديث كان علماء الأندلس قد تلقوا أفضل علومهم على يد أشهر محدثي الحديث النبوي الشريف في البصرة وتعرفوا على ابرز رواته ورواياته وتعلموا كيفية أخراج سند تلك الروايات للوصول الى صحة الأحاديث من خلال إخضاع الرواة الى علم الجرح والتعديل( ) لبيان صدقهم فيما رووه عن النبي(ص)،وقام الفقيه الأندلسي أبو عبدالله محمد بن قاسم بن سيار(ت327هجرية/938ميلادية )برحلة الى بلاد الشرق جعل البصرة محط أقامته الرئيسية حيث أقام فيها أربع سنوات وأربع أشهر التقى خلالها عدد من محدثي هذه المدينة منهم أبو خليفة الفضل بن الحباب الجمحي وأبو زكريا بن يحيى الساجي ومحمد بن موسى الجرثمي اطلع من خلالهم على الحديث النبوي الشريف وتعرف على رواته وعندما عاد الى الأندلس كان متقناَ لرواية الحديث عارفاَ لسلسلة سنده حتى وصفه المحدث الأندلسي أبو محمد الباجي بقوله) :لم أدرك من الشيوخ بقرطبة أكثر حديثاَ من محمد بن القاسم) في حين قام عدد من الفقهاء الأندلسيين الأخريين أمثال مسلمه بن سليمان(ت 353هجرية/964ميلادية) بزيارة البصرة ودرس على يد فقهاء ورواة الحديث البصريين أمثال أبو رواق الهزاني وأبو علي اللؤلؤي ومحمد بن علي الزعفراني واحمد بن محمد التستري وكذلك من محدثي الأندلس الذين استفادوا من علوم علماء البصرة أبو زكريا يحيى بن مالك بن كيسان (ت375هجرية/985ميلادية)الذي قام برحلة الى البصرة سنة(347هجرية/958ميلادية) ومكث في البصرة اثنين وعشرين سنة جمع خلالها علماَ وفيراَ وعاد الى الأندلس سنة(369/979ميلادية) وقد اتخذ من جامع قرطبة مكانا يحدث الناس فيه ما تعلمه من أحاديث في البصرة وقد وصفه ابن الفرضي- أبو الوليد عبد الله بن محمد بن يوسف بن نصر الأزدي-(ت 403هجرية/1013ميلادي)بقوله (جمع علماَ عظيماَ لم يجمعه احد قبله من أصحاب الرحل الى المشرق،روى لنا من الأخبار والحكايات ما لم يكن عند غيره ولا ادخله احد الأندلس قبله)( ) أما في مجال اللغة والأدب فقد تعلم علماء الأندلس أصول اللغة ومعانيها وحافظوا الكثير من الأشعار وتعرفوا على بحورها وبرعوا في أنشاء القطع النثرية فكانت لهم مساهمه رائعة في هذا المجال حيث كان محمد بن عبدالله الغازي (ت296/908 ميلادية)الذي رحل من قرطبة الى البصرة فالتقى بعلمائها ومنهم أبو حاتم سهل السجستاني وأبو الفضل العباس الرياشي وأبو إسحاق إبراهيم بن خداش وأبو موسى العتكي وأبو سعيد عبدالله بن شعيب فاخذ عنهم قواعد النحو وأساليب اللغة وحفظ بحور الشعر وقدم على البصرة أيضا أبو بكر يحيى بن مالك (ت 360هجرية/970 ميلادية)من مدينة طرطوشة( ) حيث كان برفقته والده أبو زكريا يحيى بن مالك بن كيسان سنة (347هجرية/958ميلادية) حتى قيل عنه بان حفظه(للنحو واللغة والشعر يفوق من جاراه على حداثة سنه)،أما في مجال العلوم العقلية فقد كان لهذه العلوم نصيب من دراسة طلبة وعلماء الأندلس في البصرة حيث أنهم أتقنوا علومها وأسسها وأصولها وقواعدها وكان من ابرز تلك العلوم الطب الذي يعتبر من أهم العلوم وأعلاها منزلة لما له من دور بارز في حفظ صحة الإنسان وزوال المرض عنه وكانت من ابرز الرحلات العلمية التي قام بها أطباء الأندلس الى البصرة الرحلة التي قام بها الطبيبان عمر واحمد ابنا الطبيب يونس الحراني (عاشا في القرن الرابع الهجري/العاشر الميلادي) في عهد الخليفة عبدالرحمن الناصر (300-350هجرية/912-961 ميلادية) حيث قاما بهذه الرحلة سنة(330هجرية/941ميلادية) وقد اخذوا عن علماء وأطباء البصرة أصول الطب وقواعده خصوصاَ في مجال طب العيون حيث أنهما درسا الطب العملي في بيمارسان( ) مدينة البصرة شأنهم شأن بقية طلبة الطب وعاد الطبيبان عمر واحمد الى بلاد الأندلس سنة (351هجرية/962 ميلادية) حيث استقبلهما الخليفة الحكم المستنصر (350-366 هجرية/961-976ميلادية) بالترحيب والاحترام كعادته في استقبال العلماء الأجلاء والكبار وبدأ الطبيبان بممارسة أعمالهما بمعالجة المرضى من المجتمع الأندلسي متبعين أسلوب وقوا عد ما تعلماه في البصرة حيث كان الطبيب احمد بن يونس الحراني يداوي العين مداواة ويعالجها علاجاَ دقيقاَ.
 وقام الطبيب الأندلسي محمد بن عبدون الجيلي (عاش في القرن الرابع الهجري/العاشر الميلادي) برحلة الى البصرة في العام ( هجرية347/958 ميلادية) في أواخر عهد الخليفة الناصر حيث كان يقصد من سفره دراسة علم الطب وتعلم قواعده المهنية فرحل من قرطبة قاصداَ المشرق فدخل البصرة والتقى علمائها وأطبائها المشهورين وتلقى على أيديهم دروس الطب النظرية في حين تلقى الدروس العملية في بيمارسان البصرة فكان يشاهد أساتذة الطب وهم يشخصون الحالات المرضية ويحددون العلاج اللازم للمرضى أمام طلبتهم فتعلم بذلك ابن عبدون الجيلي الكثير من أصول الطب وقواعده العلاجية لذلك عندما عاد الى الأندلس سنة(360هجرية/970 ميلادية) وبدأ بتدريس طلبة الطب ناقلاَ لهم ما تعلمه في البصرة. وكذلك رحل العلامة الرياضي عمرو بن عبدالرحمن الكرماني القرطبي حيث قصد حران ( ) حيث درس بها الهندسة والطب وقد جلب معه الى الأندلس رسائل أخوان الصفا   ويعتبر إدخال رسائل أخوان الصفا الى الأندلس من قبل الكرماني خطوة كبيرة في اتقاد ودفع تيارات الدراسات الفلسفية في الأندلس وتوسيع البحث فيها( ).لقد قام الخليفة الحكم المستنصر بإقامة سوق علمي في قرطبة تجلب اليه الكتب من شتى انحاء المشرق الذي كان مهد العلوم والآداب وكانت البصرة أحدى المدن التي قصدها تجار الكتب وجلبوا منها الكثير من المؤلفات حيث كان الخليفة المستنصر يرعى ويهتم بتجار الكتب "باذلاَ للذهب في استجلاب الكتب ويعطي من يتجر فيها ما شاء"( )فقد حمل أبو علي القالي الى الأندلس تراثاَ في الشعر والأدب حيث حمل دواوين الفرزدق الشاعر البصري المعروف وعندما عاد فرج بن سلام من العراق جلب معه كتاب (البيان والتبيين)وغيره من مؤلفات الجاحظ  وادخل قاسم بن ثابت العوفي السرقسطي الى الأندلس كتاب (العين) للنحوي البصري المشهور الخليل بن احمد الفراهيدي.
لم تكن الروابط والعلاقات بين الأندلس والبصرة محصورة في الجوانب العلمية والثقافية بل تعدتها الى الصلات الاجتماعية حيث ارتبطت الأندلس مع البصرة بصلات اجتماعية كبيرة ونلاحظ مثلاَ مدى التأثير الاجتماعي الذي أفرزته البيئة الاجتماعية البصرية على الأندلس من خلال أقامة العلماء والفقهاء والطلبة والتجار الأندلسيين في البصرة لفترات زمنية طويلة قد أدى الى امتزاجهم بالبيئة الاجتماعية البصرية وقد اخذوا عنها الكثير من العادات والتقاليد نقلوها عند عودتهم الى بلاد الأندلس لتضيف الى الحضارة الأندلسية طابعاَ جديداَ من سمات الحضارة البصرية  .
لقد اثر التواصل الحضاري بين البصرة وبلاد الأندلس بشكل واضح وملموس على ازدهار وتقدم الأندلس في شتى مجالات وحقول العلوم والآداب والفنون فعندما نتحدث عن التواصل الثقافي عبر التاريخ فأننا لم نجد مثالاَ أروع من الحضارة الإسلامية في الأندلس فقد كانت الجسر العظيم للتواصل بين الثقافة العربية والثقافة الغربية وهي بحق التقاء الحضارات بين الشرق والغرب مما نتج عن هذا التواصل ولادة الحضارة الأندلسية التي ساهم فيها علماء وفقهاء ومحدثي وأدباء البصرة بشكل واضح فقد أدى هذا التواصل الى النضج العلمي واكتمال بناء الشخصية العلمية الأندلسية والانطلاق بتلك العلوم التي حصلوا عليها من المشرق وتلك التي استنبطوها ذاتياَ نحو البلدان الغربية.




 


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


عبد الكريم صالح المحسن
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2015/09/20



كتابة تعليق لموضوع : تأثير الحضارة البصرية على حضارة بلاد الأندلس
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net