صفحة الكاتب : د . مصطفى يوسف اللداوي

العرب يفقدون الدولة ويغرقون في الفوضى
د . مصطفى يوسف اللداوي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

 الدولة هي أقصى درجات التطور الإنساني، وقمة الإبداع البشري، وقد استغرق الوصول إليها آلاف السنوات، تخللتها حروبٌ ونكباتٌ ومعارك واشتباكاتٌ، شطبت فيها شعوب، واستئصلت أمم، وغابت قبائلٌ وعشائرٌ، وتعاقبت قوى الغلبة والسلاح، وتراجعت المؤسسات الدينية والمرجعيات الكهنوتية، واندثرت الإقطاعيات وطبقات الأشراف والنبلاء، مما جعل الوصول إليها يعتبر قمةً في التطور الاجتماعي والإنساني.

إذ نقلت الدولةُ الإنسان من الفوضى والاضطراب إلى النظام والاستقرار، ومن الظلم وشريعة الغاب إلى العدل في ظل القضاء وسيادة القانون، وهي التي منحت الإنسان أمناً وسلاماً واستقراراً، وضمنت له حقوقه وممتلكاته، وكفلت له مستقبله وحاجاته، وأعطته هويةً وشخصية، وفرضت على الآخرين احترامه وتقديره، وطالبت بتسهيل حاجاته وعدم الاعتداء على حرياته أو انتهاك خصوصياته، وسنت القوانين ووضعت النظم، وتوعدت من يخالف القوانين المعمول بها والأعراف المسكوت عنها بالعقاب المناسب، والرادع الزاجر.

ربما كان العرب آخر الشعوب التي توصلت إلى إطار الدولة الحديثة، وآمنت بها والتزمت بشروطها وعملت وفق قوانينها، إذ سبقتهم إليها أوروبا بأكثر من مائة عام، رسخت خلالها بين شعوبها قيم الدولة، ومفاهيم الشراكة الاجتماعية، ومبادئ المدنية والديمقراطية، وأسست لفهمٍ شعبي عامٍ لقواعد العقد الاجتماعي الذي بشر به فرنسيس باكون وتوماس هوبز وجون لوك وجان جاك روسو وغيرهم.

وعلى الرغم من أن الدولة الأوروبية الحديثة وغيرها العديد من دول العالم لم تستقر على وضعها الحالي إلا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وتشكيل هيئة الأمم المتحدة، ومجلس الأمن الذراع القوي للأمم المتحدة، ومن قبل سادت بينها حروبٌ دمويةٌ مهلكة، استمر بعضها لعشرات السنوات، وقتل فيها عشرات الملايين من السكان، إلا أنها نجحت أخيراً في بناء دولٍ عصريةٍ حديثة، تحترم العقد الاجتماعي مع مواطنيها، وتلتزم تجاههم بكل ما تتطلبه حياتهم الكريمة، وعيشهم الإنساني.

أما نحن العرب، وإن كنا الأقدم حضارةً، والأعرق فكراً والأسبق وجوداً، فإننا نرفض أن نرتقي إلى مصاف الدولة الحديثة، ونصر على البقاء داخل محابس القبيلة والعشيرة ومراكز القوى والهيمنة، وإن كنا قد أدركنا مرغمين بحكم الحاجة وطبائع الأشياء بعض بعض أشكالها، والتزمنا الكثير من قوانينها، حتى باتت لدينا دولٌ توصف بالحديثة، وتصنف بالعصرية، رغم أن الأنظمة فيها بقيت استبدادية ديكتاتورية، تقوم على القهر والبطش، وتستند إلى الأمن والعنف.

إلا أنها قدمت للمواطن نموذجاً لعقدٍ جديدٍ، يقدم الكثير من الخدمات ولو كانت منقوصة، وقد رضي بها المواطن مرغماً أو قانعاً، واستسلم للقائمين عليها غير مطالبٍ بالمزيد من التحسينات، أو بالكثير من الحقوق، مخافة فقدان ما يتمتع به من القليل، الذي هو حقٌ تنص عليه القوانين وتكفله النظم، ولكنه يعلم أن الحكومات هي التي تهدد بنيان الدولة، وتمس سلامة ونزاهة مؤسساتها، وتعطل فعاليتها، ما يجعله يسكت على القليل الممكن، والبديل الأفضل، وإلا فهي الحرمان والعودة إلى قوانين الغاب وهيمنة الأقوى.

أمَّنت الدولة العربية الحديثة الكثير من الخدمات الاجتماعية، وبنت مؤسساتٍ وهيئاتٍ كثيرة، تعنى بالمواطن وتهتم به ما كان بعيداً عن السياسة، وغير مولجٍ بالأمن، أو لا يهدد الاستقرار الاقتصادي، ولعل خدماتها لا ترقى أبداً إلى مصاف خدمات الدولة الأوروبية الحديثة، ولا تبزها ولا تشبهها إلا في القليل، ولكن حدها الأدنى مكن المواطن من الاستقرار والإحساس بالطمأنينة والأمن النسبي، وبدأ يخطط لمستقبله الشخصي ومستقبل أولاده، واطمأن إلى أن أحداً لن يتغول عليه، ولن يعتدي على حقوقه في ظل الدولة المدنية الحديثة، ذات القوانين والأنظمة، وفي ظل القضاء والمحاكم، ولو كان في بعضه جائراً وغير عادلٍ، ومسيساً وغير قانوني، إلا أن الكيانات العربية باتت دولاً بهياكل ومؤسساتٍ وأنظمةٍ ولوائح.

الدولة العربية الحديثة التي كنا نتنسم عبيرها، ونتغنى بأمجادها، ونرضى بها على الرغم من كل عللها وأمراضها، التي تملكها مجموعة، وتستغلها جماعة، وتستفيد منها قلة، وتحرم من خيراتها الأغلبية، ويعيش فيها البعض حراً منعماً، ويعاني فيها آخرون سجناً وقيداً وذلاً، نراها اليوم تتهاوى وتسقط، وتنهار وتتراجع، وتتفكك مؤسساتها، ويتمزق نسيجها، وتنحل عُراها، وتتوقف خدماتها، وتتعطل مرافقها، وتغيب سلطاتها، وتضيع هيبتها، فلم يعد لها على أرضنا وجود، بعد أن أسقطتها الحروب الداخلية، والنزاعات  البينية، وحلت مكانها الفوضى والخراب، والفراغ والاضطراب، فما بقي منها أثر غير الاسم الذي قد لا يبقى واحداً، بل من المرجح أن يتشظى وينقسم، ويصبح أكثر من دولةٍ وكيانٍ، لطائفةٍ دينية أو لعرقٍ قومي.

لم يعد للدولة التي تطعم من جوع وتؤمن من خوفٍ وجودٌ، فساد في أرضنا اللصوص النهابون، وسيطر الأقوياء الظالمون، وعاث في أرضنا الفاسدون المنحرفون، فتكدست القمامة، وانتشرت الروائح العفنة، وتعذر العلاج والاستشفاء، وشق على الناس جمع قوت يومهم، أو ستر عيشهم، وعمت في وضح النهار وفي جوف الليل حوادث السرقة والنهب والنصب والاحتيال، وكثرت جرائم القتل والتشبيح والاعتداء، وأصبحت الشرطة مستأجرة، والقضاء يباع، والمحاكم تعقد بثمن، وتصدر أحكاماً بمقابل، وتفتح السجون بأوامر، ويزج فيها بأمر الحاكم الظالم البريئ والضعيف، والفقير والمحتاج.

اليوم باتت الشعوب العربية في أمس الحاجة إلى الدولة ذات الهيبة والسيادة، القوية العادلة، المنصفة المنظمة، التي تساوي بين المواطنين، وتحكم بينهم بالعدل والسوية، ولا تسمح في ظلها بالسلطات غير الشرعية، ولا تقبل بنشوء قوى ومجموعاتٍ عسكرية، تأخذ الحق بيدها، وتنفذ القانون وفق هواها، وتنشر الذعر بين مناوئيها، وتفرض الخاوة والأتاوة على معارضيها.

الحاجة ماسةٌ جداً بعد التجربة القاسية والمحنة الكبيرة التي عاشتها الأمة في ظل انقلاب الربيع العربي، إلى دولةٍ عربيةٍ مركزيةٍ، مدنيةٍ حديثةٍ، تلتزم الديمقراطية وتحترم القانون، وتضمن الحريات العامة، وتصون الحقوق الفردية والشخصية، وتحفظ الأقليات وتكفل حقوقهم، وتقدم مصلحة المواطن وتتفانى في خدمته، وتعمل على راحته وسعادته، وتتجنب ظلمه والإساءة إليه، وتكون مثالاً بها نتمسك، وعليها نحرص، وفي سبيلها نضحي، ومن أجلها نقاتل، فهل إلى هذه الدولةِ العتيدة التي تأخرت حيناً وغابت أخيراً من سبيل، فنحن في حاجةٍ إليها لنحيا ونكون، وبدونها فإن شريعة الغاب ستسود، والظلم سيعم، والفساد في أرضنا سيطغى.


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


د . مصطفى يوسف اللداوي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2015/06/28



كتابة تعليق لموضوع : العرب يفقدون الدولة ويغرقون في الفوضى
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net