صفحة الكاتب : حيدر الحد راوي

تأملات في القرآن الكريم ح 2
حيدر الحد راوي

سورة البقرة الشريفة
بسم الله الرحمن الرحيم
{الم }(1)
اختلفت مذاهب مفسري القرآن الكريم في معنى ودلالة هذه الحروف , فكل قد طرح ما يرتئيه , وقد بلغت الاراء الشئ الكثير , ولم يجزم احد , فيميل الاخرون الى هذا الرأي او ذاك , حسب ما تمليه ثقافاتهم , او ربما تعصبهم لشخص و مذهب المفسر , فيجب على المتأمل ان يكون خال من التعصب لرأي دون اخر , وان لا يميل لرأي غير مجزوم فيه , ويلزم الاعتدال والحياد , كي يصل الى تأمل معتدل وغير منحاز , على المبدأ القائل (( خذ الحكمة من افواه المجانين )) .
ان محمد صلى الله عليه واله قد ذاب في محبة الله تعالى , بل تفانى في عشقه جل وعلا , فلابد من اسرار لهذا العشق , فلا يدرك او يهضم تلك الاسرار الا من جرب , العشق الالهي الطاهر , وذاق حلاوته , وتمرغ في وحل كرامته , كحال العاشقين وخفاياهم ( الامثال تضرب ولا تقاس ) , ورموزهم فيما بينهم لا يفهما الا من جرب حالتهم , وتمرغ في وحلهم .
رسائل العاشقين فيما بينهم , مليئة بالشفرات , والرموز , متفق عليها سلفا , او يفهما الجانب الاخر , فالحر تكفيه الاشارة , كما وان الرسائل المتبادلة بين الناس , تخفي بين طياتها وسطورها معاني لا يفهما الا ذو لب لبيب , ومن تلك الاشارات , ما طلبه شعلان ابو الجون وهو قابع في السجن الاحتلال البريطاني , ان يحضر له تسع او عشر ليرات ذهب , فلم يكن المقصود الذهب بعينه , بل كان المقصود تسع او عشر رجال من شجعان القبيلة , فأسرع الطرف الاخر لتلبية الطلب حينما فكّ الشفرة , فكيف الحال لو كان المعشوق جل وعلا , والعاشق محمدا (ص واله ) , فما سيكون نوع تلك الشفرات ؟ , ومن يستطيع ان يحل لغزها ؟ ! .
يتأمل العبد العاشق في تلك الحروف , {الم } , التي زينت مستهل السورة الشريفة , فينطلق مسافرا بين الاسرار , طالبا المعاني , باحثا عن اسرار المحبة  , العشق , قاصدا الوصال , من بعد الهيام , فيقف لدى بعضها , وتعصي عليه اخرى , فيعود من حيث بدأ السفر والتأمل , فيعد العدة لسفر متأمل جديد .  
ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ{2} للمتأمل ان يقف لدى ( المتقين ) , فالله جل وعلا يصفهم بالتقوى , واخرين يصفهم بغيرها , كالمؤمنين و المحسنين الى غير ذلك من الصفات الحسنة , النقطة الجميلة في الموضوع , هي ان الله جل وعلا وصفهم بذلك , واسدل عليهم تلك الالقاب والنعوت , (فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى }النجم32 .
المتقي بعد ان هداه الله عز وجل لابد له من دستور , وقانون يبين له الحدود , فكل دولة تتخذ دستورا لها , وقانون تسوس به العباد , من وضع البشر , فكيف الامر بكتاب انزله الله عز وجل  ليكون دستورا وقانونا لكل الدول وعامة الناس ! .
الجدير بالملاحظة , ان الله جل وعلا يشير الى ( ذلك الكتاب ) , ويقول عنه ( لا ريب فيه ) , ويصفه بأنه ( هدى للمتقين ) , فأن في ذلك دلالات واضحة لمن خبر اللغة العربية , ومحل تأمل في بلاغة وفصاحة كتاب الله عز وجل ! .
يسافر المتقي في كتاب الله , متنقلا بين حروفه وكلماته , سوره واياته , بين اوامره ونواهيه , حلاله وحرامه , مستحباته ومكروهاته , حدوده وتعزيراته , فيقف عند كل منها وقفة تأمل , فيقع بصره على غيبياته , وتنكشف بصيرته عن مكنوناته , فيصحو من غفلة , لازمته طويلا , فغطت بصره و بصيرته , {لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ }ق22 , فينظر بحدة البصر , لبديع اسراره , فينهل منها منهلا عذبا , سائغ شرابه , فيشرب منه شربة لا يظمأ بعدها , الا في عشق تلاوته , وحلاوة انسياب كلماته , فيعود من سفره , غانما بعذب الشراب .

الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ{3} والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ{4} أُوْلَـئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ{5}
تصف الايات الكريمة صفات المتقين , , في ست علامات , هي  الايمان بالغيب واقامة الصلاة والانفاق , و الايمان بما انزل على النبي محمد ( ص واله ) والايمان بما نزل قبله ( ص واله ) والايمان بالاخرة بدرجة اليقين .      
المتأمل يقف عند الاية  ( أُوْلَـئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ){5} , فيلتفت الى ان فيها مقطعين , الاول (عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ ) والثاني (أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) , فينسب كلا من ذينك المقطعين الى اية من الايات السابقة , أي ان (عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ ) في مقابل الاية (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ) {3} , فمن مستلزمات العبد المهتدي بهدى الله عز وجل , ان يؤمن بالغيب , ويقيم الصلاة , وينفق مما رزقه جل وعلا , اما الاية (أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) في مقابل الاية (والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ){4} , أي ان المتقي الذي يؤمن بما انزل اليه ( ص واله ) وما انزل قبله ( ص واله ) ويوقن بالاخرة , اضافةالى الهدى الذي ناله , فقد احرز مستلزمات الفلاح .
وهكذا يكون القرآن الكريم يشرح بعضه البعض , واياته متداخلة ومترابطة بشكل عجيب ! .
يعرف علماء الفقه الصلاة , بأنها صلة بين العبد وربه , فيسافر العبد متصلا بربه , متنقلا بين حركات الصلاة , القيام والركوع والسجود , تاليا كل ما فيها من كلام , فيبدأ بالسفر عند التكبير , فيترك الخلق , متمسكا بحبل الله , فيرتقي بين الحركات والسكنات , فيقف على اسرار الهدى , وتتجلى له معاني الفلاح , فيملئ جعبته , بعد ما نال نصيبا من بغيته , فيعود ليسافر بين الخلق الى الحق بالحق , بعد السلام والفراغ من الصلاة .

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ{6} خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ{7} يقف المتأمل في المقارنة بين المتقين في الجانب الايجابي , ما يقابلهم في الجانب السلبي , مقارنة ليست من فعل وعمل البشر , بل هذه المقارنة مما اشار به عز وجل , وهو اعلم بكم من انفسكم , فيجيل المتأمل نظره بين الطرفين .
فينظر في تكريمه عز وجل للمتقين ومن حذا حذوهم , فيصفهم بأفضل الاوصاف , ويمدحهم بأجمل ما يكون من مديح , ويبين نهاية المطاف لهم , (أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) , فيتمنى ان يكون منهم ! , ويمعن النظر في ما يقابلهم , فينعتهم الله عز وجل بابشع النعوت , وينتهي بهم المطاف , (وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ ) , فيختار مع من من الطائفتين يحب ان ينتهي به المطاف , {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ }البلد10 .
 فيسافر المتقي في الجانب السلبي , فينظر لحال هؤلاء واحوالهم , في هذه الدنيا الفانية , وما ستؤول اليه في العالم الاخر , ويمعن النظر في مدى تماديهم و كفرهم بالله رب العالمين , وسيدرك استحقاقهم للعذاب الذي اعده الله لهم , فيتبرأ منهم ومن عملهم , وينطلق الى رحاب المتقين , فينظر في حالهم وحالاتهم , ومدى الكرامة التي ظفروا بها , لا لشيء الا انهم اطاعوا الله جل وعلا , فيعلن موالاتهم , لينطلق الى سعة كرم الله ولطفه , فيشاهد من لطفه وكرمه ما لاحدود له , ولا تصفه الالسن والاقلام , فيجثو على ركبتيه ساجدا لله رب العالمين , لما حباه من خير عميم , فيعود للخلق , مصحوبا بنعمة الحق .

 

وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ{8} يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ{9} فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ{10} تذكر الايات الشريفة طائفة ثالثة , هم اقرب الى الجانب السلبي , ولهم نفس النهاية والمطاف , في حين انهم يتظاهرون بأنهم مع الجانب الايجابي ( المتقين ) , ويصفهم الحق تعالى بأنهم يخادعون الله والمؤمنين , فكيف يخدعون الله وهو اعلم بالسرائر ! , اما المؤمن فلديه فراسة , تدعى فراسة المؤمن ((اتقوا فراسة المؤمن؛ فإنه ينظر بنور الله)) , لذا فلا يمكن خداع المؤمن ايضا , فيقول عنهم عز من قائل ((مَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ )) , ويعلل الله عز وجل وينسب ذلك الخداع , الى مرض في قلوبهم , وما اخطر صاحب القلب المريض ! .
امراض القلب كثيرة , وهي على قسمين : الاول عضوي , والثاني روحي ( روحاني ) , من المحتمل جدا , ان الاية الشريفة قصدت النوع الثاني , فالامراض العضوية كــ ( الصمامات , احتشاء العضلة القلبية .... الخ ) لا تعني تجرد صاحبها من الايمان والتسليم لامر الله عز وجل , بل على العكس من ذلك , نجد الكثير من المؤمنين يعانون  من امراض قلبية , وبعضهم لاقى الاجل من جرائها , اما الذين ذكرتهم الاية الشريفة يتمتعون بصحة جيدة , ولا يشتكون امراضا قلبية عضوية .
ان امراض القلب الروحية كثيرة , فمنها النفاق , الشك , الريب , الفجور , الزيع , الحقد وغيرها , ولعل اشدها النفاق , فيكون المنافق خطرا على نفسه , حيث توعده الله عز وجل بالمزيد من المرض ((فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ{10} )) , وخطرا على المجتمع الذي يعيش فيه , كونه اسرع الناس غدرا وخيانة , وابعدهم عن الله جل وعلا.
فيسافر المتقي في عالم القلب الباطن , مستكشفا امراضه , فيبحث عن الطبيب , طبيب روحاني , يشخص المرض , ويصف الدواء , يستمر على هذا الحال , حتى يستكمل شفاء قلبه من جميع الافات الروحية , فيتكامل صفاءه , فينطلق بقلبه الى الطبيب الاول والاخير , طب القلوب وطبيبها , فيزداد قلبه تكاملا وصفاءا .


وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ{11} أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَـكِن لاَّ يَشْعُرُونَ{12} بعد ان ذكرت الايات الشريفة , ثلاث فئات من الناس , الاولى المتقين , والثانية الذين كفروا , والثالثة الذين في قلوبهم مرض , وبينت حال كل منهم , فعرجت الايات الشريفة التالية على ذكر اعمالهم , ولعل ابشعها ( الافساد في الارض ) , حيث يعمّ الافساد كافة انحاء المعمورة , ويتخذ اشكالا مختلفة .
فمن الافساد ما يشمل الانسان , حيث انتشار الرذائل , وغياب القيم الانسانية , ومن الافساد ما يشمل الطبيعة , من قبيل كافة انواع التلوث في مياه البحار والمحيطات والانهار , و التلوث الجوي , كظاهرة الاحتباس الحراري , ونقص المزروعات , و نمو ظاهرة التصحر .... الخ .
لعل الايات الشريفة تقصد فساد سريرة الانسان , التي لو صلحت , صلحت الدنيا بما فيها , وان فسدت اهلكت الحرث والنسل ! .
فينطلق المتأمل في سفر بين الخلق , فيشاهد اثار الفساد والافساد , فينظر في العباد , فأيما عبد قد عفسد , ذهب عنه النور , واكتنفته الظلمة , فأغشت بصره وبصيرته , حتى لا يكاد يفقه شيئا , وينظر في البلاد , فأي بلد  قد  فسد , حلت فيه النقمة , وعظم فيه البلاء , وايما بلد صلح , كثرت خيراته , وازداد نماءا , فينطلق لابعد من ذلك , فيهيم مسافرا له تعالى , مؤملا ان ينال الصلاح , فمنه تعالى مصدر الصلاح , والعصمة من الفساد .


وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء وَلَـكِن لاَّ يَعْلَمُونَ{13} وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ{14} اللّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ{15} أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ{16} مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ{17} صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ{18} أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ واللّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ{19} يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ وَلَوْ شَاء اللّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ{20}
ان الذين في قلوبهم مرض يصفون المؤمنين بالسفهاء , فيرد عليهم الباري عز وجل بأنهم هم السفاء ولكن لا يعلمون , ذلك لانهم ينظرون للمؤمنين من زاوية ضيقة , ونقطة ظلماء في قلوبهم المريضة , تزين لهم اعمالهم , فيتصورون انهم على حق , وفي طريق قويم , وتقبح لهم قلوبهم المريضة اعمال المؤمنين , من صيام وصلاة , وكافة الاعمال التعبدية , والاعمال الخيرية على انها نوع من السفاهة , فيذهبون الى ان كرم المؤمن وايثاره من السفه , والقدرة على السرقة مع الامكان نوع من انواع الحمق ! ... الخ .
ينظر المتأمل في امرهم , فاذا التقى أي فرد من ذوي القلوب المريضة ايما مؤمن , تظاهر بالايمان , وابدا همته للقيام بكافة اعمال الخير , وحين يقابل من هم على شاكلته , يؤيد بعضهم البعض , ويتنكرون للايمان , ويسخرون من المؤمنين , فلماذا كل هذا التظاهر ؟.. وما الداعي لكل هذا المراء والنفاق ؟ .. فقد يكفي المرء ان يقول انا أؤمن بهذا الامر , ولا اؤمن بذاك .
 ولينظر المتأمل الى نظرة الله تعالى لهم , فهو جل وعلا اعلم بما في انفسهم , فلا يمكنهم تمرير مثل تلك الألاعيب عليه جل ثناؤه , وليقف طويلا متاملا هذا المنظر , حيث ينفاق هؤلاء , والله يراقبهم , بل (اللّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ) .
 أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ{16} يصفهم الحق تعالى بأنهم قد اشتروا الضلالة , وباعوا الهدى , فخسرت تلك التجارة , ولا يمكن للتاجر الخاسر من ان يهتدي الى سبل النجاح , فقد باع اجود ما عنده من بضاعة , واشترى بثمنها أردأ البضائع وابخسها ثمنا , تلك هي المتاجرة معه تعالى , وتقوم على اساس الايمان به تعالى , و اداء الواجبات , واجتناب المحرمات , والمكروهات , في مقابل ذلك يحصل المؤمن على الثواب الجزيل , خالصا منه تعالى , فيالها من تجارة ! , لا يخسر تجارها , ولا تفسد بضاعتها على مر الدهور .
مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ{17} , الله تعالى ضرب الكثير من الامثال , في العديد من المواقع والمواقف , الهدف منها تقريب المعنى للاذهان , وفتح العقول للتفكر , ففي كل قلب مريض , هناك ظلمة , لاتبارحه حتى يستنير بنوره تعالى .
صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ{18} , تلك الظلمة غشت حواسهم , ليست الحواس الجارحة , بل الحواس الروحية , فلا يسمعون قول الحق , ولا يبصرونه , ولا يمكنهم النطق به , فكم هو خائب وخاسر من كان كذلك ! .
أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ واللّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ{19} يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ وَلَوْ شَاء اللّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ{20}
وتتوالى الامثال , تختلف في المحتوى , ولها نفس المضمون , نظرا لعظم امر الكافرين والمنافقين , ضرب الله تعالى عدة امثال لهم , مبينا حالهم في هذه الدنيا الفانية , وعيشهم في ظلام دامس , مجردين من القيم الروحية والمعنوية , فيسرحون ويمرحون كالبهائم , بل اضل سبيلا .
ينطلق المتامل مسافرا في هذا النوع من التجارة , فينظر في اسرارها , ويقف عند مواقف عرضها , ويتجول في اسواقها ( المساجد و كافة المقدسات الاسلامية ) , ويمعن النظر في تجارها , واوفرهم حظا منها , واكثرهم ممارسة لها , فيتعلم منهم , ويقتبس من تجاربهم , فيتاجر هو فيها , فينطلق الى الحق , فيعرض تجارته , ويقدم ذنوبه وندمه , وكل ظلمة كانت تغشاه بين يديه , فيقول ((يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ }الأنبياء97 .


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


حيدر الحد راوي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2011/05/24



كتابة تعليق لموضوع : تأملات في القرآن الكريم ح 2
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net