صفحة الكاتب : د . مظفر الشريفي

حُكم أسرى معركة بدر
د . مظفر الشريفي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

بسم الله الرحمن الرحيم

استشكل بعضهم على قوله تعالى في الآية 67 من سورة الأنفال: ((مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسرَى حَتَّى يُثخِنَ فِي الأَرضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)) ونسب لكل التفاسير أنها تعني "حتى يبالغ في قتال أعدائه، أو يكثر في قتل أعدائه" وقال: "تجد في معنى من المعاني ان الله كان يريد مزيداً من القتل ومزيداً من الدماء والنبي كان يريد عكس ذلك، ربما بسبب حبه لقومه فكان لا يرغب بقتلهم. كل التوجيهات ومحاولات تلطيف تفسير هذه الآية لم تكن مقنعة والله المستعان".

ليس من اليسير اقناع من اغتر بما عنده من الظن وحَسِبَه علماً، خاصة إذا كان مبنياً على بعض العقد والأزمات التي يعاني منها. ومن السهولة بمكان أن يكيل التهمَ من لا يؤمن بأن القرآن الكريم هو كلام الله تعالى. أما من يؤمن بهذا ويعتقد أن الله تعالى رحيم بعباده حكيم فيما يفعل غني عن خلقه عدل لا يحتاج إلى الظلم فإنه سوف يتأنى بإطلاق الأحكام على ما لم يفقهه وما لم يتناسق مع مفاهيم عصره.

من الواضح أن هذا المُستشكل إما ينافق بإخفاء عدم إيمانه بالكتاب العزيز أو إنه يعاني من انفصام بالشخصية لأنه يقول بأن الله هو المستعان بعد أن شكك بعدله سبحانه وصدق كتابه. وعلى كلٍ فلو تأمل المنصف في هذه الآية الكريمة وقاس أحكام القرآن الكريم مع ما كان متعارفاً في زمان نزوله أو قبله من سنن الأمم غير المؤمنة التي انتشرت في الأرض لرأى أن القرآن الكريم قد سبقها في ترسيخ المفاهيم الإنسانية من مختلف الجوانب. وأحد هذه الجوانب هو التعامل مع أسرى الحرب، حيث لم تكن هنالك ضوابط وقوانين تلزم الجنود بالتعامل الإنساني، بل كان المنتصر في المعركة يمتلك حياة من يقدر عليه من العدو ويعامله حسب ما تقتضيه مصلحة الجيش المنتصر أو حسب ما يشبع غرائزهم الوحشية. وقتل الأسرى كان معروفاً وبأساليب وحشية. ومن يدخل في حرب فهو يتوقع كل شيء من عدوه.

أما الإسلام فقد قنن التعامل مع الأسير وفق مصلحة الحرب ووفق مفاهيم احترام الإنسان وإعطائه الفرصة كي يفقه دين الله تعالى. وما في الآية الكريمة أعلاه فإن هذا كان في بدء الإسلام وقلة أعداد المسلمين، وكانت الحاجة ماسة كي يُظهر الجيش الإسلامي قوته بترهيب أعدائه الذين قامت الحجة عليهم بدعوة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله لهم للإسلام ونبذ الشرك بالله سبحانه. لذا فالمسألة ليست مسألة حب بإراقة المزيد من الدماء بل هي مسألة وجود أو عدم وجود للإسلام نفسه أمام عدو كبير متغطرس يفوقهم عُدة وعدداً هو جيش مشركي قريش في معركة بدر، وكان لا بد من قهره كي يستمر الدين الجديد. وهذه الغلبة لا بد أن تنشر الرعب في قلوب هذا العدو وبقية أعداء الدين الذين لم يتحملوا الرأي الآخر الذي مثّله النبي صلى الله عليه وآله ولم يدَعُوه ينشر فكره بحُرية ولم يقارعوا الفكر بما عندهم من فكر، بل لجئوا إلى الإرهاب بالقتل والتعذيب وتشويه السمعة والتهجير والحصار كما فعلوا في شعب أبي طالب. ولم يكن للمسلمين خيار للدفاع عن مبادئهم إلا بالتصدي العسكري للمشركين. وأمام خطر استئصال المسلمين ودينهم يهون ما دونه للحفاظ على هذا الهدف الأسمى. لذا كان الأمر الإلهي بعدم أخذ أسرى قبل أن يتمكن المسلمون ويسيطروا على زمام المعركة. أما بعد السيطرة فيُمنع قتل الأسير. ولا دلالة في الآية الكريمة على ما ذكره المُستشكل بأن الله تعالى يريد مزيداً من الدماء والنبي صلى الله عليه وآله لا يريد هذا كما سيأتي فيما وضحه تفسير الأمثل.

وهلا ذكر هذا المُستشكل ما ورد عن إطلاق سراح من يُعلِّم عشراً من المسلمين القراءة والكتابة وهلا ذكر باقي ما ورد من التعامل الإنساني مع المشركين كما في قوله تعالى: ((وَإِن أَحَدٌ مِنَ المُشرِكِينَ استَجَارَكَ فَأَجِرهُ حَتَّى يَسمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبلِغهُ مَأمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُم قَومٌ لا يَعلَمُونَ)) وهلا ذكر الهمجية التي كان عليها المشركون وقسوتهم في التعامل مع المسلمين كي يتضح عذر المسلمين في قتلهم حتى لو كان انتقاماً منهم، وهذا ما لم يفعلوه، بل إن ما حدث كما ذكرنا هو من مقتضيات تحقيق النصر في المعركة وليس الانتقام. ولا ريب إذا كان هنالك تزاحم بين النصر في المعركة وحفظ نفوس المسلمين وبين عدم استبقاء الأسرى قبل السيطرة على زمام المعركة فلا يقول عاقل إلا بما أمر به القرآن الكريم.

ثم هلا قارن المُستشكل بما تفعله الأمم المعاصرة التي يسمونها بالمتحضرة مع الشعوب التي تسيطر عليها وهلا تذكّر هيروشيما وناغازاكي وهلا تذكّر احتلال دول وقتل الكثير من أبنائها المدنيين والأسرى العسكريين بلا مبرر وبلا مراعاة لأدنى حقوق الإنسان كما حدث في الحربين العالميتين وفي الكثير من الحروب، وما أمر العراق وأفغانستان ببعيد.

ولتوضيح ما يتعلق بالآية الكريمة ننقل ما ذكره في تفسير "الأمثل" ج5: 

(وقال بعض المفسّرين: إنّ معنى «حتى يثخن في الأرض» يدل على المبالغة والشدّة في قتل الأعداء، وقالوا: إنّ معنى ذلك أن أخذ الأسرى ينبغي أن يكون بعد مقتلة عظيمة في الأعداء ولكن مع ملاحظة كلمة «في الأرض» والإِلتفات إِلى جذر هذه الكلمة الذي يعني الشدّة والغلظة، يتّضح أن معنى الآية ليس هو ما ذكروه، بل القصد هو التفوق على العدو تماماً وإظهار القوّة والقدرة وإحكام السيطرة على المنطقة. إلاّ أنّه لمّا كان في قتل الأعداء وإبادتهم دليل على السيطرة وإحكام مواقع المسلمين أحياناً، فإنّ من مصاديق هذه الجملة في بعض الشروط قتل الأعداء، وليس هو مفهوم الجملة الأصيل.

على أية حال، فإنّ الآية تنبه المسلمين إِلى نقطة مهمّة في الحرب، وهي أنّ عليهم عدم التفكير والإِنشغال بأخذ الأسرى قبل إندحار العدوّ بالكامل، لأنّ بعض المسلمين المقاتلين - كما يستفاد من بعض الرّوايات - كان جلّ سعيهم هو الحصول على أكبر عدد من الأسرى في ساحة بدر مهما أمكنهم، لأنّ العادة كانت أن يُدفع عن الأسير مبلغ من المال على شكل فدية ليتم الإِفراج عنه بعد نهاية الحرب. ويعدّ هذا الأمر عملا حسناً في بعض المواقع، إلاّ أنّه عمل خطير قبل أن يطمأن من اندحار العدو كاملاً، لأنّ الإِنشغال بأسر العدو وشدّ وثاقهم ونقلهم إِلى مكان آمن، كل ذلك يبعد المقاتلين غالباً عن أصل الهدف الذي من أجله كانت الحرب، وربّما يمنح العدو الجريح فرصة لجمع قواه وإعادة هجومه، كما حدث في غزوة أحد، حيث شغل بعض المسلمين أنفسهم بجمع الغنائم، فاستغل العدوّ هذه الفرصة فأنزل ضربته الأخيرة بالمسلمين.

وبناءً على ذلك فإنّ تأسير الأعداء يجوز في صورة ما لو حصل اليقين بالنصر الساحق عليه، أمّا في غير هذه الصورة فيجب توجيه الضربات الشديدة والمتتالية لهدم قوات العدو وشلّها فإذا حصل الإِطمئنان بذلك فإنّ الأهداف الإِنسانية توجب إيقاف القتل والإِكتفاء بأسرهم. وقد أوضحت الآية هاتين النقطتين المهمتين: العسكرية، والإِنسانية، في عبارة موجزة. ثمّ ألقت باللوم على أُولئك الذين خالفوا هذا الأمر فتقول: «تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة». «والعرض» يعني الأُمور غير الثابتة، ولما كانت الذخائر المادية غير ثابتة في هذه الدنيا فقد عُبّر عنها بالعرض.)


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


د . مظفر الشريفي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2021/11/17



كتابة تعليق لموضوع : حُكم أسرى معركة بدر
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net