صفحة الكاتب : محمد زكي ابراهيم

مدن داعشية
محمد زكي ابراهيم

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

كان المتطرفون الذين أعلنوا الجهاد على بلدان عربية كبرى، مثل سوريا والعراق، ينتقون المدن التي يدخلونها انتقاء، ويقصدونها دون غيرها قصداً.  فهي أماكن رسمت لهم بدقة، ووضع لهم فيها كل ما يحتاجونه من متاع.

ولم يأت اختيارها اعتباطاً، بل لاعتبارات عديدة أهمها وجود أغلبية سنية كبيرة، يحتمون بها أول الأمر، ويحصلون منها على الدعم والمساندة في ما بعد. وقد يمكثون فيها أياماً وأسابيع قبل أن يظهروا للعيان. هذه الميزة لا تتوفر بالطبع في مناطق ذات مكونات مذهبية ودينية مخالفة. ولا يمكن لهم الاستقرار فيها قبل طرد سكانها منها.

لكن المفارقة أن هذه المدن التي آوتهم، ومدت حبل المودة لهم، ستتحول بعد وقت قصير إلى خرائب، يتعذر فيها العيش. ويعمد أهلها إلى الهجرة إلى المناطق ذات الغالبيات الأخرى، ليقضوا أيامهم فيها داخل مخيمات وملاجئ ومعسكرات تفتقد للكثير من وسائل الراحة.

إن نظرة سريعة واحدة إلى مدن مثل حلب وحمص وتكريت والرمادي والفلوجة تكشف بوضوح أنها تضررت بشكل كبير، وفقدت معظم معالمها السابقة. لأنها غدت جبهات قتال يومي، صبت فيها أطنان من القنابل والمتفجرات من الأرض والجو، حتى انتزعت من الغلاة انتزاعاً. وفي خضم ذلك مات الآلاف من السكان، لا فرق بين رجل وامرأة وطفل. وفقد الأهلون كل مقتنياتهم. ووجد كثير منهم نفسه في فقر مدقع، فيمم وجهه شطر أوربا والغرب، كي يحظى بحياة طبيعية ينسى فيها بلاده، وما حل بها من هوان.

أما المدن الأخرى التي امتنعت على هؤلاء الغرباء، واستعصت على مقاتليهم، فبقيت على حالها آمنة مطمئنة، لم تتعرض للخراب، ولم تتوقف عن الحركة. وجرت فيها الحياة بشكل طبيعي رغم كل ما لحقها من عدوان.

ولست أعلم هل سأل سكان المدن المنكوبة أنفسهم لماذا جرى عليهم كل هذا. ولماذا وقعت بهم دون سواهم هذه المصائب. ولماذا بقي سواهم في مأمن. ولماذا لم يقاوموا مثل غيرهم جماعات القتل والتدمير، حتى يصفو لهم الجو وتستقيم لهم الأمور؟

سيقول كثير منهم، أن روسيا وإيران والولايات المتحدة مدت لجماعات الممانعة يد العون وأسهمت في ضرب خصومهم بألوان القذائف! وكأن في ذلك بأس أو عيب! وكأن على الشعوب  أن تسلم رقابها صاغرة، وتستسلم لجلاديها دون مقاومة.

منطق غريب لا يكاد يفارق من عميت عيناه عن الواقع، وصمت أذناه عن سماع الحقيقة. وهو ذاته يلتمس العون كل يوم من بلدان أخرى.

كان على هؤلاء أن يفكروا ملياً لماذا يدفعون هم الثمن، ولماذا يلحق بهم الأذى، ولماذا يتحاشى مواطنوهم في المدن الأخرى هذه النهاية.

ولو فعلوا ذلك لأدركوا أن هناك شيئاً ما في تركيبتهم يتسبب بكل ذلك. فاحتماء داعش والقاعدة والنصرة .. ألخ بهم، دليل على وجود قرابة فكرية معهم. وحلولهم بين ظهرانيهم دليل على قبولهم بما يروجونه من أفكار.

أما نفورهم منهم بعد شهور أو سنوات من مقاسمتهم العيش، فبرهان على تطور عقائدي، يظهر نتيجة المخالطة والتجربة والنقد والتحليل.

أما تطوع مئات الآلاف من الرجال القادمين من مدن غير سنية، لمقاتلة هؤلاء فدليل على فكر ستراتيجي بعيد الغور، وفراسة فطرية كثيرة النضج. فلا يريد هؤلاء الشبان أن تنتقل المصائب إلى ديارهم، ولا يريدون أن تهيم نساؤهم في الأرض، ولا أن يتشرد أطفالهم في القفار.

لا بد للمدن التي مزقها داعش أن تتعظ مما أصابها من أذى، وتدرك أنها انهزمت أمام منظمات إرهابية، خدعت بها في غفلة من الزمان.

ولا بد لها أن تقر بعدم حاجتها لأفكار بدائية، كتلك التي جعلت منها خرائب وأطلالاً. لأنها لا تمت للمدنية ولا للحضارة بصلة. 


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


محمد زكي ابراهيم
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2017/03/11



كتابة تعليق لموضوع : مدن داعشية
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net