صفحة الكاتب : حسن الهاشمي

زيارة الأربعين وأثرها في وحدة المسلمين
حسن الهاشمي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

ليس الغرض من حث أهل البيت (ع) على زيارة الأربعین مجرد العبادة بل من الغايات المهمة توحيد صفوف المسلمين في منهج واحد، بل تجعل من المؤدين لها قدوة ايمانية صلدة لم تخضع للظلم والجور، وكيف لا وانها جسدت الاسلام بما هو لا بما جيّره الطغاة لمصلحتهم؟!

كما ان ملابس الإحرام البيضاء وترديد الحجاج عبارة “لبيك اللهم لبيك” توحّد المسلمين جميعاً خلال أدائهم الأعمال العبادية في مراسم الحج من كل عام، وكما ان في شهر رمضان المبارك، ثمة فرصة اخرى توحّد المسلمين ليس في مكان معين، وإنما على موائد الاسحار والافطار، فالغني والفقير، يجتمعون في وقت واحد لتناول الطعام والشراب، فيمسكون ويفطرون، كذلك ان في مراسم إحياء اربعين الامام الحسين عليه السلام، وهي من شعائر الله تعالى ثمة فرصة اخرى ومن نوع خاص، لتعزيز أواصر الأخوة والتقارب بين المسلمين، وهذه المرة في زمان ومكان واحد؛ وهو الطريق المؤدي الى كربلاء المقدسة، حيث يلتقي الايراني والخليجي والباكستاني والافغاني واللبناني والافريقي، ومن مختلف انحاء العالم، في منظر ربما لا يتكرر في أي مكان آخر.

من أبرز ما تنتجه الأخوّة؛ مشاعر المسؤولية الجماعية، كما الأسرة الواحدة التي يشعر الأب بمسؤوليته إزاء أبنائه أو الأخ إزاء إخوته، فلا يحصل التبرؤ والتنصّل من المسؤولية إلا في حالات خاصة تتبع اسباب وعلل معينة، ولعل هذا ما يفسّر المؤاخاة التي بادر اليها رسول الله صلى الله عليه وآله في أولى خطواته لتأسيس المجتمع الاسلامي لدى دخوله المدينة، عندما آخى بين المهاجرين والانصار، فلم يبق سيد وعبد، او فقير وغني، او من ينتمي الى هذه المدينة او تلك القبيلة، الا ودخل فسطاط الوحدة من أوسع أبوابها، وبعدها كان للنبي الاكرم كلمته المدوية: “كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته”. التي تذوب فيها كل الفوارق وتحمّل الانسان مسؤولياته حيال نفسه وأهله ومجتمعه، بل ان أمير المؤمنين عليه السلام تعدى الأخوة الاسلامية ودعا الى الاخوة الانسانية في عهده الى مالك الأشتر قبل ان يتسلّم ولاية مصر قائلا: “الناس صنفان، إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق” فالأخوة تمثل احد المفاصل المهمة في كيان المجتمع الاسلامي.

الاعتصام بحبل الله هو اعتصام بالأحكام والمثل والقيم الإلهية، والتفرّق عنها هو اعتصام بحبل الشيطان وما يكرسه في النفس من فساد وظلم وانحطاط، كاد الفساد والعصبية القبلية والقومية والبدع والضلالة الذي شهده الحكم الأموي البغيض يؤدي الى الانفجار ضد النظام الاسلامي برمته، والرجوع الى الجاهلية الأولى، لولا نهضة الامام الحسين عليه السلام، التي أعادت الروح الى الاسلام بكل مفاصله، ومنها الأخوة الاسلامية.

وفي زيارة الاربعين درسٌ بليغ للشعوب كافة بأن النهضة الحسينية تعطي رسالة دقيقة وواضحة لهم وللعالم بعدم وجود اجنبي وغريب بين ابناء الدين الواحد الذي ضحّى الامام الحسين وأهل بيته من أجل إحيائه وإحياء قيمه ومبادئه، وحتى من الناحية الشرعية فان من غير الجائز التمييز بين ابناء الدين الواحد بلفظ “الاجنبي” اذ لا يحق للمسلم أن يسمي أخاه المسلم أجنبياً، ولا أن يحرمه من مزاياه، مهما كان بينهما اختلاف في اللون أو العنصر أو الإقليم، فإنّ الأجنبي في لسان الدين هو غير المسلم، واطلاقه على المسلم خلاف صريح للآيات والروايات الكثيرة، وخلاف حق المسلم على المسلم، إضافة إلى أنه أسوأ من التنابز في الألقاب، الموجب لانفصام وحدة المسلمين، وما نراه جليا بإطلاق كلمة “زائر الامام الحسين” بحق جميع المشاركين في زيارة الأربعين بغض النظر عن انتماءاتهم الجغرافية والقومية، هو تعبير صادق لمبادئ الدين الاسلامي القويم.
وهنا تبرز مصداقية عملية ارتباط النهضة الحسينية بالرسالة المحمدية على الصعيد الاجتماعي، فقد أزال النبي الأكرم، حاجزين اساسيين؛ الاول: الحاجز الجغرافي، بأن وحّد بين بلاد المسلمين، والثاني: الحاجز النفسي، بأن وحّد بين القلوب وجعل المعيار؛ التقوى والايمان والعمل الصالح، وليس العرق او اللغة او القومية او المستوى الاجتماعي، وبفضل هذا النسيج الاجتماعي المتألق انطلقت الحضارة الاسلامية الى أعالي التقدم العلمي والمعرفي وقدمت ما قدمت من انجازات ما يزال علماء الغرب يشهدون لها بالفضل.

ومثلما التحم في كربلاء الحسين، العبد بالسيّد (مولى أبي ذر)، بل المسلم بالمسيحي (وهب) ليصنعوا الملحمة التاريخية المدوية والهادفة الى إصلاح ذات الانسان، ومنذ تلك الواقعة، اضحت كربلاء مصدر إلهام للثوار والمصلحين من البلاد الاسلامية وحتى غير الاسلامية، كذلك التحم العربي بالأعجمي في أعظم كرنفال حسيني يشهده العالم ليصنعوا ملحمة اجتماعية قلما تجد لها نظيرا في التاريخ من التآخي والكرم والايثار والتسابق الى تجديد العهد مع معشوقهم سيد الاصلاح الامام الحسين عليه السلام في أربعينيته الخالدة.

ان سيرة اهل البيت سلام الله عليهم هي مدرسة لا تنفذ، لما فيها من المواقف والصور والحكم، وقضية الامام الحسين(ع) هي نبراس للأمة جمعاء، نرى الكل اصبح له دورٌ في تلك المعركة المقدسة الرضيع والشاب والشابة والطفلة والعجوز والرجل والمرآة، وحتى الحيوان الكل كان له دور ليس بالهين، المسلمون بصورة عامة والشيعة بوجه خاص يتخذون من عاشوراء وزيارة الأربعين، كمحطة لإعادة تأهيل الروح والفعل والافكار.

فالرجل يتصف بصفات واقعية تنم على التقوى والايمان والغيرة والحمية على الدين والعيال، ونرى ذلك ممن ترك عياله وزوجته ودنياه طلباً لرضا الله تعالى وشفاعة مولاه الحسين(ع)، والمرأة تأخذ مثالاً وقدوة من الصبر والعفة والتقى من زينب الكبرى عليها السلام، وحتى الطفل والفتيان لهم بالرضيع والقاسم عليهما السلام خير قدوة وأسوة، فكل هؤلاء يستطيعون ان يلتمسوا قدوة واقعية في تلك المصيبة العظيمة مما تنعكس ايجاباً على انفسهم والمجتمع الذي يعيشون فيه، واكثر ما يخيف اعداء الاسلام هي وحدة المسلمين وتراصهم ووحدة هدفهم وغايتهم، ففي زيارة الاربعين، تتوحد الصفوف المختلفة الاعراق والالوان والخلفيات الثقافية والبيئية واللهجات، بخط سير متوحّد الاتجاه والرؤية الى المولى أبي عبد الله الحسين(ع)، فنرى في الموكب الواحد عدة لهجات، عدة جنسيات تخدم الزائر مهما كان عرقه او لونه او لهجته.
وان المواكب قد قدمت من دول مختلفة عربية واجنبية كالكويت وسوريا وعُمان والسعودية والبحرين وايران وامريكا وبريطانيا وباكستان والسويد والمانيا والدنمارك وروسيا والهند وافغانستان واذربيجان وتركيا.

يُذكر أن عدد المواكب والهيئات المسجلة لأربعينية العام 1434هـ قد تجاوز (17500) موكباً وهيئة على مستوى العراق والعالم الإسلامي بمختلف أنواعها، سواء كانت هيئات ‏خدمية أو مواكب عزاء فقط، وقد تكون مشتملة على تقديم الخدمة وممارسة العزاء أيضاً، فيلاحظ المتتبع ارتفاع نسبة الزوار من غير العراق خصوصاً، تجمعها غاية واحدة هي رضا الله تعالى واحياء شعائر الله واحياء الزيارة العظيمة تلك.

زيارة الامام الحسين ولا سيما في الزيارات المخصوصة ومن ضمنها الأربعين هي بلا شك عبادة، فعن محمد بن مسلم عن أبي جعفر الباقر سلام الله علیه قال: (من لم يأت قبر الحسين سلام الله علیه من شيعتنا كان منتقص الإيمان منتقص الدين، وإن دخل الجنة كان دون المؤمنين في الجنة» كامل الزيارات/ الباب 78 فيمن ترك زيارة الحسين (سلام الله علیه) ص193/ ح1.

وليس الغرض من حث أهل البيت (ع) على تلك الزيارة مجرد العبادة بل من الغايات المهمة توحيد صفوف المسلمين في منهج واحد، بل تجعل من المؤدين لها قدوة ايمانية صلدة لم تخضع للظلم والجور، وكيف لا وانها جسدت الاسلام بما هو لا بما جيّره الطغاة لصالحهم؟!

فالزائر الكريم كما مولاه الحسين عليه السلام مع حفظ الألقاب والمنازل والدرجات، لم يخرج بطراً ولا اشراً انما خرج طالباً للإصلاح، وحين يتجه المسلمون الى كعبة الاحرار تتجدد الصور الايمانية والقيم الاخلاقية في ذاتهم مما ينعكس ايجاباً عليهم، والوحدة الاسلامية تكون شاخصة بوضوح من خلال تلك الصور المجسدة لمعنى الخدمة والايثار والتفاني والاخلاص، وقلما تجد لها مثيلا في التاريخ، ولكن نراها جلية وواضحة في واقعة الطف الخالدة.


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


حسن الهاشمي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2024/08/18



كتابة تعليق لموضوع : زيارة الأربعين وأثرها في وحدة المسلمين
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net