صفحة الكاتب : ادريس هاني

استراحة مقاتل مع رفاعة الطهطاوي
ادريس هاني

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

كانت فرصة سانحة لحضور لقاء جديد لدى المجمع الفلسفي العربي، مع محاضرة للدكتور أحمد ماضي من الأردن، أحسن إدارتها د. إحسان الحيدري، حول: “رفاعة الطهطاوي رائد العلمانية والتوفيق بين العقل والنقل في عصر النهضة العربية”، بالنسبة لي هي فرصة للهروب من بطش السياسة، إنّها أسوأ نشاط ينتهك شرف العقل، وحيث وجدت هناك مأوى حقيقيا للمُآنسة بالمفاهيم الكبرى، ومجالا لممارسة ما تبقّى من الشجاعة من أجل المعرفة. من ناحية أخرى، لأنّ الحديث عن رفاعة الطهطاوي يدخل في صميم اهتمامي، فهو لحظة تأسيسية وفارقة في تاريخ الأيديولوجيا العربية المعاصرة. وكان لا بدّ من أن أتناول في مداخلتي على الأستاذ أحمد ماضي، بعض التصورات والملاحظات لمزيد من إثراء النّقاش.
آثرت أن لا أتناول رفاعة الطهطاوي من منظور أيديولوجي أو إشكالي، لذا فضلت أن أبحث عن مفتاح لشخصيته، هذا تحديدا ما فعلته في فصل من كتابي: حداثة السادة وحداثة العبيد، حيث خصصته لبحث النهضة في عيون الرحالة، فوجدت أنّه رجل نهضة، كان منهمكا في وصف مظاهر اليقظة الفرنساوية لم ينسى خصيصة منها ولا غفل عن فلذة منها.
الذي أثارني في تجربته هو أنّه انتدب من قبل أستاذه العطار في عهد محمد علي باشا، في بعثة علمية، مهمته فيها مرافقة البعثة كإمام راتب وشيخ معني بتقديم الخدمات الدينية، حيث أقام خمس سنوات في فرنسا. أتساءل عن مصير أعضاء البعثة، وأي أثر بقيّ موثقا عنهم بعد أن عادوا كأطر عليا بخبرات علمية إلى مصر؟ إنّ ما تبقى من عمل نفيس في تلك الرحلة، هو كتاب تخليص الإبريز في تلخيص باريز، لرفاعة الطهطاوي.
رأى المحاضر أنّ الطهطاوي واجه صدمة الانتقال من الصعيد المتخلف إلى باريس المتقدمة. وحاول أن يشرح سبب وصفه للصعيد بالتخلف في ذلك السياق التاريخي. كنت أفضل أن لا نتحدث عن الصعيد بتلك الصفة، لأنّه من الطبيعي أن يكون الصعيد ككل البادية العربية وغيرها مختلفا عن الحضارة، لكن أليس رواد النهضة والتحديث في مصر، وأهل النبوغ – ومنهم طه حسين نفسه -هم من الصعيد؟ فلا ننسى أنّ الطهطاوي أدرك بحدسه ذاك أن المزاج الأوربي هو أقرب إلى العربي منه إلى التركي فيما سينعثه بالمروءة الإنسانية والميل الجبلي إلى الحرية والشجاعة. وهو كان مدركا لأهمية الأخلاق والقيم، حيث نقل صورا دقيقة عن الاختلاف وعن المشترك، واعتبر أن في هذا العمران يتحقق بالسياسة ما يتحقق بالشريعة.
لم يفت رفاعة الطهطاوي شيء من تفاصيل العمران الفرنساوي، لقد كان دقيقا فيما وصف، منصفا فيما أثار إعجابه من مظاهر اليقظة الفرنساوية، معترفا تارة وقليلا ما يكون ناقدا، ولكن مهمته لم تكن نقدية، بل وصفا هادفا لتحفيز العقل المحلي في أن يلحق بالركب. وأما فرنسا فقد رآها أعظم ما في أوربا، وهي أشبه في تصوره بالإغريق، بينما اعتبر باريس هي أثينة الفرنساوية. تمجيده للذكاء الفرنسي بالمقارنة مع الأمم الأوروباوية الأخرى، نابع من الانبهار بالمكان الذي أقام فيه، فضلا عن أنّ رواد النهضة العربية عند المقارنة كانوا أميل إلى فرنسا منها إلى الإنجليز، فعل ذلك جمال الدين الأفغاني وكرد علي وآخرون.
في قضية العلاقة بين العقل والنقل، كان رفاعة الطهطاوي قد اكتشف أن القوم لا يشذون عن واحدة من مدارسنا، فلقد رأى أنهم أشبه ما يكونوا بالمعتزلة عندنا في التحسين والتقبيح العقليين، بل لطالما اعتبر أساس العمران الأوربي هو العدل. إنّه بهذا أوحى لرعيل سيأتي من بعده من المفكرين المصريين، بأن ينحوا منحى الاعتزال.
كانت لرفاعة الطهطاوي هنات، لعل أخطرها إطنابه في التهكم من الزنوج، وهي هنة لم تكن تليق برجل تنوير، وقد صدمني ذلك أيّما صدمة، وهالني أيما هول، وفيها نزعة عنصرية مستقبحة.
تفاصيل أخرى في هذه الرحلة، التي كانت مثالا اقتدى به رحالة آخرون كتبوا في الرحلة الأوربية كما فعل الصفار عندنا، ويكاد يكون في دقة الوصف ومنهجه لا يشذّ كثيرا عن الطهطاوي، الفرق هو أن الطهطاوي كُلف بمهمة إمام للبعثة، بينما كان الصّفار سفيرا، ومعنيّا بنقل تفاصيل الخبرة الأوربية لا سيما في مجال التنظيم العسكري.
الرحالة هنا، كان عينا على معالم النهضة والعمران البشري الأوربي، همزة وصل بين عالمين، ملهم لمشروع النهضة العربية. إنّ كل شيئ في تاريخ الحضارة كما ذهب نيتشه يقوم على المقارنة، وتلك كانت أولى النصوص الملهمة، لأنّ الرحالة في عملية الوصف كان لا يسعى لتحقيق قدر من الإمتاع، بل كان يحمل قلق المقارنة بين بلاده وأوربا.


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


ادريس هاني
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2023/04/15



كتابة تعليق لموضوع : استراحة مقاتل مع رفاعة الطهطاوي
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net