قراءة في رواية الظلال الطويلة من منظورين مختلفين
ضياء هرمز

قد تبدو هذه الرواية سهلة وغير عصية على الفهم، وهي الى حد ما كذلك، وفي الوقت نفسه هي ليست كذلك، أي أنها عصية وسهلة على الفهم في آن . سهلة على الفهم في سرد أحداثها وشخصياتها المستمدة من أرض الواقع، وعصية على الفهم في صياغة آلية تلك الأحداث، ورسم معالم وأبعاد تلكم الشخصيات. وبمعنى آخر، أنها سهلة وغير عصية خارج الأطر الفنية، وغير سهلة وعصية داخل الأطر الفنية. وعلى الرغم من ذلك، فإن المتلقي، ينجذب بمتعة لقرائتها الى آخر سطورها. وهنا في هذا الجانب القائم على النقيضة، بين سهولة الفهم، وصعوبته، تكتسب الرواية، تمايزها عن الروايات العراقية التي تناولت الموضوع ذاته، ويكمن سر قوتها، وتماسك حبكتها، وجمالية بنائها الفني.

تقع في (304) صفحة من الحجم المتوسط، وتتكون من أحد عشر فصلا، ما عدا الأبيات الشعرية المنشورة في صدارة الرواية، لبدر شاكر السياب المستقاة عن قصيدته المعروفة ( المعبد الغريق). والأبيات المنشورة في نهايتها التي تعبر عن الجو العام لنشيد الأنشاد في العهد القديم.

أن غموضها؛ لا يتأتى من صياغة آلية أحداثها وشخصياتها فقط، بل من موقف المتلقي أيضا، وهذا هو المهم، أزاءالتقلبات والتغيرات السريعة والمفاجئة التي تحدث للشخصيات والأحداث. الأمر الذي يؤدي الى  تغيير مواقفه مع المعطيات المستجدة والمتمخضة عنهما.

وتبعا لعدم أستقرار الشخصيات على موقف معين، والتناقض القائم في مواقفها، وتعاملها مع الأحداث والشخصيات الأخرى؛ ما عدا شخصيتي إيزابيل وأمل اللتين لم تظهرا على هذه الأزدواجية؛ تبعا لكل هذه العوامل، تخرج سطوة التحكم من بين يدي المتلقي في أنحيازهللشخصيات الإيجابية، لتمتد وصولا الى الشخصيات السلبية، بما فيهم شخصية (بشار البصير) الذي أنتقل من معارض للحكومة السابقة الى شبه عميل للأمريكيين، ثم متعاونا مع (الخاتون) الداعرة، ورئيسة عصابة، تمارس القتل ونهب ثروت البلد، في أيام الأحتلال، وبعد الأحتلال، وبأزر من قوات الأحتلال.

ولعل هذا الأنحياز، أو لنقل التعاطف مع الشخصيات المتقلبة في مواقفها، حدا به، أن يتعاطف في بعض الأحايين مع الخاتون، بحكم تعاملها مع المجندة الأمريكية بلطف، وبالعكس مع جارها مسؤول الحزب بقساوة، وبلغ هذا التعاطف حتى مع رجال العصابة المتمثلة ب عباس الحرب بوصفه رئيسا للشلة التي لا تمارس سوى القتل والسرقة والخطف وخراب البيوت العامرة، وجبار الأسود الذي قتل بدم بارد أحد الأشخاص أمام زوجته وأبنته، بعد سرقة سيارته، وهو يقول: (لا عذارى في المواخير). وجاسم الذي نفذ عملية أستهداف دبابة الأمريكان، من أجل أن يتحدى رئيسه فقط، ويثبت أنه رجلا شجاعا، مع أنه غير سياسي ولا يفهم بالسياسة، ولا علاقة له بالأمريكان. يتعاطف معهم لإهتدائهم الى مكان العصابة التي قامت بأختطاف أمل، ومن ثم سعيهم لإطلاق سراحها. أي أن المتلقي بوعي أو دون وعي منه، يتعاطف مع الشخصية، بناء على الفعل الذي يمارسه في الزمان والمكان الذي يعيشهما (اللحظة)، بمنآىعن ماضيه، أو إذا كان شخصية شريرة، أو خيرة. فكلاهما سيان عنده. . أو كما يقول السارد: (عندما يتشابه الخير والشر، تفقد القاعدة قدرتها على تحمل بناء يستعصي على التقويم المقنع. .

تسير الرواية في أربعة خطوط متوازية، والخطوط المتوازية كما هو معروف، لا تلتقي، وإنما تتنافر مع بعضها البعض. الخط الأول، رجال العصابة ومعهم الخاتون، مقابل الخط الثاني بشار وأسرته، فضلا عن شخصية خالد ومحمد. وهذان الخطان هما الخطان الرئيسيان في الرواية،  والخط الثالث الذي يأتي من حيث أهميته، يتمثل في إيزابيل وعلاقتها بالعميلين الأمريكيين، من خلال لوحتها التي سرقاها من جهة، وإنجذابها لبشار من جهة أخرى. والخط الرابع، وإن كان دوره غير مؤثر، هو الخط المتمثل بأبي حصيب؛ الأحزاب المعارضة التي جاءت من الخارج على الدبابة الأمريكية وأحتلت العراق؛ حيّال رجال المقاومة في الداخل.

يبدو لي أن السارد قد أستعان بالخط الرابع، ولا سيماالشق الأول منه للإشارة الى أن الأحزاب التي جاءت الى الحكم، لم يكن بهدف تقديم خدمات للشعب العراقي الذي عانى الأمرين من الحكم السابق، بقدر ما كان خدمة لمصالحهم الشخصية، ومصالح أهلهم وأقاربهم، والشق الثاني لدوره الضعيف، لعدم ظهوره على سطح الأحداث، سوى مرة واحدة وبخجل.

أقول؛ مع أن الخطوط المتوازية لا تلتقي، إلآ أنها في هذه الرواية تلتقي. وهنا تظهر أيضا مفارقة أخرى، أو نقيضة مماثلة لنقيضة سهولة الرواية وصعوبتها. كما ألتقى بشار بالخاتون، وألتقت الخاتون ورجال العصابة بالأمريكان. ووفقا لهذا الجر والشد، وهذه التقلبات، والتقاطعات، والتجاذبات، والتنافرات، وعدم الأستقرار، يبني السارد الضمني الهندسة المعمارية لروايته هذه، على هذه التشكيلة التي تشوبها  الفوضى الأقرب الى العبث المستشري في العراق الجديد، بعد الأحتلال، وإنتشار الأحزاب مع ميليشياتها المدججة بالسلاح.

لذا فإن منحى الرواية سائر، باتجاه إنحدار الشخصيات الإيجابية نحو الحضيض، وتعلنها شخصيتها المحورية (بشار) بشكل مباشر، أبتداء من مطلع سطورها الأولى، متمثلة بالعبارات الأربع التالية:

-تموت الأشجار إذا نقلت من أرض لأرض..

-وتموت الطيور إذا غادرت بيئتها. .

-وتموت الحيوانات. .

-أنها تدفع ثمن صدقها، والصدق عندما يكون نقيا أصيلا، يصبح وجها آخر للموت، فالموت يحفظ للصدق نقاءه. . أنه يقتله. .

بشار، مثله مثل الأشجار والطيور والحيوانات، لم يغادر الوطن، رغبة منه، وإنما أرغم على ذلك، لأنه كان صادقا مع نفسه ورفاقه، ودفع ثمن هذا الصدق باهضا، وهو نقله الى فرنسا، بوصفه مسؤولا لتنظيمات الحزب الذي ينتمي اليه.

والملاحظ أن مفردة (الموت) تتكرر خمس مرات في أربععبارات، وفي كل مرة توحي الى موت أحد الكائنات الحية، وذلك بقصدية بناء الرواية على هذه التقنية، وفي إشارة واضحة الى أن الأنسان يعد ميتا إن عاش في منآى عن وطنه، وبعيدا عن أرضه؛ تكررت هذه المفردة كذلك، إقترانابرفض بشار الى تجديد بناء داره الذي تعرض للخراب، الرامز الى خراب العراق كله، عبر بيعه، أو إهدائه الى الخاتون، وإن شئنا التأويل، بهدف تدمير ما تبقى من العراق. لبلوغ بشار درجة اليأس القاتلة، والمجردة عي أي أمل، لعودة هذا البلد من جديد على سابق عهده.

يبدأ أنحدار بشار من نقطة موافقته على اللقاء ب بممثلي المخابرات المركزية الأمريكية، جون ورونالد، بمسوغ شعوره بأن الأمر جاد وعليه أن يفهم منهما. وكان هدفهما من هذا اللقاء، هو كسب بشار للتعاون معهما، والعمل مع المعارضة العراقية، مستغلين موقعه المهزوز في بغداد، وإستلامهما لتقارير تؤكد دعوته الى العاصمة للتحقيق معه، وإبلاغهما بفحواها لشخصه، لقاء منحه اللجوء السياسي، والحماية الكاملة. وهكذا أصبح معارضا سياسيا. يقول بشار: (ولكن هذا لا يعني أني أصبحت عميلا أو خائنا لوطني.).

ترى هل كان بشار صادقا مع نفسه، وهو يبرر لقائه بهما؟ هذا ما سنعرفه لاحقا.

لم يقتصر هدفهما على أن يجرا بشارا الى هذا المعترك فقط، وإنما في دفعه العودة الى الوطن أيضا، وقد نجحا في سعيهما هذا. ربما أيضا لغرض الأتصال بشخص في بغداد، يدعى ديك كاستنر، لأنه يملك تعليمات خاصة بشأن مساعدته وتسهيل عودته وتذليل الصعوبات التي قد تعترضه. أو كما تقول إيزابيل: (ونجحا في أعلان براءتهما من أية قيمة خلقية أو أنسانية.).

إبتداء من هفوة الإنحدار الى أحضان المعارضة العراقية، أنهالت الإنحدارات تترى، تحاصر بشارا، مرورا بالإنحدارالى أحضان الخاتون، ثم الرجال الخمسة للعصابة، فالقوات الأمريكية.

واللافت، أن إنحداره للمعارضة العراقية، يحتوي على دلالات، تخص كلا الطرفين. فبقدر ما يقلل من شأن مكانة بشار وشخصيته، بالقدر ذاته، يوجه أصبع الأتهام والإدانة للمعارضة العراقية، بفعل الخراب والدمار اللذين جلبتهما معها الى العراق، بالقطار الأمريكي. والشيء ذاته، ينطبق عليه في تعاونه مع الأمريكيين والخاتون والعصابة. وبالعكس لا ينطبق على الأمريكيين والخاتون ورجال العصابة، ما ينطبق عليه، لأنهم أساسا يفتقدون القيم والأخلاق، بالضد من المعارضة العراقية التي كانت مثل بشار تتحلى بالمباديء، ولكن بعد تعاونها مع الأمريكيين، تخلت عنها، لتمسي أسوأ من المحتل.

وإذا كان إنحدار بشار يبدأ من نقطة موافقته على اللقاء بممثلي المخابرات الأمريكية، غير أنه لا يحس في هذا الإنحدار، إلآ في أجمل لحظات حياته، أي في اللحظات التي يحس بأنه يعيش في تناقض مع نفسه، بين قمة السعادة، وبين ذروة اليأس، وهو في مواجهة ريشة إيزابيل، وأبهى لحظات تجلياتها، لأنها ترسم صورة الإنسان الذي أحبته بصدق؛ وكأنه يعاقب نفسه، عندما خطر بباله هذا السؤال: (ماذا يفعل في هذا المكان؟).

لم يأت هذا السؤال من فراغ، بل جاء بفعل الشاب الفرنسي الذي كان يوجه الشتائم للجميع، بسبب خوفه من سقوط القطة من فوق الشجرة. ليشعره تصرف هذا الشاب، سواء في شتمه للجميع، أو حرصه على حياة القطة: (أن للخروج من الوطن إستحقاقات يدفعها الجميع. . وأولى هذه الإستحقاقات هي التخلي عن الحرية.). ذلك أنه في هذا البلد الغريب لا يستطيع أن يتصرف، كما تصرف الفرنسي أبن البلد بحرية.

إن هذا المشهد من المشاهد الجميلة في الرواية، ليس لأنه يعبر عن أصدق المشاعر المتبادلة بين بشار وإيزابيل، هو من خلال الدموع التي تجري على خده، مخاطبا والده وعائلته . . وهي عبر الإصغاء اليه، ولكن ليس، كما يريد السارد الإيحاء الى أنها لم تكن تصغي اليه؛ بل بالعكس، من خلال فهم إيزابيل للظروف القاسية التي يمر بها بشار، ورغبتها في تصويره، وهو يفجر كل ما يتأجج في داخله من معاناة:

فجأة . . جرت الدموع على خده. .

فجأة اخذ صدره يعلو ويهبط. .

وفجأة أنفجر مرجل الكلام في صدره. .

تحدث عن أبيه وعائلته. .

تحدث عن عمله وتطلعاته. .

تحدث عن سوء الفهم والنفوس المريضة. .

تحدث عن الرغبات غير الشرعية والأحلام المريضة والأحقاد والقسوة. .

تحدث عن علاقاته وأصدقائه والأسباب التي حعلته معارضا. .

تحدث عن الثمن الذي عليه أن يدفعه. .

واصل بشار الكلام. .

واصل البكاء. .

والأجمل، لأن يبلغ المتلقي ذروة عملية التطهير، متماهيا مع معاناة بشار، يلحقه السارد بمشهدين آخرين، وهما مشهد اللقاء ب(يوسف الطويل) المدير العام في وزارة الصناعة   الهارب من بغداد، لتعرّض أثني عشر مسؤولا سابقا في الحي الذي يسكنه لعمليات أغتيال، أو كما يقول هو: (ولم يحرك الأمريكيون أو الشرطة ساكنا.).

 ومشهد ملاحظة بشار في الصحيفة التي يقرأها، وجود صورة فوتوغرافية، لأسير عراقي، ألبسوه كيسا أسود، أخفى رأسه. لينفجر مرة أخرى ويثور، ويصب جام غضبه على صديقيه خالد ويوسف، وهو يخاطبهما على هذا النحو: (خائن. . خائنان. . خونة).

ثم وكأنه يدخل في حوار مع نفسه: (سقط عصر البطولة، والرجولة، والكلمة التي تستمد صدقها من رهافة سيف، ليبدأ عصرنا عصر الخونة الباحثين عن الراحة الهاربين من المواجهة الممتنعين عن التضحية. . أنه عصر المتذمرين الباكين على أمجاد وهمية. . أجتمع الهاربون القدامى بالهاربين الجدد ليبكوا على وطن تخلوا عنه..).

وبالتعويل على نشيد الإنشاد في العهد القديم، يكتمل النقيض الثلاثي الموظف في هذه الرواية، عبر التماهي مع المشاهد الثلاثة الأخيرة، أي مشهد الشاب الفرنسي والبكاء والأنفجار، مع أبيات نشيد الأنشاد. إذا كان هذانالمشهدان، المشهد الأول، يوحي الى فقدان الحرية، والثانيالى تأنيب الضمير والإستسلام، فإن المشهد الثالث يوحي الى الثورة. والمشاهد الثلاثة، بقدر ما توحي الى اليأس الأحباط، فإن أبيات نشيد الأنشاد بالعكس، توحي الى الأمل والتفاؤل والحب. أي بنقيض اليأس والإحباط.

(إذا كان سفر الجامعة، يتحدث عما هو تحت الشمس، فسفر نشيد الأنشاد يتحدث عن السماء، حيث تدخل النفس الى أحضان الله وتتذوق أمورا جديدة تعلو فوق مفاهيم الأرضية. ولا يقرأه إلآ القليل من المؤمنين، لأنه لا يلائمهم. وقد أستعمل النشيد في الليتورجيا إستعمالا معينا، فطبقت بعض مدائح العروس على العذراء، وأحيانا على بعض القديسين. ومنذ القديس برزدوس خاصة، ان النفوس التي ارتقت في القداسة والكتّاب الصوفيون قد وجدوا في النشيد، بعد أن كيفوه حسب نمطهم، غذاء روحيا مختارا.). مثلما أختارت إيزابيل، غذاء لمواصلة حبها مع بشار، وفي الوقت نفسه، درءا للمخاطر التي قد تواجهه).

ولم يكتف السارد بضخ أبيات مقتبسة من نشيد الأنشاد، وإنما أضاف عليها بأبيات مقاربة لنشيد. الأنشاد، وعلىهذا النحو:

-أنا لحبيبي. . وأشواقه إليّ.

-إني نائمة وقلبي مستيقظ.

-شماله تحت عنقي ويمينه تعانفني.

-والأسنان تقضم التفاحة.

العبارات الثلاثة تنتمي الى نشيد الأنشاد، ما عدا العبارة الأخيرة، وهي عبارة: (والأسنان تقضم التفاحة.) التي فكّرته بقصة آدم وحواء، وخيانتهما، في إشارة واضحة الىالإتهام المباشر لخيانة إيزابيل له، لإخفائها عليه زيارة الضابطين اللذين يعملان في المخابرات الأميريكية عنه. ولكن عبارة: (سأسمع حبيبي الذي يرعى بين السوسن) التيتنتمي الى نشيد الأنشاد، أعادته الى صوابه، ليدرك مصدر الشكوك التي تواتيه، وتشوش أفكاره، أو كما يقول السارد: (شعر أن الأشياء من خلال معاناته، وأحس على نحو مفاجيء بأنه مسؤول عن تعاسة محتملة تحيط بالأشخاص الذين يحيطون به).

ثمة علاقة وشيجة بين سرقة لوحة إيزابيل في باريس، وإختطاف أمل في بغداد، لا تتمثل هذه العلاقة، حصرا بين شخصيتيهما فقط، وإنما تمتد الى طبيعة الفاعل، وصولا الى مكان الفعل، فمن حيث الشخصية، كلتا الشخصيتين، دون بقية الشخصيات، تتمتعان بالصدق والنقاوة والبراءة. وإن دل هذا على شيء فإنما يدل على أنهما متقاربتان، أو متشابهتان في هذا الجانب.

يقول السارد: (تذكر بشار أسم الخاتون، فصمت. . في صالة دارتها كان يفكر في حلمه الذي رآه ليلة خطف إيزابيل وبين معرفة مفترضة لأمل بهذه اللوحة / معرفة منحها حلم لا غير / وبين خطفها..).

كما أن هاتين الشخصيتين كذلك، من حيث طبيعة الفاعل، تشترك معا في المقاربة والتشابه. ذلك أن الفاعلين في فرنسا بدون واعز ضمير، يقومان بسرقة لوحة إيزابيل، من أجل حض بشار على السفر الى بغداد، ظنا منهما أن وجوده هناك ضروري ويخدم برامجهما. أو كما تقولإيزابيل: (أنهما سرقا اللوحة لأسباب أعتقد أنها تدور حول تدمير منجز أبداعي أثمرته علاقتنا، وتدمير المنجز تدمير للعلاقة ذاتها من خلال دفعي الى زاوية أجتر فيها ألمي ودفعك لشعور بالعجز.).

والشيء ذاته ينطبق على إختطاف أمل، فالفاعل هو نفسه، وإذا كان في باريس، تابع للمخابرات الأميريكية المعروفة بقساوتها وعنفها، فإنه في بغداد تابع لجهة من الجهات الأرهابية المعروفة بجرائمها الأقسى وحشية من الأولى.

كما أن المكانين وإن أختلفت عناوينهما، إلآ أن الجرائم التي تحدث فيهما، لا تختلف مع بعضها البعض. والإختلافالوحيد بينهما، هو أن جريمة سرقة لوحة إيزابيل جرت خفاءفي أكبر العواصم الدول الأوروبية،، وجريمة إختطاف أمل جرت علنا، وفي وضح النهار، في أكثر الدول التي كانتحضارة في العالم، وأمام أنظار الملأ وقوات الشرطة والأمن والقوات الأمريكية والأحزاب السياسية التي جاءت وفتحت المقرات من أجل الدفاع عن الشعب، ولكن دون أن تبادر ولا واحدة منها، لإنقاذ أمل من براثن المجرمين.

لذا فإن المفصل الثاني الذي يعتمده السارد الى جانب مفصل النقيضة، هو المفصل القائم على المقاربة، أو التشابه، مثله مثل روايته (ينال)، التي تكاد تخلو من تقنيات السرد، للجوء المؤلف الى مفاصل ومنافذ، بوسعها ملءالفجوات التي تركتها تقنيات السرد، وأن تلعب الدور ذاته، من خلال النقائض التي عول عليها. كما يمكن تعميم هذا الخلو من تقنيات السرد على المفاصل الأخرى للرواية، وليس على هذا المفصل فقط.

واللافت أن هذا المفصل المتقارب، هو الآخر، يأخذ بالتصاعد، شأنه شأن المفصل (النقيض). كما أن كلا المفصلين، التقارب والنقيضة، يكشفان عن تناقضهما مع بعضهما البعض، وكأن السارد يسعى في معترك هذه التناقضات والتقاطعات والإنكسارات، أن يقود المتلقي الى دهاليز وأنفاق معتمة، كلما توغل فيهما، تواجهه صعوبات مضاعفة، للخروج من المأزق الذي وضع  فيه، يبلغ حد اليأس والأنهيار ، والإستسلام للواقع الراهن، ولا منفذ لنجاته.

يبدأ هذا التصاعد من لحظة أقتياد جبار الأسود للمجندة الأمريكية الى المخبأ الذي تركن العصابة ضحاياهم فيه. وبالمقابل إختطاف الخاتون وبشار، أثناء مداهمة القوات الأميريكية للمخبأ، لتحرير المجندة، مرورا بأختطاف رجال العصابة لضابطين من الأمريكان، لقاء إطلاق سراح الخاتون، إنتهاء بالتعاون بين الخاتون بوصفها رئيس عصابة الرجال الخمسة، مع القوات الأمريكية، لتحرير أملمن القوة الأرهابية التي قامت بأختطافها.

كما يمكن قراءة المفاصل الثلاثة، كما لو كانت قطعة موسيقية، تتكون من عدة طبقات صوتية، تنطلق من طبقة صوتية متوازية، وتنتهي في إلتقائها بنقطة معينة، تقوم على مفهوم النقيضة. والطبقة الصوتية الثانية على سرد متن الحكاية، من حيث رسم معالم وأبعاد الشخصيات، والفروقات ما بينها، وطبيعة الأماكن التي تركن فيها. والطبقة الصوتية الثالثة على مفهوم التقارب المبني على المصالح المشتركة بين الأطراف المتنازعة على تقسيم ثروات البلد.

وعلى ذلك، فإن هذه القطعة الموسيقية، وإن بدت طبقتها عالية في البداية، من خلال تفجير الرجال الخمسة للدبابة الأميريكية، إلآ أن سير الرواية بأتجاه التوازي بين الجهات الأربع المتصارعة فيما بينها، لعب دوره من حدة تخفيف هذا الصوت بشكل تدريجي، وبالمآل إلتقاء الأصوات في نقطة ضيقة، تقوم على النقائض، أي عدم الأنسجام، تمهيدا للطبقة الثانية، حيث تبدأ بصخب وعنف شديدين، للدلالة على أن الحرب قد بدأت بين هذه الأطراف، لتأخذ بالخفوت تدريجيا في الطبقة الصوتية الثالثة، في إشارة واضحة على بلوغ هذه الأطراف الى هدفهم المنشود، الا وهو، إذلال الشعب العراقي وإهانته، وإخضاعه تحت هيمنتهم وسلطتهم، من أجل إسكات حناجرهم للمطالبة بحقهم، وتوفير مزيد من الفرص لهم لنهب وسلب ما تبقى من ثروات البلد:

الطبقة الأولى: الصعود، والأنحدار التدريجي (الهبوط).

الطبقة الثانية: الصعود.

الطبقة الثالثة: الأنحدار (الهبوط).

*الكتاب المقدس: المكتبة الشرقية. ص. ب – بيروت، لبنان. جمعيات الكتاب المقدس في المشرق.


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


ضياء هرمز

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2023/03/09



كتابة تعليق لموضوع : قراءة في رواية الظلال الطويلة من منظورين مختلفين
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net