• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : مجالس التوابين ـ الجزء الثاني .
                          • الكاتب : محمد جعفر الكيشوان الموسوي .

مجالس التوابين ـ الجزء الثاني

 لا مكان محدد لمجلس التوابين، فربما كان يوما على سطح سفينة في بحر لجيّ متلاطم الأمواج، وربما كان على ظهر طائرة تطير في جوّ السماء أو ربما كان على طول الأرض اليابسة وعرضها. ليس مُهماُ اين يكون المجلس ولكن الأهم أن ينعقد بصدق في القلب، فلا غفلة عن ذكر الله ولا إنشغال بأحوال الدنيا  بفقر أوغنىً، بيسر أوعسر وبشدة أو رخاء. مجلس التوابين له عطره الخاص الفوّاح الساحر والآسر الذي يجذب من شمّه وإن كان عابر سبيل. لا نكتب هنا مقطوعة أدبية تحوي وصفاً رومانسيا ومشاعر رقيقة وأحاسيس مرهفة. بل نكتب عما رأيناه رأي العين من جذب مجالس التوابين لمن مرّ بهم عابرا. إليكم القصة:

الشاب العاصي..

كان احد الشباب يكثر من معصية الحق سبحانه وتعالى ويجهر بالسوء من القول والفعل. إزداد حال ذلك الشاب سوءا فأدمن على قبائح الذنوب والموبقات ووصل الأمر به أنه لا يطيق رؤية أي متدين خيّر مهما كان بشوش الوجه، لين العريكة وطيّب القلب ومتسامح. لم تنفع مع ذلك الشاب المعاند نصائح الناصحين ووعظ الواعظين. إقترب من الجنون كثيرا فبدأ يهذي هذيان الفاقد لعقله، لمحني ذات مرّة في أحد الأسواق فإقترب مني بشكل غير طبيعي حيث بدت على وجهه امارات الغضب وأخذ يتحدث إلى جدار احد المحلات المغلقة : سوف أحضر الليلة إلى الحفلة وعليكم أن تجهزوا لي المشروب الفلاني (الخمرة) واسترسل بالحديث السخيف الذي يقصد به إزعاجي لعلمه اني من المتدينين، فكلمّا إبتعدت عنه لاحقني بتلك الكلمات البذيئة، سمعه أحد الأخيار فدعا له بالصلاح والهداية. مرّت الشهور وإذا بذلك الشاب يمّر بأحد مجالس التوابين فيسحره ذلك العطر الذي يفوح من ذلك المجلس المبارك. توقّف هنيئة عند الباب وتردد في الدخول فهو لا يعرف مصدر ذلك العطر الزكيّ الفوّاح وإنما يشم رائحته الساحرة من ذلك المكان (مجلس التوابين). كان المجلس في احد مساجد المدينة حيث إجتمع ثلة من الشباب المؤمنين لإحياء مراسم دعاء التوسل ليلة الأربعاء. كان مجلسا نورانيا تشع منه الأنوار وتفوح منه روائح المسك والعنبر والعود والبخور فتسحر من يمّر بذلك المكان. دخل الشاب العاصي المجلس وقد دُهش لما رآه، لم ير مثله من قبل فقد هرب ومنذ زمن طويل من تلك المجالس التي لا يذكر الله فيها إلاّ قليلا وإذا ذُكر جل إسمه وتبارك شأنه فلا مِن قلب يوجل ولا مِن جلد تقشعر، هرب من تلك المجالس الجامدة التي لا تتحرك خطوة واحدة نحو الله تعالى فهي مجالس صوتية تعنى بالأصوات الجميلة مع الحركات المتمايلة وياليتها كانت متمايلة من شدة الخشوع والذوبان في عشق المولى سبحانه. كان ذلك المجلس للتوابين غريبا بالنسبة لذلك الشاب العاصي فالكل قد أطرق رأسه إستحياءا من الخالق الباريء فلا نبرات وألحان موسيقية وحنجرات رنّانة، كانت الأصوات مبحوحة والأجسام ذابلة والوجوه حزينة فالكل في حالة ذوبان بالمعشوق الأوحد . أنين البكاء يترجم ذلك الشعور بالندم وطلب التوبة فهو مجلس للتوابين وليس للمنشدين الملحنين الموسيقيين. إنه مجلس فريد من نوعه فقد إنعقد في القلب قبل أن ينعقد في ذلك المسجد، أخذ الشاب يرتعش وجلس مثلهم مطرق الرأس خجلا مما فرّط في جنب الله وتمادي في المعاصي والذنوب. إنتهى المجلس لكن الشاب طلب من أولئك المجتمعين أن يبقى حتى الصباح يناجي ربه ويدعوه ويتوسل إليه عسى الله يصفح ويسامح ويتجاوز ويعفو ويغفر فالظهر مثقل بالأحمال والقلب منكسر والعين باكية والندم على المعصية كان ملازما لذلك الشاب طوال المجلس، طلب منهم الجلوس حتى الصباح بين يدي الخالق سبحانه فكان له ما أراد.

تعليق..

لمجالس التوابين عطرها الزكي الذي يجذب من شمه ويؤثر تأثيرا عميقا في كل من يحضره. إنها مجالس القلوب الطاهرة والنيّات الصادقة. مجالس التوابين لا تحتاج إلى إعلانات مسبقة عن المكان والزمان الذي تقام فيه، ولا تحتاج إلى دعايات أو لافطات تشبه تلك التي تنتشر أيام الانتخابات وتتبخر بعدها لتظهر من جديد بعد أربع سنوات بنفس المحتوى ولكن بتغير الشخوص والعناوين. ما أحوجنا إلى مجالس التوابين اليوم لخلاصنا من النكبات والإخفاقات والإنكسارات المتتالية والمتسارعة. مجالس التوابين هي طوق النجاة من الغرق حيث السفن من حولنا صدئة خرقه. وهي الأمان من الإنحراف والضلال حيث السبل امامنا منقطعة ومتفرقة. أن نبكي بين يدي الحق تبارك وتعالى طالبين عفوه وغفره خير من أن نبكي على دنياً أوحى الله إليها أن تتعبَ طالبيها.

 من نافلة القول أن أحد الأعزاء قال لي مستنكرا : " تكتب كثيرا عن النقاء وعدم البعد عن الحق سبحانه، ألم ترَ معي يا سيد أن كلامك أقرب للمثالية منه للواقعية؟". سؤال مهم ومؤلم في ذات الوقت ذلك أن انتشار المفاهيم الخاطئة والسلوكيات الشاذة والتصرفات المنحرفة قد سفّهت بعض عقائدنا فلا ثبات على طول الخط المستقيم لدى بعض الشباب المحبط. ومن بعض الأمثلة التي شاهدتها هو اني صادفت مجموعة من الشباب يرقصون في أحد الشوارع العامة مع أصوات الأغاني الصاخبة المزعجة. لم أعرف وقتها ما هي المناسبة التي دعت هؤلاء (الضايجين) الى الترفيه بهذا الشكل المقرف في مدينة لها قدسيتها وطابعها الاجتماعي المحتشم والمحافظ : دنوت من أكبرهم سنّا وقلت له : أيها الشاب احيطك علما بأن هذا الشارع هو لي ولك وللآخرين فهو ليس ملك لكم لوحدكم حتى تتصرفوا فيه كما يحلوا لكم، إن صوت الموسيقى الصاخبة يؤثر على أذنيّ ويسبب لي الصداع فمن حقي أن لا أسمع ما لا أحب سماعه، ثم سالته عن سبب هذا الحفلة الراقصة؟ قال هذه الإحتفالية هي بمثابة شكر منا الى إخواننا المسحيين الذين يشاركونا العزاء أيام أربعينية سيد الشهداء عليه السلام فاردنا أن نبادلهم المشاعر فكما هم يبكون معنا فنحن نرقص معهم. عجيبٌ حقا هذا المنطق السخيف! ومَن انتم حتى تجازون زوار الحسين عليه السلام. وهل الجزاء يكون بالرقص الغناء وقطع الطرقات؟ يبدو أن الطريق لتسلل الأفكار السقيمة بات سالكا فلا سيطرات فكرية تنشر على طول الطريق ولا إرشادات للسلامة تبين المخاطر ووعورة الطريق وشدة الإنعطافات في بعض أقسسامه ولا من منظّم للسير يقف في التقاطعات ليرسم بيديه إشارة المرور التي تسمح للبعض أن يجتاز والبعض الآخر أن ينتظر والبعض منهم عليه أن "یطبک ویسفط" ويدفع ثمن مخالفته لقوانين السلامة.

 هذه الحادثة هي واحدة من حوادث جمة على هذه الشاكلة، شاكلة التصرفات المنحرفة والسائبة التي لا يردعها رادع . شتّان بين مشاركة الإخوة المسيحيين عزاء سيد الشهداء وبين مشاركة أولئك الشباب الذين أضاعوا بوصلتهم الحقيقية فإنحرفوا عن جادة الحق. مشاركة المسيحيين لم يكن فيها محرّم أو مكروه بينما إحتفالية أولئك الشباب كانت عبارة عن منكر في منكر إضافة إلى الإزعاج والتعدي على حقوق الناس. من الملفت ان مجالس التوابين قد هُجرت وللأسف الشديد وأسُتبدلت بمجالس الفسوق والفجور والإنحراف والقادم مجهول سيما وأننا في تخاصم وتشاجر وتنابز وتناحر وتدافع وتزاحم، لقد بدأت المسبحة تفرط فلا خطاب يكشف الغم ويجلي الكدر ويضع الأمور في نصابها الموضوعي والحقيقي، كل ما نسمع ونشاهد ونقرأ هو واقعا يعبّر عن الإحباط والصدمة لما يحصل وكأنما الإنشغال بالأنانية والمصلحة الخاصة واللهث وراء الجاه والوجاهة سيخلق لنا جيلا طيّب الأعراق وشبابا واعيا فكريا لا تحرفه كل حفلات الطرب والمجون وإن جاءت بكل المومسات قبيلا. مؤلم ان يكون خطابنا اليوم لا روح فيه ولا حياة. لقد إستبدلنا الجد في العمل ونشر الوعي بين الشباب (عمليا) وليس فقط عبر محاضرات جامدة هامدة لا تتحرك مع الشباب ولا تعيش همومهم، إستبدلنا كل ذلك بعدم الشعور بالمسؤولية وبالهزل وإضاعة الفرص بالتقاعس والتثاقل والتفاهة في طرح الأفكار الضحلة الفاشلة التي لا قيمة لها ولا أثر. أصبحنا أمة لا تريد إلاَ التسلية والعالم حولنا قد أبهر العقول قبل الأبصار بالإختراعات والصناعات والتقنيات وكل تلك البرامج يشرف عليها ويديرها ويعمل فيها الشباب الرائع الواعي. ولا زال الشباب عندنا يقيم مجالس التحشيش والتخريش والتفليش والتهميش على غرار مجالس قراقوش المضحك وقد عبث بشعر رأسه ولحيته وربما بمكان آخر كذلك.

نخصص البرامج الحوراية البائسة للتسلية وللظهور بمظهر الداعية أو المفكر أو سماحة السيد وجناب الشيخ وفضيلة الدكتور.. نلقي ما تعلمناه ودرسناه  وحفظناه وإقتبسناه من غيرنا على مسامع الحضور (ومع السلامة شباب). إن ضخ المحاضرات الكلاسيكية الإستهلاكية يوميا وبشكل غير مدروس ولا ممنهج  يشبه زرق المضادات الحيوية للوقاية من بعض الفيروسات قد لا يكون موفقا دوما ليعطي نتائجه المرجوة. غالبا من يزرق تلك المضادات يدير وجهه الى احدى الجهات فهو غير معني بالتحدث معك او رؤية قسمات وجهك، إنه يعمل بأجر ومرتب، يزرق الحقنة ومع السلامة أستاذ. إذا كان المصلح ووالمرشد فينا كالذي يزرق الحقنة ويمضي فلا خير فيه ولا في حقنته. الشباب اليوم بحاجة إلى إحياء مجالس التوابين التي هجرناها منذ زمن. مجالسنا اليوم هي لفتل عضلات الخطابة والتمكن من الميكرفون والجلوس على آخر (پایه) من المنبر. قلت لأحد المسؤولين عن الصوتيات في أحد المراكز الإسلامية : الصوت مرتفع جدا ويزعج الآخرين يا سيد!! فقال لي مبتسما :  معك حق يا سيد لكن الخطيب المحترم قال لنا بأنه يبدع مع الصوت العالي ويتفاعل معه! قلت: لهذه الدرجة يهتم هذا الخطيب بصوته ولا يهتم بالشباب الذين يحضرون المجلس!!! لقد أهملنا الشباب ونحن في المجلس فما بالك سيدي بعد انتهاء المجلس!. أهملناهم وتركناهم عرضة لعوامل التعرية والتآكل والتفسخ والتحلل والخراب والضياع  فكانت النتيجة ما نراه اليوم من مجون وتدنيس للحرمات من أوسع الأبواب. النتيجة طبيعية وطبيعية جدا فعلام الإستغراب ولماذا الدهشة ومم وممن وأين ومتى وكل أدوات الإستفهام؟؟؟ هل سمعتم يوما أن الإهمال يخلق جيلا واعيا؟ وهل سمعتم أيها السادة أن الإنشغال عن الشباب يجعلهم متسلحين بالعلم والمعرفة ومتزينين بالحلم والخلق الرفيع والخصال الحسنة الحميدة؟! منذ أكثر من ثلاثين عاما وانا أدعوا إلى الإعتناء بالأولاد ولكن لا حياة لمن تنادي وليس هناك في الأفق أي طموح من هذا القبيل. طرحنا مبدأ الإعتناء بالوليد منذ أيام ولادته الأولى وضربنا الأمثال وسردنا القصص الحقيقية الواقعية التي تدعم توجهنا فلم يبادر إلاّ بعض الوالدين وضمن دائرة الأسرة التي لم تتعد إلى الجار بالجنب.. وضعنا خطير جدا فقد بدأت رويدا رويدا تُستبدلُ العقائد الصحيحة السليمة بتلك المنحرفة السقيمة وعليه فالنتجية تكون ذلك السؤال الذي سأله صديقنا مستنكرا علينا حث الأمة على التقرب للحق سبحانه وعدم الغفلة عن ذكره في الشدة والرخاء. نحن اليوم بأمسّ الحاجة إلى إعمار مجالس التوابين بتلك القلوب المنقطعة للحق سبحانه في كل مكان وزمان. في البيت أيها المحترم ليكن مجلسك مجلسا للتوابين وسترى آثار ذلك على الأهل والأولاد. صدق النية وحسن التوكل والذوبان في عشق الحق سبحانه يغنيك عن الحديث المطوّل المفصّل الذي لا يورث إلاّ النعاس والملل. لقد كان والدي رحمه الله ورحم أمواتكم يصلي صلاة الوتيرة بعد صلاة العشاء الأخير في البيت ويقرأ سورة الواقعة جهرا فكنا نحن الصغار نجتمع حوله فنستمع ونستمتع لترتيل تلك السورة المباركة التي تدخل إلى قلوبنا لأنها قد خرجت من قلب الوالد. لقد حفظنا نحن الأولاد سورة الواقعة بعد فترة قصيرة. كان ذلك المجلس الذي يقيمه والدي في بيته كل ليلة هو مجلسا للتوابين ولولا الرياء لذكرت تفاصيل ذلك المجلس التي تأثرنا به منذ نعومة أظفارنا وكان واقيا لنا بعد توفيق المولى سبحانه من الضلال والضياع. اجل سيدي الكريم نحن بحاجة إلى إحياء مجالس التوابين ففيها الشفاء من كل أسقام الإنحطاط والتخلف والتقهقر والضياع بين الأفكار المريضة الهدّامة. في المجلس الحسيني المبارك ليكن مجلسنا مجلسا للتوابين نعيش العشق الإلهي الرائع فتطمئن النفوس وتقرّ العيون وتخشع القلوب وترتعد الفرائص. أي مجلس حسيني ذلك الذي ينبهنا الخطيب بين الحين والآخر إلى إغلاق الموبايل أو عدم التحدث مع بعض بصوت مرتفع! هل تلك هي صفات التوابين الذين يحضرون لمواساة فاطمة الزهراء صلوات الله عليها! سؤال يبحث عن الإجابة بين ثنايا القلوب؟

المعادلة واضحة بينّة وهي من حدَين:

كلّما إقتربنا من الحقّ سبحانه فإننا نبتعد من الدنيا وعندها تكون السعادة والنجاة والعكس بالعكس فكلّما إبتعدنا عن الحقّ سبحانه فإننا نقترب من الدنيا وعندها تكون شقاوتنا والهلاك. أجارنا الله وإيّاكم من سوء المقلب. لا أدري لماذا عندما أكتب عن عدم التعلق بهذه الدنيا الماكرة الخادعة أحصل على سيل من الإنتقادات التي تفسر قولي بأنه (إنْسَ نصيبكَ من الدنيا)؟!

 




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=163194
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2021 / 12 / 24
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 29