صفحة الكاتب : د . ولاء مجيد الموسوي

بحيرة ساوة ... بين الاساطير والحقائق العلمية
د . ولاء مجيد الموسوي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
     بحيرة ساوة ... واحة زرقاء وسط صحراء جدباء، بحيرة متخمة بالأسرار ومفعمة بالأساطير،  يعدها البعض بانها تمثل أسرار ظاهرة كونية عجز العلم عن تفسيرها، ويصفها البعض الاخر بأنها من البحيرات العجيبة في العالم لما يلفها من غموض وتدور حولها العديد من القصص والروايات، وباتت مثاراً للجدل العلمي والروائي والقصصي, سميت (بالبطة) لان شكلها لناظرها من الأعلى يشبه البطة، و سميت بـ(أم الأسرار)، اما تسميتها (البخيلة) لأن مياهها غير صالحة للزراعة. قيلت الكثير من القصص التي تتحدث عن ظواهر غريبة في البحيرة، لأنها تمثل حدثاً طبيعياً مميزاً لا يعرف زمنه ، حوّلته المعتقدات الشعبيّة السائدة في المنطقة إلى حدث دينيّ سابق، بل وعلامة على حدث دينيّ مستقبلي أكبر. ويذكر في التاريخ الاسلامي ان يوم ولادة الرسول محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم) كان حافلا باكثر من حدث، ففي هذا اليوم المبارك انطفأت نار المجوس وتصدع ايوان كسرى وغارت بحيرة ساوة، حتى أن كلمة الغور المذكورة في الرواية اُختلف في تفسيرها، فبعضهم أشار الى انها تعني فيضان ماء البحيرة، والفريق الاخر اشار الى انها تعني جفاف ماء البحيرة، أختلف فيها الكثيرون في كل ما يتعلق بها من حيث سبب وجودها وعمقها ومصدر تجهيزها بالمياه وثبات منسوبها ودوام وجودها. حتى أنها نالت بعضا من الاهتمام الدولي، حين أقرّت اللّجنة المركزيّة لمعاهدة "رامسار" الدوليّة في 15/9/2015 أنّ بحيرة ساوة هي أحد المواقع الدوليّة للأراضي الرطبة بعد استيفائها لكلّ المعايير البيئيّة والهيدرولوجيّة المطلوبة، وقد أخذت البحيرة التسلسل 2240 من بين الأراضي الرطبة في العالم.
       كل هذه التساؤلات والغموض المثار حول البحيرة لفت انتباه الكوادر العلمية في مركز علوم البحار/ جامعة البصرة ،لذا إنصب أهتمام الباحثيين للخوض في غمار الكشف عن اسرار أم الاسرار, وفي ظل التقدم العلمي والتقني الذي شهده مركز علوم البحار في الميادين تم إجراء عدد من الزيارات الميدانية والقيام بعدد من المسوحات والقياسات والدراسات التي بُنيت على أساس علمي  للوصول الى مايمكن الوصول اليه ولإماطة اللثام عن كل التساؤلات التي أثيرت على هذه الظاهرة الغريبة من خلال التحليل العلمي والمنطقي وتم القيام بالعديد من الزيارات الميدانية الى البحيرة من قبل باحثي المركز، أمتدت من أعوام  2006، ولغاية 2016، ولكن الرحلة الاستكشافية الأهم كانت من قبل كادر قسم الجيولوجيا البحرية في عام 2012، حيث أستخدمت في هذه الرحلة أجهزة مسح بحري حديثة ومتطورة وتقنيات السونار المتقدمة وتحليلات النظائر المشعة لعينات المياه والتي لم تستخدم سابقأ في هذا الموقع، فضلاً عن القيام بأعمال الغوص العلمي،  وما تلى ذلك من زيارات ميدانية والتي كانت بالتعاون العلمي بين فريق الغوص العلمي لمركز علوم البحار والفريق العلمي لجامعة فرايبيرغ الالمانية . 
       لوحظ من النتائج إن اعماق ضحلة تتراوح من 1 متر الى 2 متر في وسط البحيرة.  لكن الأكتشاف المهم والذي أذهلنا والذي يتعلق بتحديد موقع مصدر المياه الذي يجهز البحيرة بدقة ولأول مرة، إذ تبين ان هذا الموقع يمثل فوهة أو شقاً يقع في وسط البحيرة،  لها محور طولي بحدود 50 م، ويتراوح عرضها ما بين 23-29.5 م، وليس كما أثير سابقاً بانها عيون مائية اثنان أو ثلاثة ...الخ.  ومن الغرائب التي لوحظت أن شكل هذا الشق يشابه الى حد كبير شكل البحيرة الخارجي الشيء الذي يؤكد على تأثر المنطقة بانطقة التصدع والنشاط التكتوني في الازمنة الجيولوجية القديمة. كما أن الاجهزة المستخدمة في المسح والتي تعتمد على أرسال موجات صوتية والمصممة على  اختراق قيعان الانهار لأكثر من 200 م تفقد إشارة الإرسال والانعكاس في بعض الأوقات وظهر فيها تشويش فيها عند مرور زورق المسح فوق الفوهة مباشرةً، مما دعى الفريق الى أعادة المحاولة لمرات عديدة للحصول على أفضل النتائج. تم تفسير ذلك بسبب قوة دفع الماء المتدفق من الفوهه أو بسبب وجود تكسرات في قاع الفوهة قد يصل عمقها الى أكثر من 200 م تؤثر على اختراق الموجات الصوتية. 
       أستطاع فريق الغوص العلمي الوصول الى عمق 20 م داخل الفتحة، وليس من المؤكد انه العمق النهائي لها. ومن الغريب أيضاً ما أخبرنا به فريق الغوص بأن هنالك عملية سحب للمياه الى داخل الفوهة فضلاً عن المياه المتدفقة بشكل يشبه الحركة الدورانية لتيارت الحمل، وتم التأكد من صحة هذا الرأي من خلال ملاحظة عملية النحت والتعرية التي حصلت في الجانب الأيمن من الفوهة والذي يمثل منطقة سحب المياه الى الأسفل، في حين حصلت عملية بناء لجدار من الرواسب يرتفع بحدود 1 متر عن القاع في الجانب الأيسر من الفوهة والذي يمثل منطقة تدفق المياه الى الأعلى. كما لوحظ وجود طبقات متقطعة غير مستمرة من احدى جوانب الفوهة تدل على وجود عدد من الكهوف تمتد أفقياً الى عدة امتار باشكال وابعاد مختلفة. والشي الجديد المكتشف في عملية البحث أن المياه كانت تتدفق من عدة مواقع داخل الفوهة والتي تكون بشكل تشققات في الغالب وكانت كمية الاملاح الذائبة الكلية (TDS) المأخوذة من أعماق مختلفة تتغير من موقع الى أخر وقد وجد في إحدى النماذج ان هذه الكمية بلغت 10,000 ملغم/لتر الامر الذي لم يكن معروف سابقاً وهذه ألقيمة أقل بكثير من النماذج المأخوذة من السطح والتي بلغت فيها كمية الأملاح أكثر من 24,000 ملغم/ لتر (وهذه القيمة ليست بضعف قيمة مياه الخليج العربي كما اُثير سابقاُ والتي قد تصل الى 40,000 ملغم/ لتر، بل تمثل نصف القيمة تقريباً)، الأمر الذي يؤكد أن مصدر مياه البحيرة من عدة تكاوين حاملة للمياه الجوفية منها الدمام والفرات والمتأثرة بعملية التصدع وما نتج عنها من عملية خلط لهذه المياه.  وقد وجد ان نوع المياه هو كلوريد الصوديوم مع سيادة ايوني المغنيسيوم والكلور على ايوني الكالسيوم والكبريتات وأن المياه ذات أصل بحري في الغالب. كما أظهرت نتائج تحاليل النظائر المشعة لمياه البحيرة انها تمتلك تركيباً نظائرياً متشابهاً والذي يدل على ان مصدر التغذية للبحيرة هو من نفس النطاق لخزانات مختلفة، كما أن البحيرة قد تعرضت الى تبخر شديد. وعلى الرغم من أن هذه الدراسة قد تمكنت من حل بعض الالغاز التي تكتنف البحيرة، إلا أنها فتحت باباً لتساؤلات والغازاً أخرى منها، كم هو عمق الفوهة التي تجهز البحيرة بالمياه، وما سبب أنقطاع اشارة أجهزة المسح البحري عند المرور فوقها، وسبب التناقص الكبير في منسوب المياه الذي بلغ 80 سم خلال السنوات الأربع الماضية والذي تسبب بانحسار كبير لخط ساحل البحيرة وما يؤكد ذلك نمو كتل ترسبات الجبس الى أرتفاعات لا تتجاوز 50 سم في المواقع التي انحسرت عنها المياه في البحيرة وليس كما حصل للجدران الخارجية للبحيرة والتي بلغ أرتفاعها أكثر من 3 متر، على الرغم من أن هذا التناقص لم يسجل في مناسيب المياه الجوفية في المنطقة والتي من المفترض أن تكون المجهز الرئيسي لمياه البحيرة، أضف لذلك أن السنوات الخمس الماضية لم تكن سنوات جفاف بل نسبة الامطار كانت متوسطة مقارنة مع السنوات التي سبقتها. ولا ندري هل إن تسمية اٌم الاسرار سوف يبقى ملاصقاً لهذه البحيرة وتبقى مثاراً للجدل العلمي، أم ستُكشف هذه الالغاز والاسرار على أيدي الباحثين المتغزلين بسحرها وجمالها في المستقبل انشاء الله، إذن... لا زال العمل جارياً لكشف نقابك يا اُم الاسرار.   
     

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


د . ولاء مجيد الموسوي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2016/12/30



كتابة تعليق لموضوع : بحيرة ساوة ... بين الاساطير والحقائق العلمية
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net