صفحة الكاتب : ادريس هاني

الفلسفة بين التقليد والإبداع
ادريس هاني

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
يقلّ حظّ لعبة التقليد في الفلسفة عند من خبر تاريخها..فلا مجال لتجاوز المفاهيم إلاّ بخلق حوار أو تناص معها تبرره خطوات فلسفية متينة لا تمرّ على الفلاسفة بقدر ما تمرّ على من ليس لهم باع حقيقي في ذائقتها..ذلك لأن الفلسفة هي متاحة في بعض مداركها للعموم، ولكن بين الفلاسفة الحقيقيين والعوام توجد فصيلة مولعة بالتكرار، مثال عن الفيلسوف الكادح بتعبير نيتشه، وهو طبعا وصف يقصد به نجوما لها في سماء الأنوار فما بالك بمن هم في حكم الغمر غير المساكين بناصيتها..الفلسفة هي أيضا تاريخها..فانظر كيف تصفّ ما أنت مشتغل به في منازل تاريخ مكتظ بالمحاولات..والمشكلة هي أن ثمة سوء فهم كبير تارة يتعلق بماهية الإبداع وتارة يتعلق بطرائق التقليد..إنّ الحد بين الإبداع والتقليد ليس واضحا حتى الآن بل هو أمر ملتبس يقوم على إشكاليات مزمنة في النقد الفلسفي..بعضهم وهروبا من التقليد سقط في فخاخ المزايدة حدّ البلوغ بالإبداع درجة المستحيل..ومثل ذلك ما نهض به طه عبد الرحمن في المغرب حيث استند إلى المزايدة بالمنطق ومنطق المزايدة ليخلص إلى أنّ كل الرعيل الفلسفي الذي سبقه هو واقع في التقليد..ولكن حين نسائل طه عبد الرحمن عن الحلّ، فإنه يقترح عنوانا جاهزا في فقه اللغة: التقريب التداولي..ولو قلت له لم لا يصار إلى استعمال التناص؟ لقال هذا من مستعارات الغرب مع أن المجال التداولي هو مصطلح التيار الأمريكي في التداوليات..ولكن طه عبد الرحمن هو أكبر مستعير من هوامش الغرب وفلسفاتها..وهو نفسه مارس أشكالا من الاقتباس والتناص مع كل تياراتها كما ذكرنا بعضه وقد نذكر محطّات أخرى منه سواء في موقفه من الترجمة أو فكرته عن النقد الأخلاقي والتواصلي للحداثة..جماع كل المدارس النقدية الحديثة للحداثة مع صياغة لغوية خاصة شكلت الحدث الطهائي الملتبس الذي أبهر من يجهل عمق المنقول وعمق المأصول بتعبيره هو..ولقد أظهرنا في سالف كلامنا كيف أنّ نظرته لعلاقة الفلسفة بالترجمة هي اقتباس التفافي من ذات النقاش الذي عالجه دريدا في برج بابل في أصل الفكرة التي أثارها بنيامين..نقاش مسبوق لكنه غير عملي لأنّه يضعنا أمام تحدّي استحالة الانتقال الحر للأفكار إلاّ بشرط اللّغونة التي استقوى بها على مجال تداولي مأزوم تلعب فيه الظاهرة اللغوية لعبتها الخادعة..وهو ما نراه اليوم من اعتمال واستغلال لعبارات مشحونة لاهوتيّا ولكن بتفسير ظاهري يرتكز على باراديم تيمي ملتبس، هي ممارسة لغونية لأنها تستند إلى مقومين: لغونة الحقل الفلسفي وكذلك لغو الممارسة الفلسفية المستقوية بالرعاع، مصطلح لغوانية المحاولة الطهائية هو من نحتي الخاص ولكن فعل السرقات يستمر مع أحد مريدي طه عبد الرحمن الذي كان غلاما للسخرة بيني وبينه قبل أن يطلق لجامه ويوحي له برؤوس أقلام بليدة فيسرق منّي مصطلحا استعملته في نقد شيخه بينما يستعمله الغلام المريد ضدّي كأطرش في الزّفة..وعلى كل حال، إنّ لغونة الفلسفة في شقها التداولي المحض تقليد ألماني، وهو مما تكرس بشكله الفائق في كتابات الكهولة عند لودفيغ فتشينشتاين..اللغة كحامل لإرث رمزي وثقافي واجتماعي، مع أنّ طه عبد الرحمن لم يمارس هذا النوع من السوسيولوجيا اللسانية المقوم للتداولية بل اكتفى بالتشقيق والتفريع المنطقاني المجرد للعبارات والمفاهيم، أي ممارسة اللغونة التجريدية وليس التداولية..وأيضا كنّا أشرنا إلى اقتباسه أو بالأحرى سرقاته من شوبنهاور ناقدا كانط في نظريته الأخلاقية..الحد الفاصل هنا بين الاقتباس والسرقة هو عدم الإعلان عن الموقف أو ممارسة التجاهل حيال المصادر.. بينما لاتتحقق الفلسفة من دون اعتراف..يحصل هذا في كل جيل ولكن يجهد الفلاسفة الحقيقيين أنفسهم للتمييز بين فعل التقليد وفعل الاجتهاد في الاقتباس نفسه..هناك من يقتبس ويطور الاقتباس..وهذا ما ألح به كثيرا راولز الذي أكثر في الإخطار بأنّ رجوعه المتأخر لكانط ليس من باب الاقتباس وإنما من باب تطوير فكرة تناولها كانط أيضا..ويكاد يكون تاريخ الفلسفة النقدية الخمسينية من هذا القبيل..إنه شكل من إعادة ترميم المفاهيم وتوزيعها والبحث عن الزوايا المعتمة التي تسكن دهاليس النظرية والغير معلن عنها أو التي لم تستنفذ بعد..
الإبداع ملح الفلسفة لأنه لا توجد فلسفة تقوم على التقليد..حتى فعل تعليم الفلسفة يفرض مستويات من الإبداع البيداغوجي، لأن المطلوب كيفية خلق مستوى تواصلي تربوي غايته تمكين المتلقّي من امتلاك القدرات الكافية للتفلسف..فهنا يصبح الأمر: إما أن تكون فيلسوفا أو لا تكون..
كنت أتمنّى لطه عبد الرحمن أن لا يمارس طاقته الاستنباطية في إطار معرفي عقيم..أصلا اقترابي منه في يوم من الأيّام كان الغاية منه إنقاذ هذا العقل الشّقي الذي يملك كفاءة ناذرة ولكنه حكم عليها بالدوران في حلقة مفرغة..كان هدفي أن أنقذه من ابن تيمية في مناكفاته لابن رشد، وأن ينطلق من اللحظات الحيوية لما بعد الرشدية..وهكذا كان، فلقد بارك كتابي : ما بعد الرشدية، وخلافا لمزاعم مريديه الجهلة قال: إنه يتمتع بالعمق والوضوح، وزاد في القول: هذا ليس مجاملة وأنا معروف بعدمها.. وأردت أن أتقاسم معه تجربة الحكمة المتعالية، فأهديته كتاب الأسفار وهي نسختي الوحيدة من 9 مجلدات عسى أن تنقذه من غزّالياته لكنه ازداد ارتكاسا في تيميته..ومع مرور سنوات لم أجد للحكمة المتعالية أثرا في إنتاجاته..أهو العناد أم الاستكبار أم كراهية الحكمة النقيض لحب الحكمة وهو التعريف التقليدي للفلسفة؟..إنّني لست ناقدا لطه عبد الرحمن بل متأسّفا على طاقة هدرت، مع أنّه يدرك تماما أهمية الإطار الفلسفي الذي رجحته له..وحين كتبت عنه يوما وخالفته في نقطة واحدة وأخبرته بها قبل أن أنشرها بخصوص جوهرانية العقل..ولمّا ناقشته فيها، كان تعليقه بصوت خافت: مممم أنت تنطلق من إطار ذاك..ذاك...يقصد الحكمة الصدرائية..كنت بالفعل أنوي استنقاذ الصنعة الطهائية بجدّ وإخلاص، ولكن صاحبنا أبى إلاّ أن يستكمل المشوار في طلعات ونزلات لغوانية بعد أن توقّف عن استكمال مشروعه منذ نازلته نقديّا في زوايا منه كثيرة..كان نقدا قاسيا بحجم سعار البروباغوندا الطهائية ومآمرات من يتملّقون من حوله..لأنّني مارست حقّ النقذ في مستواه الفكري بأخلاقيات العلم وميثاقه الغليظ، إخلاصا لنقد النصوص لا نقد الشخوص فذلك ديدن اللصوص..فالبيئة الفاسدة تفسد كل شيء حتى الممارسة الفلسفية..فالفلسفة في نظري فعل تقدّمي لا نكوص فيه.. ومثل المؤسسة فإن الفلسفة لا مجال فيها للكراهية..ربما كان أوّل من ابتكر الكراهية في القول الفلسفي: طه عبد الرحمن وأبي يعرب المرزوقي..ولهذا قصّة طويلة لا مجال لذكرها هنا..العلاقة التي جمعتني بطه عبد الرحمن لم تكن كما يخمّنها بعض الدخلاء بل فيها من التفاصيل ما نحتفظ به لوقته، فعلاقتي بطه عبد الرحمن رغم قساوتها فيها ملح فيما لا يذكر ولا يفكر فيه ولا عهد لحوارييه المتهجّين لحروف الفلسفة به..إنما هذا من باب الشيء بالشيء يذكر..

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


ادريس هاني
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2016/12/08



كتابة تعليق لموضوع : الفلسفة بين التقليد والإبداع
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net