صفحة الكاتب : نبيل محمد حسن الكرخي

نقد كتاب الشيخ المظفر (1)
نبيل محمد حسن الكرخي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
المقدمة:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَالحَمْدُ للّهِ رَبِّ العالَمِينَ وَصَلَواتُهُ عَلى سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ خاتَمِ النَّبِيّيِنَ وَالمُرْسَلِينَ وَعَلى أَهْلِ بَيْتِهِ الصَّادِقِينَ وَعِتْرَتِهِ النَّاطِقِينَ ، وَالعَنْ جَمِيعَ الظَّالِمِينَ وَاحْكُمْ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ يا أَحْكَمَ الحاكِمِينَ.
يُعدّ كتاب (عقائد الامامية) للشيخ محمد رضا المظفر واحداً من اشهر الكتب العقائدية عند الشيعة الامامية في زماننا هذا وذلك لبساطة عبارته واختصاره. ولشهرة هذا الكتاب واحتوائه على اخفاقات عديدة تتعلق بمنهج المؤلف الذي القى بظلاله عليه في عدة مواضع ، ونعني به منهجه (العرفاني الصوفي- الفلسفي) في فهم العقائد الدينية والمنتمي لمدرسة ملا صدرا التي تطلق على نفسها مدرسة الحكمة المتعالية والتابعة لتراث الصوفي ابن عربي ، وجدنا أنّ هنا اهمية في تسليط بعض الضوء على السلبيات الواردة فيه لتحذير المؤمنين من الانجرار وراء الافكار (الفلسفية- الصوفية) المتضمنة فيه والمتقاطعة مع عقائد الشيعة الامامية المنتمين لمدرسة الأئمة الهُداة آل البيت الاطهار (صلوات الله عليهم).
يرى المؤلف في مقدمة الطبعة الثانية[1] إنَّ لكتابه هذا اهمية تكمن في التقريب بين السنة والشيعة ، وربما سعى لتحقيق هدفه هذا من خلال الفقرة التي عقدها تحت عنوان (عقيدتنا في الدعوة الى الوحدة الاسلامية) ، ومن خلال تنميق بعض عبارات الايمان العقائدي ببعض القضايا كقضية الرجعة لعله يحرز رضا المخالف ! – قال تعالى: ((وَلَن تَرْضَى عَنكَ اليَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ العِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ)) - حيث يقول في خاتمة مناقشتها مثبتاً لها ولصحتها: (وعلى كل حال ، فالرجعة ليست من الاصول التي يجب الاعتقاد بها والنظر فيها ، وإنما اعتقادنا بها كان تبعاً للآثار الصحيحة الواردة عن آل البيت (عليهم السلام) الذين ندين بعصمتهم من الكذب ، وهي من الامور الغيبية التي اخبروا عنها ، ولا يمتنع وقوعها)[2] ، فيكون المؤدى واحد وهو اننا نعتقد بالرجعة وإنْ لم تكن من اصول الدين ، مع انَّ احداً من علماء الشيعة الامامية لم يقل انها من اصوله !
كان المؤلف يهدف من من كتابه هذا تسجيل خلاصة ما توصل اليه من فهم المعتقدات الشيعية الامامية ، "مجرّدة عن الدليل والبرهان" ... "بدافع القائها محاضرات دورية في كلية منتدى النشر الدينية ، للاستفادة منها تمهيداً للأبحاث الكلامية العالية"[3] على حد تعبيره.
ولابد قبل المباشرة في نقد هذا الكتاب تسليط بعض الضوء على الاختلاف بين منهجي المتكلمين والفلاسفة في تناول العقائد الدينية والذي يؤدي الى الاختلاف في بعض النتائج المهمة ! مما يؤثر على صفاء العقيدة الدينية وحقانيتها. ومؤلف الكتاب ينتمي للمنهج (الفلسفي- الصوفي) في تناول العقائد الدينية ، ولذلك نراه يميل للفلسفة والتصوّف ويهاجم علم الكلام في مواضع عدّة من كتابه هذا.
ان علم الكلام هو علم اسلامي صرف نشأ وترعرع في ظل الاسلام ليخدم الايمان العقائدي للمؤمنين والمسلمين ، تكلم به امير المؤمنين علي بن ابي طالب (عليه السلام) في احداث السقيفة ، بل وهناك بعض الاحتجاجات المروية عن النبي (صلى الله عليه وآله) وهي من علم الكلام. ولا نبالغ إنْ قلنا أنَّ الاحتجاجات القرآنية ايضاً مبنية على علم الكلام من قبيل قوله تعالى: ((مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ)). وقوله تعالى: ((وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ)).
وربما يتميز علم الكلام بالتالي:
1.    مصادر المعرفة هي الكتاب والسُنّة والعقل.
2.    يقصد بالعقل هو المسلّمات العقلية التي لا تحتاج الى برهان.
3.    الادلة السهلة والواضحة وقلّة المقدمات.
4.    الجمع بين التأثير في القلوب والاقناع في العقول. 
5.    المجادلة بالتي هي احسن.
6.    تجنب الحيدة عن المطلب ومنع الخصم منها.
 
أمّا الفلسفة فهي ذات اصول غير اسلامية ، فقد عُرِفَت الفلسفة عند اليونان ، ثم انتقلت الفلسفة الى المسلمين وفكرهم وعقيدتهم عبر عدد من الفلاسفة كابن سينا والفارابي وابن رشد والسهروردي ، الى ان ظهر ملا صدرا في بداية القرن الحادي عشر الهجري (توفي 1050هـ) والذي تبع ابن عربي في تصوفه وفلسفته مؤسساً من تراثه مدرسة (الحكمة المتعالية) الشيعية.
إنَّ اهم ميزة تمتاز بها المدرسة الكلامية هي أنها تعنى بتأسيس القضايا العقائدية في اصولها الخمسة (التوحيد والعدل الالهي والنبوة والامامة والمعاد) والدفاع عنها ضد الشبهات وضد التوجهات العقائدية الاخرى منطلقة بذلك من النصوص المقدسة (الكتاب والسنة) ، بينما الفلسفة تسعى للحصول على المعرفة وتكوين نظريات عقائدية دينية متمثلة بالبحث في التوحيد وصفات الخالق جلَّ وعلا وكيفية الخلق ومراحله واطواره ومآله في العالم الآخر منطلقة من قواعد فلسفية  فكرية ، ثم تقوم بتطبيق الايات القرآنية والروايات وتاويلها لتطابق نتائجها الظنية الفلسفية والشهودية الصوفية. 
ويقصد بالعقل الذي هو احد مصادر المعرفة في علم الكلام هو البديهيات العقلية التي لا يختلف على صحتها العقلاء ، مثل عدم اجتماع النقيضين ، وعدم جواز الدور والتسلسل في الاستدلال ، وفاقد الشيء لا يعطيه[4] ، وان النفي والاثبات لا يصدقان معاً في شيء واحد ، والحادث لا يوجد من دون سبب ، والصفات المتضادة لا تجتمع في موضوع واحد ، والكل أكبر من الجزء ... الخ. ويطلق ايضاً على البديهيات العقلية أسم المعارف الضرورية او البديهية ، ومعنى الضرورة هنا أن النفس تضطر الى الاذعان بقضية معينة دون ان تطالب بدليل على صحتها بل تجد من طبيعتها التصديق بها تصديقاً غنياً عن كل بيّنة وإثبات[5].
ويظن البعض ان علم المنطق لصيق بالفلسفة ، بينما نجد ان العديد من القضايا المنطقية الرئيسية يحكم بها العقل الانساني حتى لو لم يكن مطلعاً على علم المنطق الارسطي لأنها قضايا عقلية بديهية. ولذلك نجد ان السيد الخوئي (رضوان الله عليه) يقول: (أما علم المنطق فلا توقف للاجتهاد عليه أصلا لأنه يعرفه كل عاقل حتى الصبيان)[6]. فالسيد الخوئي (رضوان الله عليه) يريد ان يقول ان القضايا المنطقية المهمة في الحياة هي قضايا بديهية يعرفها جميع الناس ، ولذلك نجد ان المنطق هو جزء من علم الكلام ومن قواعده لا بإعتبار ان علم الكلام يستند في تحقيقاته الى المنطق الذي هو جزء من الفلسفة بل لكون القضايا المنطقية الرئيسية هي قضايا بديهية يتفق عليها جميع الناس ولذلك فهي معتمدة في علم الكلام وتشكل ركناً فاعلاً فيه. 
وبعبارة اخرى ان القضايا العقلية البديهية التي يستند اليها علم الكلام هي القضايا الفطرية التي فطر الله سبحانه الناس عليها وميزات الفطرة هي (أنها ليست بحاجة الى التعليم والتعلّم كما انها ليست قابلة للتغيير ولا التبديل وميزة ثالثة وهي ان فطريات كل نوع من الموجودات تتوفر في جميع افراد ذلك النوع وإنْ كانت قابلة للضعف والشدّة)[7]. وتقسم الفطرة الى قسمين (اولهما المعارف التي هي من لوازم وجود الانسان والثاني الميول والرغبات التي هي مقتضى كيفية خلق الانسان)[8] ، والقسم الاول كما هو واضح هو مدار اهتمامنا والذي له علاقة بعلم الكلام.
ومن القضايا التي تخص علم الكلام ولم نجد من تطرق اليها هي قضية ارتباط علم الكلام بهداية عموم الناس. فعلم الكلام هو مرتبط بالعقائد الاسلامية : التوحيد وما يتضمنه من معرفة الله سبحانه وصفاته الذاتية والفعلية ، وعدله ، وايضاً يتضمن: النبوة والامامة والمعاد. وحيث ان العقيدة الاسلامية هي لعموم الناس فيجب ان يكون مستوى الخطاب في علم الكلام هو ما يفهمه عموم الناس حيث تعرض الادلة وتقام الحجج وتثبت البراهين. فهذا ما يحتاجه عموم الناس لتحقيق الهدف من البعثة النبوية وهو الهداية العامة. اما الفلسفة فهي خطاب تخصصي لقلة قليلة من المتخصصين ولذلك لا يمكن ان ترتقي الفلسفة لتكون ذات فائدة لعموم الناس ، فضلاً عن انها تعتمد على قواعد فكرية ظنية غير يقينية ، وهي ايضاً قواعد كليّة غير تفصيلية فلا تتمكن من البحث في دقائق وتفاصيل المسائل العقائدية ، فلا تستطيع الفلسفة اثبات نبوة الانبياء (صلوات الله عليهم) مثلاً اثبات ان محمد (صلى الله عليه وآله) هو نبي ، وكذلك لا تتمكن من اثبات امامة الائمة (صلوات الله عليهم) ، بل يتكفل علم الكلام بذلك ، فيتناول المسائل وتفاصيلها وجزئياتها من قبيل اثبات النبوة واثبات ان محمداً (صلى الله عليه وآله) نبي وان القرآن الكريم كلام الله سبحانه ، وان الاوصياء هم اثنا عشر وصياً اولهم امير المؤمنين علي بن ابي طالب (عليه السلام) وآخرهم الحجة بن الحسن (عجَّل الله فرجه الشريف). بينما الفلسفة لا تتناول الا المسائل العامة من قبيل اثبات التوحيد والحاجة الى الانبياء وهكذا دون تفاصيلها ، فبالفلسفة لا تتمكن على سبيل المثال من تشخيص مَن هم الائمة الاثني عشر (عليهم السلام) بينما علم الكلام يتمكن من ذلك التشخيص. ولذلك نجد انه حتى انصار الفلسفة لا يستطيعون الاستغناء عن علم الكلام.
إذن الانسان يحتاج علم الكلام من اجل هدايته الى الصراط المستقيم ، ففوائده اذن دنيوية واخروية. اما الفلسفة فلا يصح منها الا ما كان منها في خدمة علم الكلام. فالفلسفة يمكنها ان تقوم بتعضيد علم الكلام في نتائجه التي يتوصل اليها ، وكذلك يمكنها نقض الشبهات التي يثيرها خصوم الدين والمذهب. وهذا هو منهج الشيخ نصير الدين الطوسي والعلامة الحلي (رضوان الله عليهما) حيث يصنفان بانهما اول من ادخل المصطلحات الفلسفية في علم الكلام ومن بعدهما توسع التعامل الفلسفي عقائدياً ، اما مقدار نجاحهما في جعل الفلسفة اداة لعلم الكلام في أثبات العقائد او الدفاع عنها فهذا بحث آخر. اما ان تكون الفلسفة هي المؤسس للعقيدة ولفهم الوجود بقواعدها الذاتية الظنية فهذا غير مقبول وغير مجدي لعدم عصمة الفلاسفة مع ما نجده بينهم من اختلافات شاسعة وبون كبير في تأسيس القواعد الفلسفية وفهمها لدرجة انه تم تأسيس مدرسات فلسفية متباينة في الفهم الفلسفي كالمدرسة المشائية والمدرسة الاشراقية ، وحتى داخل المدرسة الواحدة هناك اختلافات بين الفلاسفة انفسهم. فلا يمكن الوثوق بفلسفاتهم. واما علم الكلام فقد وضع قواعده الائمة الاطهار (عليهم السلام) وعلموها لأصحابهم كهشام بن الحكم ، وأبي جعفر مؤمن الطاق ، وهشام بن سالم ، وحمران بن أعين ، والفضل بن شاذان ، والمتكلّمين النوبختيين ، "حيث كان الجميع يعارض المزاج الفلسفي، ويقال: إنّ هشاماً بن الحكم كان له كتاب ردّ فيه على أرسطو في التوحيد"[9]. ومنهم وصل علم الكلام الى فقهاء الشيعة الامامية وتم تأسيس القواعد العقائدية الكلامية. والسيد محمد حسين الطباطبائي وهو من علماء مدرسة الحكمة المتعالية (الفلسفية-الصوفية) يعترف بحقيقة ارتباط علم الكلام بمدرسة الائمة الاطهار (عليهم السلام) فيقول: "فعلما الشيعة ومحققوهم والذين هم تلاميذ مدرسة اهل البيت (ع ), كانوا في المقدمة من المتكلمين"[10].
فإذن يمكن تلخيص الافتراقات بين علم الكلام والفلسفة في التالي:
1.    ان موضوع علم الكلام هو العقائد الاسلامية المتعلقة ببأصول الدين وفي مقدمتها التوحيد ومعرفة الله سبحانه وتعالى وصفاته ، واما موضوع الفلسفة فهو الموجود بما هو موجود ، أي معرفة احكام الوجود وخواصه الكلية ، لتمييز الوجودات الحقيقية عن غيرها من الوجودات الاعتبارية والوهمية ، ومعرفة العلل غير الطبيعية ، والعلة الاولى للعالم ويشمل ذلك وجود الله سبحانه وتعالى وصفاته . وعليه فإنَّ الكلام والفلسفة يلتقيان في معرفة الله تعالى ولكنهما يختلفان احياناً في نتائجهما ! 
2.    فيما يتعلق بالمنهج نجد انَّه في علم الكلام إنَّ المتكلم يستخدم الابحاث العقلية لاثبات العقائد الدينية ، والتوفيق بين العقليات والامور الشرعية منطلقاً بذلك من النص ومراعياً في فهمه ما يتوافق مع العقل. اما في الفلسفة فان الفيلسوف ينطلق من القواعد الفلسفية لاثبات العقائد الدينية ، فيحمل النص ويؤوله ليكون منسجماً مع القاعدة الفلسفية بخلاف علم الكلام الذي ينطلق من النص. فاذا لم تكن الاحكام الفلسفية موافقة للظواهر الشرعية فإنَّ الفيلسوف يتصرَّف في هذه الظواهر بنحو يجعلها تلائم وتلك القواعد الفلسفية. اي ان علم الكلام هو في خدمة النص الشرعي بينما يكون النص الشرعي في خدمة الفلسفة.
ويحاول انصار الفلسفة ان يبرزوا غلبة الفلسفة على علم الكلام ، فيبرزون ان الفلسفة اقدر على اكتشاف الحقائق الدينية من علم الكلام ، ويزعمون امكانية الفلسفة على التوصل للحقائق الدينية بمعزل عن الشرع وعن علم الكلام !! فالى جانب النص الذي ذكره الشيخ المظفر والذي نقلناه آنفاً ، نجد كمثال آخر الشيخ علي الرباني الكلبايكاني يقول: "إنّ المتكلم دائماً يحاول أن يستخدم الابحاث العقلية لإثبات العقائد الدينية ، وأن يقوم على التوفيق بين العقليات والظواهر الشرعية ، ولكن الفيلسوف الالهي إنما يطرح ابحاثه العقلية تحرّياً للحقيقة ، دون أن يتخذ موقفاً فبلياً ، وبإعمال قوّته الفكرية يستطيع أن يفتح كنوز المعارف الدينية ، وإذا كانت الاحكام العقلية أحياناً لم توافق الظواهر الشرعية ، فلا بد ان يتصرف في الظواهر ويفسّر بما يناسب معطيات الادلة العقلية الصحيحة"[11]. ثم يستشهد بقول للمحقق اللاهيجي: "أمّا الفرق بين الكلام والفلسفة فإنَّ العقل له استقلال تامّ في كسب المعارف الإلهية الحقيقية ولم يتوقف في ذلك على ثبوت الشريعة ، فتحصيل المعارف الحقيقية إذا كان من طريق البراهين العقلية الصرفة المنتهية الى البديهيات ، فهذا منهج الحكماء ، والعلم الحاصل من هذا الطريق يسمى بـ (الحكمة) وهو لا محالة يوافق الشريعة الحقّة ، لأن حقيقة الشريعة إنما تتحقّق في نفس الامر بالبرهان. وإذ يبدو – أحياناً – تعارض أو اختلاف بين المسألة الحكمية الثابتة بالبرهان الصحيح وبين القاعدة الشرعية فيجب تأويل القاعدة الشرعية"... الى ان قال: "إنّ الحكمة في الاسلام ليست في الحقيقة إلا كأساس الشريعة وأصلها ، وتوهّم  حصول الاختلاف بين الشريعة والفلسفة إنما هو ناجم من الجهل وعدم المعرفة بحقيقة هذا وذاك"[12].
وهذا النص يخلط بين المعارف العقلية التي فطر الله سبحانه الانسان عليها ، وبين المعارف الفلسفية الظنية ، ويحاول تجيير الاولى لصالح الثانية !! وهي محاولات عقيمة للتغطية على الفشل الذريع للفلسفة في اثبات الحقائق الدينية او الانتصار لها.
وفي محاولة من اتباع الفلسفة للتضييق بين الهوة الواسعة بين علم الكلام والفلسفة يقولون: "إن موقف المتكلمين من الشيعة اتجاه الفلسفة موقف ايجابي وذلك لأن منهجهم في الكلام هو المنهج العقلي ، وقد استلهموا هذا من ائمة أهل البيت (عليهم السلام) ، إذ العقل – في مدرستهم – حجّة إلهية باطنية ، كما ان الانبياء والقادة الإلهيين حجج الله الظاهرية ، ونحن نرى المعارف الإلهية مبنية على المعايير العقلية بأعلى مراتبها في خطب الامام علي (عليه السلام) في الإلهيات ، فهو رائد الفكر الفلسفي بمعناه الصحيح في العالم الاسلامي ، والذي ورد في الثقافة الاسلامية عن طريق فلسفة اليونان لا يزيد عن طور الاصطلاحات والقوالب الفنية ، مضافاً الى بعض الآراء غير الصحيحة التي هذّبها فلاسفة المسلمين في عصور متأخرة"[13].
وهذه الدعوى تحاول التغطية على النصوص المروية عن ائمة اهل البيت الاطهار (عليهم السلام) والتي تذم الفلسفة وتحذر منها ، وفي المقابل فإنَّهم (عليهم السلام) علموا اصحابهم علم الكلام.
والآن ننتقل الى ابواب كتاب (عقائد الامامية) للشيخ محمد رضا المظفر لتسليط بعض الضوء عليه ومناقشة بعض الفقرات الواردة فيه، ولذلك سنستعمل نفس عناوين الابواب او الفقرات الواردة فيه.
 
{عقيدتنا في النظر والمعرفة}:
أجاد المؤلف في بيانه ان "عقولنا هي التي فرضت علينا النظر في الخلق ومعرفة خالق الكون" و"وجوب النظر والمعرفة في اُصول العقائد، ولا يجوز تقليد الغير فيها" و"إنّ هذا وجوب عقلي قبل أن يكون وجوباً شرعياً، أي لا يستقى علمه من النصوص الدينية، وإن كان يصح أن يكون مؤيّداً بها بعد دلالة العقل"[14].
ومعنى ذلك ان الايمان هو قضية فطرية مزروعة في العقل البشرية من قبل خالقه تعالى ، وأن التفكر والتدبر هو سمة العقلاء بدافع ذاتي نابع من العقل السليم المنسجم مع فطرته. 
ومن ذلك تتبلور فكرة ان الملحدين في ابتعادهم عن الاعتراف بالحقيقة الالهية انما يخالفون فطرتهم العقلية التي فطرهم الله سبحانه وتعالى عليها. فكل ما يأتي به الملحدون من شبهات تتعلق بالخلق وكيفيته وتلبسهم بنظرية دارون وغيرها من الشبهات فهي مجرد اوهام فكرية يبتدعونها من اجل التهرب من الالتزام العقلي العقائدي والشرعي الذي تقودهم له الفطرة والقواعد العقلية الاصلية التي وضعها الله سبحانه وتعالى في العقل البشري.
 
{ عقيدتنا في التقليد بالفروع} ، { عقيدتنا في الاجتهاد}:
تطرق الشيخ المظفر تحت هذين العنوانين الى موضوع التقليد بالفروع والاجتهاد ، وقد تحدث عن الموضوعين وكأنهما موضوعان عقائديان ، بينما الحقيقة غير ذلك ، فالموضوعان يتعلقان بمنهج المسلم في تحصيل الاحكام الشرعية وموقفه من التصدي للاجتهاد. وهذه القضايا لا ترتقي الى مستوى العقيدة ، فهناك من الشيعة الامامية الاخباريون الذين لا يتفقون مع الاصوليين في موضوع الاجتهاد. والاخباريون طائفة شيعية محترمة وعلماؤهم محل احترام ، فنحن جميعا اخوة في الدين والعقيدة ، واختلافنا في طريقة تحصيل الحكم الشرعي لا ينبغي ان يفرّقنا. وعجباً للشيخ المظفر وهو يحرص في كتابه على الوحدة الاسلامية ثم يتطرق لما فيه تغييب وتهميش لطائفة شيعية محترمة هي طائفة اخوتنا الاخباريين ، فكان الاولى به مراعاتهم وكتابة كلامه بما لا يجرح مشاعرهم بتسليط اجواء الاقصاء عليهم !
وهناك أمر آخر ذكره الشيخ المظفر بقوله: (لا يجوز لهم أن يقلِّدوا من مات من المجتهدين)[15]. فهو لم يبين مقصده هل هو التقليد استدامة ام ابتداءاً ، وظاهر كلامه انه يقصد التقليد ابتداءاً. وسواء كان مقصده هذا او ذلك فقد نسب للشيعة الامامية عقيدة لم يعرفوها ، فلا قضية الاجتهاد قضية عقائدية عندنا ، بل هي منهج مختلف فيه كما بيناه آنفاً ، ولا تحريم تقليد الميت ابتداءاً هو امر متفق عليه حتى بين علماء المدرسة الفقهية الاصولية. فالعديد من العلماء الاصوليين يجيزون تقليد الميت ابتداءاً او مالوا اليه في ابحاثهم الفقهية ، ولذلك لم يكن ينبغي له ان يذكر هذه القضية لا بصيغة انها عقيدة شيعية ولا بصيغة انها امر مُجمعٌ عليه بين علماء الشيعة الامامية. 
 
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش:
[1]  عقائد الامامية / الشيخ محمد رضا المظفر / اصدار مؤسسة المرتضى للثقافة والارشاد / مؤسسة الرافد للمطبوعات في بغداد ، 2011م – ص37.
[2]  المصدر السابق – ص114.
[3]  المصدر السابق – ص39.
[4] عن (فاقد الشيء لا يعطيه) قال الشيخ علي حمود العبادي: (هذه كبرى عقلية يكفي لاثباتها تصور اطرافها). أنظر: دروس في التوحيد / تقريرات ابحاث سيد كمال الحيدري – ص126.
[5] الخلاصة الفلسفية / السيد علي حسن مطر الهاشمي– ص87.
[6] التنقيح في شرح العروة الوثقى / تقرير لابحاث السيد ابو القاسم الموسوي الخوئي (قدس سره) / الشيخ علي الغروي (قدس سره) – ج1 ص12.
[7] الخلاصة الفلسفية / السيد علي حسن مطر الهاشمي– ص336.
[8] المصدر السابق – ص336.
[9] مقال بعنوان (إعادة النصاب، قراءة نقديّة لمقالة – العقل والدين بين المحدّث والحكيم) بقلم الشيخ علي ملكي الميانجي ، ترجمة محمد عبد الرزاق ، منشور في موقع نصوص معاصرة الالكتروني بتاريخ 16 اغسطس 2014م. وأيضاً المقال منشور في مجلة نصوص معاصرة ، العدد 7.
[10] الشيعة في الاسلام / السيد محمد حسين الطباطبائي - ص96.
[11]  ما هو علم الكلام / علي الرباني الكلبايكاني - ص63.
[12]  المصدر السابق - ص64.
[13]  المصدر السابق- ص90.
[14]  عقائد الامامية / الشيخ محمد رضا المظفر (مصدر سابق) – ص41 و42.
[15]  المصدر السابق – ص44.

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


نبيل محمد حسن الكرخي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2016/08/18



كتابة تعليق لموضوع : نقد كتاب الشيخ المظفر (1)
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net