صفحة الكاتب : علي بدوان

المسافة بين التغيير الديمقراطي والسلوك العدمي
علي بدوان

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

لا يمكن الحديث عن الواقعة المأساوية التي حدثت في مخيم اليرموك للاجئين الفلسطينيين في سوريا يوم السادس من يونيو الجاري دون تدقيق ودون تمحيص ملموس، ودون تحديدات واضحة تقفز عن التعميمات التي أطلقها البعض من الكتاب الفلسطينيين في سوريا، ومن أصحاب الرأي من الفلسطينيين الذين أدلوا بدلوهم من خارج سوريا.
فالواقعة التي حدثت في اليرموك، كانت مأساوية بكل ما للكلمة من معنى من حيث الخسائر البشرية التي أدت لسقوط ستة أفراد، منهم ثلاثة من الجبهة الشعبية/القيادة العامة، ومواطنان فلسطينيان، إضافة لمواطن سوري. عدا عن الخسائر المادية الباهظة التي قدرت بنحو (50) مليون ليرة سورية نتيجة اشتعال التجهيزات التي أتت على كل ما هو موجود في المركز الاجتماعي والخدماتي المسمى بمقر الخالصة والتابع للجبهة الشعبية ـ القيادة العامة.
كما كانت الواقعة مأساوية بفعل ما قد تؤسسه من مخاطر لاحقة على حياة الناس مع بروز وتنامي المواقف والمسلكيات العدمية التي بات أصحابها يرون بأن البديل عن الفصائل يمر عبر إحداث انقلاب كامل عليها، حتى لو كلف هذا الانقلاب إحداث انفلات تام في الأمن المجتمعي للفلسطينيين، وبالتالي فتح الأبواب أمام سعير وأوار حرب لا تذر ولا تبقي في البيت الداخلي الفلسطيني، خصوصًا في ظل الوضع الخاص الذي تمر به سوريا الآن.
وفي هذا السياق، فإن شعار "الشعب يريد اسقاط الفصائل" الذي بدا (لماعًا وبراقًا وجذابًا) لقطاعات من الشباب الفلسطيني، ساد هو الآخر في المخيمات الفلسطينية، وشكل عنصرًا تحفيزيًّا هامًا في استيلاد قوة الاندفاع لدى بعض قطاعات الشباب.
وبالطبع فإن لا مشكلة هامة في طرح موقف أو شعار من نمط (الشعب يريد إسقاط الفصائل) .. لكن المشكلة تقع حين يتم استيلاد هذا الشعار ومحاولة ترجمته على الأرض عبر اتخاذ مسلكيات وخطوات (عدمية) تفتح الطريق أمام سيلان الدم الفلسطيني وتقفز عن حرمة الأملاك العامة والأملاك الشخصية.
إن "شعار الشعب يريد إسقاط الفصائل" وبغض النظر عن "الحجج والدوافع التي يتسلح بها أصحابه، وبغض النظر عن تعبيراته التي تعكس تململاً في صفوف الناس وابتعادًا وافتراقًا منهم عن غالبية القوى والفصائل" يفترض برافعيه اتخاذ الطريق الحضاري الذي يؤمن العناصر اللازمة لإنجاح هذا الشعار وصولاً إلى مبتغاه في مشوار قد يطول، لكنه هو المشوار الصحيح الذي يضمن وصول الناس إلى تحقيق قدر معقول مما يصبون إليه من تغيير منشود ديمقراطي حقيقي طالما سعينا إليه في الساحة الفلسطينية كمواطنين وككوادر في مختلف الفصائل.
فشعار "الشعب يريد إسقاط الفصائل"، وإعادة بناء البدائل لا يتم إلا بفعل عمل ديمقراطي حقيقي في الساحة الفلسطينية وبنفس صبور ومثابر دون اللجوء إلى مغامرات قاتلة ومؤذية، قد تتسبب في هدر الدماء وإراقتها، وتدمير المجتمع المحلي، حتى وان بدا هذا الأمر صعبًا وقاسيًا للوهلة الأولى في ظل معادلة فلسطينية معقدة.
لقد ألقيت على مقر الخالصة التابع للقيادة العامة زجاجات كوكتيل مولوتوف، وألقيت جرار الغاز التي انفجرت واحدة منها بين المنازل، وأحرقت سيارات المدنيين إضافة لسيارات القيادة العامة، وسرقت ونهبت بعض البيوت، فهل هذه المسلكيات تفتح الطريق أمام البديل الذي يتوخاه أصحاب شعار "الشعب يريد إسقاط الفصائل"، وهذا الطريق لا يذر ولا يبقي، ويذهب بأصحابه للهاوية، وقد يذهب بالجميع.
نعم إن الفصائل تتحمل مسؤولية أساسية في سيادة روح اليأس والإحباط لدى قطاعات من الشباب، وسيادة روح التذمر الشديدة، وتحجر بناها وفقدانها للعلاقات الصحيحة والمحترمة مع الناس ومع كوادرها ... الخ . لكن علينا بالمقابل أن نتحدث بلغة مقنعة تقفز عن العموميات وعن عبارات يجب ويجب ويجب عند الحديث عن الفصائل، فتلك عبارات قسرية وقهرية واستبدادية في جوهرها.
وعلينا أن نكف أيضًا عن (دغدغة) مشاعر هؤلاء الشبان الذين يتمتعون بمصداقية وطنية حقة، وغالبيتهم لم تشارك بما حدث في محنة مخيم اليرموك.
فالحديث النقدي المطلوب والضروري، والمتعلق بمسارات ومآلات الساحة الفلسطينية وفصائلها بكافة تلاوينها الأيديولوجية والسياسية، يفترض به أن يبتعد عن تأجيج الفتن وبث أجواء ومناخات التحريض واستيراد القديم بهدف إشعال الحاضر بآثام الماضي كالحديث عن معركة الكرامة (من قاتل ومن رفض القتال) وعن محنة مخيم تل الزعتر وعن حروب المخيمات وعن وعن وعن ... وكلها قضايا إشكالية بالأساس، وما زالت التقديرات والآراء تتضارب بشأنها حتى على لسان من عاشها في الميدان وعلى الأرض وأنا واحد منهم.
إن الحديث الصريح والواضح مع هؤلاء الشبان، هو في (الاستقامة الحقة) التي تحفظ مصالح الشعب الفلسطيني، وتبتعد عن التثمير الرخيص أو عن تصفية حسابات سياسية أو فصائلية أو شخصية بفعل (أثر رجعي).
إن الإثارة والتهييج والتحريض غير المسؤول، وهو تحريض مقصود في معظمه (قد يكون تصفية حسابات سياسية وغير سياسية وحتى شخصية) فلا يقود إلا إلى الدمار والتخريب، والى الإساءة لشعارات التغيير التي رفع لواءها هؤلاء الشبان وهم يستلهمون الدروس الايجابية من هبات الربيع العربي.
إنني من خارج الفصائل منذ قرابة عقد إلا قليل من الزمن، وقد دفعت ثمنًا باهظًا من حياتي (الشخصية وغير الشخصية) في إطار الفصائل أو الفصيل الذي كنت أنتمي إليه في الماضي لسنوات طويلة ناهزت عقدين ونصف، ومع هذا أقول بكل موضوعية "وبعيدًا عن الجرح الشخصي الذي أصابني في مسيرتي الفصائلية والإساءات المتعمدة المنحطة، والموجهة والمدروسة التي لحقت بي من طرف الجهة التي كنت أنتمي إليها" أقول إن شعار "الشعب يريد إسقاط الفصائل" يحمل في طياته معنى تغييريا وايجابيا، ومعنى عميقا جدا، ونبيلا جدًا، فيما لو تم الأخذ بناصيته لإعادة بناء مجمل الحالة الفلسطينية بنفس صبور ومثابر وحضاري، فالطريق إلى جهنم معبد بالنوايا الطيبة، فإذا كان الطريق إلى "إسقاط الفصائل" يتم عبر مسلكيات تماثل ما حصل في مخيم اليرموك يوم السادس من يونيو الجاري فعلى هذا الشعار السلام، وعندها ستجد الناس وقد أدانت أصحابه وانفضت عنهم.
إن ترويج ثقافة ديمقراطية بعيدة عن التخندق تؤمن بالآخر وبحقه في الرأي (ولو بدا عملاً شاقًا) تبقى هي الطريق الذي يفتح المجال أمام التغيير المنشود في الساحة الفلسطينية، كما يفتح المجال أمام كبح مسلكيات وسياسات وممارسات فصائلية "منحطة" طالما مارسها البعض (وأقول البعض) في الساحة الفلسطينية، ويعلمها القاصي والداني.
إن الفصائل تتحمل ولو بتفاوت مسؤولية الواقع الافتراقي الذي يعيشه فلسطينيو سوريا عن معظم تلك الفصائل. فالفلسطينيون في سوريا كانوا وما زالوا على الدوام في قلب الحركة الوطنية الفلسطينية إلا أن حالة التذمر والابتعاد عن الفصائل التي باتوا يعيشونها منذ زمن تفترض على كل الفصائل العودة لدراسة الأسباب، وتغيير ذاتها.
أخيرًا، كم تمنيت لو رأيت من يريد "إسقاط الفصائل" وهم يتجمهرون في احتشاد حضاري سلمي ديمقراطي أمام مقر الخالصة التابع للقيادة العامة أو أي من مقرات باقي الفصائل الفلسطينية اعتصامًا أو جلوسًا على الأرض أو ... ، وعندها لوجدوا الأعداد المتزايدة ممن يصطف ويرفع اليافطات بينهم داعين لفتح الطريق أمام البديل الديمقراطي الحقيقي في الساحة الفلسطينية.


 


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


علي بدوان
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2011/07/30



كتابة تعليق لموضوع : المسافة بين التغيير الديمقراطي والسلوك العدمي
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net