صفحة الكاتب : ادريس هاني

من أجل نظرية جديدة للقيم
ادريس هاني

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
    إنّ الحاجة إلى القيم هي حاجة وجودية قبل أن تكون اجتماعية..فالكائن يحتاج إلى قيم حتى لو عاش على سبيل التّفرد في جزيرة نائية..القيم هي كلّ شيء في حياتنا حتى في اللحظات التي نستشعر الاستغناء عنها..قدر العالم أن يهرب من قيم إلى أخرى ولو كانت مزيفة ، ولا يهرب من القيم مطلقا..لقد دخل الزيف في منظومة القيم وكان للأيديولوجيا نصيب من تزييف القيم..فالأيديولوجيا من شأنها أن تزيّف ما ينتجه العقل النظري والعقل العملي معا.. وقد باتت القيم موضوعا للاجتماع والتاريخ والمعرفة والبيولوجيا أيضا..تتأثر أساليب التربية وفلسفة القيم بمحصول التطور العلمي والاجتماعي والتاريخي..ليس الأمر في نهاية المطاف يتعلق بقيم معينة الكل يزعم أنّه يتغيّا بلوغها، بل المشكلة تكمن في أسلوب إحراز هذه القيم وتمثّلها..عنوان مشروع النظرية التي أطرحها وتتطلب الكثير من التأسيس والتقعيد أسمّيها: (هولوغرامية القيم)..وهي نظرية من شأنها أن توقف الهدر القيمي الناشئ من فوضى القيم، أي القيم في تناثرها العشوائي الفاقد للفعالية والتي تنتج الهشاشة القيمية التي يعاني منها عالمنا من حيث هو عالم التفتيت الممنهج للقيم والأشياء..ويمكن اعتبار مشروع نظرية هولوغرامية القيم تعميقا أو إكمالا لما كنّا أثرناه في كتاب (أخلاقنا: في البحث عن فلسفة أخلاق بديلة)..
هناك من أقام كلّ فلسفته على مفهوم الرّغبة..بالفعل إنّ هذه الأخيرة هي محرّك التّاريخ..ولكن التّاريخ حين يتحرّك بناء على الرغبة وحدها تكون حركته عشوائية..ومن المؤكّد أنّ ثمة صراعا عميقا بين القيم والرغبات..فالقيم تحاصر الرغبات وأحيانا تنهزم وتصبح الرغبات هي نفسها من يتحكّم في لعبة القيم، تلك التي نسميها قيما مزيّفة..وعبر التاريخ كان البشر يستشعرون أن القيم تلاحقهم وتحاصرهم..والحلم بمجتمعات منطلقة خارج تحكم الأنا الأعلى الجمعي كان ولا زال يراود مخاييل تيّار اللذة..والحقيقة أنّ القيم إذا لم تتحوّل إلى لذة ورغبة فإنها ستكون مجرد تشويش في حياة المجتمعات..بينما ستصبح لدى الأفراد مبعث حصر ونوراستينيا جماعية وربما كانت سببا في نشوء أمراض وقلق عارم.. إن تحوّل القيم إلى لذّة ورغبة وحده يحلّ إشكالية اللّذة نفسها..تلك التي يستحيل إرواءها..وتنتج إدمانا لشيء لن يكتمل..لا توجد رغبات مكتملة بقدر ما توجد قيم مكتملة..القيمة في مثل هذه الحالة ستكون هي الرغبة المعقولة لأنها قابلة للإرواء والإشباع والكمال.. القيمة علاج عقلي لانحراف الرّغبة بل علاج ضدّ الإدمان..فالعالم هو مجال لكل أشكال الإدمان التي تنتجها الرغبة..فمنتهى كل رغبة هو الإدمان..وهي حالة الاجتماع الإنساني في رغائبه المتكاثرة والتي تمثّل محفّزا كبيرا للاستهلاك..الرغبة هي أمّ الرأسمالية وأنماطها في الاستهلاك..وهو الأساس اللاّعقلاني الذي تستند إليه الرأسمالية التي تعتبر العدو التاريخي للقيم..فلقد عملت الرأسمالية على ابتكار ما به تشيّأ العالم وبما به تمّ استعباد الإنسان بواسطة التحكم بالرغبة..لا زال الاقتصاد السياسي للرغبة يعيق قيام بدائل اقتصادية واجتماعية للقيم الحرّة..تستغل الرأسمالية مفهوم الحرية ـ المتماهي مع فوضى الرغبة ـ في إرباك مصير القيم ودورها في المجتمع والتاريخ..كما تعمل على صياغة منظومات قيمية زائفة لمواجهة القيم الصحيحة التي يدين لها التاريخ والمجتمعات بالمعنى والجدوى.. فالقيم الحرة هي العدو التاريخي للأسواق الحرة.. في مناهج التربية لا زلنا مدينين للطريقة اللاعقلانية في تثبيت القيم الجماعية بواسطة الترويض..يقبل الحيوان الترويض لأنّه لا يتمتّع بالعقلانية..لكن بالنسبة للإنسان لا يكفي التخاطب مع اللاّوعي وحده..ذلك لأنّ القيم لا تتحوّل إلى رغبة محفزة وإلى لذة إلا بعد أن يحتويها الوعي ويبلغ أسرارها..وكما هو شائع فإنّ عموم البشر يتعاطون مع الأخلاق في حالة تشتت وانفصال، أي أنهم ينظرون إلى كل قيمة معزولة عن القيم الأخرى ولا يتعاطونها كمنظومة متكاملة..ثم يعملون على تمثل كل واحدة بعيدا عن الأخرى مما يجهل المهمة التربوية بالغة الصعوبة إن لم نقل مستحيلة التحقق.. فما لم نتعاطى القيم كمنظومة ونسق متكامل فلن نستطيع تمثّلها..وتتلخّص رؤيتنا للمسألة التربوية وبنية القيم في أنّنا ننظر إلى القيم نظرة هولوغرامية..أي في كل قيمة توجد القيم الأخرى..كل قيمة على حدة تشتمل على القيم الأخرى في حالة كمون..فلو أخذنا قيمة الصدق مثلا، فإننا سنجدها تنطوي على قيمة الوفاء والشجاعة والكرم والعدل والمروءة وما شابه..وكل قيمة تنفعل مع محتوى القيم الكامنة فيها، فلا توجد قيمة معزولة عن الأخرى..وحدة القيم وتكاملها..القيمة التربوية لهذا المنظور الهولغرامي تتجلىّ في أننا بإمكاننا احتواء القيم تربويا من خلال التركيز على قيمة واحدة وتفعيلها بالصورة التي تنطلق من خلالها سائر القيم الأخرى..الاشتغال على قيمة واحدة وجعلها قيمة القيم التربوية من شأنه أن يبعث سائر القيم الأخرى..نوع من الاقتصاد القيمي الذي يحول دون افتقاد الإنسان للتركيز التربوي..إنماء قيمة واحدة يكفي..وهكذا يكفي أن يركّز كل إنسان على قيمة واحدة فإنها مع المران ستستدعي سائر القيم بطريقة انسيابية..إن كل قيمة هي بنية متكاملة..وأنّ الاهتمام بقيمة من القيم لا يعني عزوفا عن الأخرى..هذه العملية تتطلّب وعيّا ببنية القيم وأسرارها..ذلك لأنّ كمال الأخلاق لا يتحقق إلاّ بإحراز تحققها في القيمة الواحدة..بما أنّ مقاصد كل قيمة هي واحدة: اكتساب كمالات الانسان..فالأنسنة تكمن في القيمة الواحدة..تستطيع أن تكتسب إنسانيته من خلال تطورك في تحقيق قيمة واحدة..لأنّ القيمة الواحدة في حالة التّمثّل تكشف عن أبعاد القيم الكامنة فيها..إنّما تتكاثر القيم باعتبار تجلّيها في عالم الخلق..وعليه، يكفي التزام قيمة واحدة وسبر أغوارها والتكامل في تحقيقها وتمثّلها لكي تحرز كل القيم الأخرى بالضرورة..

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


ادريس هاني
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2016/06/15



كتابة تعليق لموضوع : من أجل نظرية جديدة للقيم
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net