صفحة الكاتب : د . علي المؤمن

حزب الدعوة الإسلامية وجدليات الإجتماع الديني والسياسي (كتاب في حلقات) الحلقة الرابعة عشر
د . علي المؤمن

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
التحولات الفكرية السياسية في حزب الدعوة الإسلامية    
      لا بد أن نفرق في مجال الثوابت؛ بين الأحزاب الايديولوجية بمفهومها الـــــفكري والـعــــــقـــــيدي، والأحزاب السياسية بمفهومها الليبرالي الغربي الحديث، فلا يجوز إخضاع الأحزاب الايديولوجية لمعادلات التطور والتحول والعصرنة والمرونة ذاتها التي تخضع لها الأحزاب السياسية؛ لوجود تعارض أساس في فلسفة وجود كلا النوعين من الأحزاب.  فمثلا: الحزب السياسي هدفه الوصول الى السلطة كغاية نهائية، بينما الحزب الإسلامي بكونه حزباً ايديولوجياً دينياً دعوياَ؛ ليس حزب سلطة أو حكم؛ بل انه يريد الوصول الى الحكم لتحقيق غاياته الدعوية، أي أن الحزب الاسلامي يخوض العمل السياسي والميداني كأداة للوصول الى الحكم؛ ثم يستخدم الحكم كأداة ووسيلة لتحكيم الشريعة الإسلامية، وبالتالي؛ تكون السلطة أداة الحزب الاسلامي في تطبيق الشريعة في إطار غايات أخروية، بينما تعدّ السلطة هدفاً وغاية للحزب السياسي في إطار عملية صراع دنيوي صرف.
الحكم والسلطة
      صحيح أن الهدف النهائي لتأسيس حزب الدعوة الإسلامية هو تحكيم الشريعة الإسلامية عبر تأسيس الدولة الإسلامية، وبسقوط هذا الثابت تتلاشى فلسفة وجوده؛ ولكن؛ وجود هذا الثابت؛ لا يعني الدوغمائية في عملية تطبيق الشريعة؛ بل أن من الضروري خضوع عملية التطبيق للمرونة التي تفرضها الظروف الموضوعية، والتدرج الذي يستطيع الواقع من خلاله استيعاب عملية التطبيق؛ لاسيما إذا كانت تجربة السلطة والحكم مستحدثة ومستجدة، وبحاجة الى استحكام أكبر وتجذير أعمق؛ وإلّا فسيكون الفشل هو النتيجة الحتمية للتجربة؛ وهي في بدايتها؛ بعد قرون من التغييب القسري عن ممارسة عملية السلطة، أي أن أصل التزاحم ( كأصل شرعي ) بين سقوط التجربة برمتها ـ قبل استحكامها وثباتها ـ وبين ضغط تحقيق الأهداف؛ هو الذي يحدد خيارات العمل وأولويات التحرك؛ وهو ما يدخل في إطار “فقه الأولويات” و”فقه المصلحة”، هذا فيما لو كان حزب الدعوة مبسوط اليد ويتفرد في الحكم، أما إذا كان فكر الحزب يمثل جزءاً من عقيدة الدولة، وكان حضوره في النظام السياسي يمثل جزءاً من السلطة والحكم، وقد أمسك بهذا الجزء في إطار عملية سياسية معقدة نتج عنها شراكة مع جماعات علمانية واتجاهات سياسية متنوعة ترفض اي حضور للشريعة الإسلامية في الحياة؛ كما هو الحال مع تجربة حزب الدعوة في العراق بعد عام 2003؛ فإن الحديث عن تطبيق الأهداف والتمسك بالثوابت سيكون بحاجة الى عمق كبير بعيداً عن التدافع الإعلامي والمزايدات السياسية والتسطيح الفكري، وبالتالي فحزب الدعوة ليس هو الحزب الحاكم في النظام السياسي العراقي، ولا هو الحزب الذي تتبنى الدولة عقيدته، ولكن هذا لا يعني أن الحزب يتنازل عن المساحات التي يمكنه التحرك فيها لتحقيق أهدافه أو مقدمات أهدافه الإسلامية.
 
انفعالات وضغوط
     ولم يكن معظم التحولات داخل حزب الدعوة منذ عام 1979 فعلاً دعوتياً بقرار حزبي؛ بل هي انفعالات وانجرارات قسرية ضاغطة؛ أي أن الظروف المحيطة بالدعوة ظلت باستمرار هي المؤثر الأكبر في مسارات الحزب، وليس العكس،  ظلت التحولات في نظرية الدعوة وأفكارها تطرأ على الحزب بطرق غير مسبوقة؛ ربما في أي حزب ايديولوجي كبير في العالم، كما ظلت بنية حزب الدعوة الفكرية والسياسية الداخلية ومخرجات خطابه؛ تتبع ـ غالباً ـ التغيير الخارجي الضاغط، فقد بدأت “الدعوة”حزباً قائداً للأمة، تغييرياً، انقلابياً، عقائدياً، لا مذهبياً، عالمياً، وانتهت الى تنظيم شيعي المذهب، عراقي الاهتمام والموطن، سياسي السلوك والنزعة، يتنافس على الحكم مع عشرات الجماعات السياسية في دولة هجينة فكرياً ولا هوية لها.
شواهد نظرية
     ولفهم هذه التحولات بشكل دقيق؛ يمكن المقارنة بين أربعة شواهد نظرية: أسس حزب الدعوة لعام 1961، نظامه الداخلي لعام 1975، نظامه الداخلي لعام 1983، نظامه الداخلي لعام 2008، ومن مخرجات هذه التحولات مثالاً:
1- نظّر حزب الدعوة لفكره السياسي على أساس مبدأ الشورى، وكان هذا مخرجه النظري الوحيد لتأسيس الحزب على قاعدة فقهية، وكان انسجامه في هذا المجال مع الأجواء الحركية الإسلامية السائدة في عقدي الأربعينات والخمسينات لا يتجاوز التأثر الى التطابق في التأصيل الفكري والفقهي.
 2- نظّر حزب الدعوة لفكرة التغيير الانقلابي؛ تأثراً بالأجواء الحركية الإسلامية السائدة في عقدي الأربعينات والخمسينات، وكان هذا مخرجه الثوري النظري للتغلب على النزعة المحافظة أو الإصلاحية المقيدة السائدة في الاجتماع الديني النجفي.
 3- نظّر حزب الدعوة لفكرة العالمية، وأصبحت له قيادة عامة وقيادات إقليمية؛ تأثراً بالأجواء الحركية الإسلامية والقومية السائدة في عقدي الأربعينات والخمسينات.
أعلن حزب الدعوة إيمانه بمبدأ ولاية الفقيه؛ تأثرا بثورة الإمام الخميني، وقام بمبايعته قائداً للأمة، وبذلك ألغى نظرياً وعملياً مبدأ الشورى.
4- انتقل الى مرحلة الصراع السياسي والعسكري؛ انجراراً؛ بفعل تحرك السيد محمد باقر الصدر المتأثر بثورة الامام الخميني.
5- تم حل أقاليم حزب الدعوة في لبنان والكويت والبحرين وإيران وباكستان وأفغانستان، ومناطق الإمارات والشرقية بالسعودية وعمان وغيرها؛ بقرارات خارجية جبرية، وتحديداً من حكومات هذه البلدان.
6- أعاد حزب الدعوة بناء هيكله عراقياً، وألغي القيادة العامة والمؤتمر العام والقيادات الإقليمية؛ بعد أن انهارت أقاليمه غير العراقية.
7- بايع الإمام الخامنئي؛ مصداقاً لولاية الفقيه بعد وفاة الإمام الخميني؛ انسجاماً مع موجات البيعة العامة.
8- تحول الى حزب سياسي شيعي عراقي وطني، انسجاماً مع التغيير في خريطة المعارضة العراقية ثم سقوط النظام.
9- أعلن التزامه بمرجعية النجف العليا؛ انسجاماً مع تحولات الاجتماع السياسي العراقي.
10- وضع بعض أجنحته لنفسه رسمياً أسماء محلية؛ تمييزاً ( تنظيم العراق وتنظيم الداخل).
    وتظهر مجمل هذه التحولات أن الواقع أكبر كثيراً من تنظيرات حزب الدعوة لرسالته وغايته؛ الى المستوى الذي أضعف هذا الواقع الموجع روح المبادرة في”الدعوة”، كما أضعف عقله المركزي فيها بعد عام 1979. وغالباً ما كان حزب الدعوة يقوم بعملية تنظيرٍ جزئية بعد حصول التغيير في الواقع المحيط به والمؤثر فيه، والذي يضطر الى مسايرته وتكييف نفسه معه، وغالباً ما يكون هذا التكييف واقعياً وليس فكرياً وفقهياً؛ أي أنه لا يشبه انطلاق الفقيه من الواقع لتشخيص موضوع الحكم الشرعي، أو مدخلية الزمان والمكان في تغيير موضوع الحكم الشرعي، فيتبعه حكم شرعي جديد؛ بل هو مصداق لهجوم اللوابس على من لا يستشرفها.
تحولات الفكر السياسي
     استند حزب الدعوة في نظريته السياسية على الأسس التي كتبها السيد محمد باقر الصدر خلال مرحلة التأسيس، وكرس فيها السيد الصدر مبدأ “الشورى” في عمل قيادة الحزب وفي قيادة العمل الإسلامي الموصل الى تأسيس الدولة الإسلامية، بعد أن أجاز إقامتها  في عصر غيبة الإمام المهدي؛ وكل ما يترتب على هذه الجواز من جهاد دفاعي ودماء وأموال، ويقول السيد محمد مهدي الحكيم بأن “دراسة السيد الصدر حول هذا الموضوع هي التي سمحت لحزب الدعوة بالانبثاق؛ لأنها أول دراسة فقهية تشرع لتأسيس دولة إسلامية في عصر الغيبة”، ونظّر السيد محمد باقر الصدر للفكر السياسي لحزب الدعوة في نشرة الأسس الإسلامية الداخلية، وظلت الدراسة ونشرة الأسس المذكورتان سريتين؛ لأنهما من الفكر الخاص للحزب. 
وتجمع نشرة “أسس حزب الدعوة” التي نشر منها تسعة أسس في أدبياته المطبوعة؛ بين التأصيل للدولة الاسلامية بمعناها الفقهي وبعناصرها القانونية، وبين مفهوم الدولة بمعناها القانوني المعاصر، وبذلك يضع السيد محمد باقر الصدر أول المبادئ الدستورية الإسلامية المؤصلة فكرياً وفقهياً، وهي تختلف اختلافاً كبيراً عن نظرية الشيخ الميرزا النائيني في دراسته “تنبيه الأمة وتنزيه الملة” لأن النائيني أراد تصحيح واقع قائم وليس التأسيس لواقع جديد، ولذلك قال النائيني: بـ “الملكية الدستورية” وغيرها من مفردات الدولة المفصلة على مقاس إيران الشاهنشاهية، أما أسس حزب الدعوة التي كتبها السيد محمد باقر الصدر فهي تأسيس لنظرية حكم إسلامي ودولة إسلامية في عصر الغيبة، وهو تأصيل فقهي جديد لم تألفه حوزتا النجف وقم، وبذلك تعدُّ هذه النظرية تجديداً في الفقه السياسي الإسلامي الشيعي وفي موروث الاجتماع الديني الشيعي. 
بين الصدر والخميني
     وظلت رؤية حزب الدعوة للدولة متمسكة بالأسس المذكورة؛ على الرغم من أن السيد محمد باقر الصدر توصل في بحوثه الفقهية نهاية الستينات الى مبدأ “ولاية الفقيه”؛ كما صاغه الإمام الخميني في دروسه الفقهية في النجف، وأثبته في كتاب “البيع” و”الحكومة الإسلامية”، ويذكر بعض رجال تلك المرحلة ـ وهي معلومة لم نتثبت منها رغم محاولاتنا الكبيرة، وقال لي السيد حسن شبر: إنها غير صحيحةـ بأن السيد الصدر طلب من قيادة حزب الدعوة في عام 1970؛ سحب عدد من هذه الأسس من ثقافة الدعوة؛ ولاسيما ما يرتبط بمبدأ الشورى في الحكم الإسلامي؛ ولكن القيادي المتنفذ في “الدعوة” محمد هادي السبيتي لم يقتنع بهذا التوجه الفكري الجديد، وأبقى الأسس كما هي في أدبيات الدعوة. 
      ثم دوّن السيد الصدر نظريته في الدولة الإسلامية ونظامها السياسي ودستورها في دراساته التأسيسية المهمة التي قدمها خصيصاً الى الإمام الخميني في عام 1979؛ عشية التصويت الشعبي على نظام الحكم الجديد في ايران وبدء مناقشات دستوره الإسلامي، وقد طبعت هذه الدراسات فيما بعد في كتاب “الإسلام يقود الحياة”، وقد استند دستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية ونظامها السياسي في كثير من أسسه على هذه الدراسات، وحينها نشأ حراك مهم داخل حزب الدعوة؛ منسجماً مع الواقع الفقهي والفكري والسياسي الجديد الذي خلقه الإمام الخميني بعد عام 1979، ومع التأسيس الفكري الجديد للسيد محمد باقر الصدر في الوقت نفسه، ومع بدء مرحلة المواجهة السياسية والجهادية مع نظام صدام حسين، وانتهى هذا الحراك مطلع عام 1981؛ الى تبني حزب الدعوة لمبدأ ولاية الفقيه رسمياً؛ على وفق ما كتبه السيد الصدر والسيد كاظم الحائري.  
      ولم يلغ حزب الدعوة مبدأ “ولاية الفقيه” من نظريته؛ على الرغم من توجهاته الواقعية في أواسط التسعينات؛ والتي اتجه فيها نحو مشروع السيد محمد حسين فضل الله في المرجعية وفي رؤيته الفقهية السياسية، إضافة الى تبنيه الممارسة المدنية الديمقراطية عملياً في العراق بعد عام 2003.  
 
(يتبع)...

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


د . علي المؤمن
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2016/06/05



كتابة تعليق لموضوع : حزب الدعوة الإسلامية وجدليات الإجتماع الديني والسياسي (كتاب في حلقات) الحلقة الرابعة عشر
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net