صفحة الكاتب : ادريس هاني

ربيع أعرابي انتهازي
ادريس هاني

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

لم تكن مهام الربيع العربي مانعة من الإلتفات إلى القضية الفلسطينية من حيث ترتيب الأولويات..ففلسطين لم تعد قضية قابلة للترتيب والقسمة بل هي الجوهر الحاضر في كل حراك عربي مفترض..هي مرجعية توفّر الرؤية والوعي والضامن لصحّة مسارات الثورة..لعلّ واضع خدعة الربيع العربي كان يفترض طريقة ما لفصل تعسفي بين المقاومة والثورة..وهكذا وبفعل التدليج المكثّف تمكّنوا من هذا الفصل برسم الأولويات..كان نبض الشارع العربي متفاوتا في الوعي..وأحيانا حينما تفشل الأيديولوجيا الثوروية الجديدة من الهيمنة ويتحرر الوجدان العربي يحدث المحظور..والمحظور هو ما حصل في مصر عشية الثورة..فبعد فترة من التدجين الأيديولوجي برسم الأولويات فاجأ الشباب العالم بعملية اقتحام غير مسبوقة لسفارة كيان الإحتلال بالقاهرة..كان يوما يجب التأريخ له باعتباره فشلا ذريعا لمخطط الربيع العربي..فشلت خدعة الأولويات..فالشعوب العربية لما تتصرّف بالوجدان بعيدا عن الأيديولوجيا تصيب الهدف.. كانت أيديولوجيا الربيع العربي ليست أيديولوجيا ثورة بل كانت أيديولوجيا تزييف وتخدير..حالة العداء التي مررتها أيديولوجيا الربيع العربي لا سيما من مراكز الرجعية المشرفة على مسخ المفاهيم الفلسفية الكبرى للثورة والتاريخ والسياسة، استطاعت أن تنجح قليلا..ولكن لا شيء مضمون مادام لا ثقة في الرأي العام..غير أنّ العنصر الطائقي كان هو الوسيلة الوحيدة والسهلة لتحقيق هذا الشرخ باعتبار أنّنا بتنا أمام وضعية غاية في المفارقة: الثورة (برسم الربيع العربي) سنّية والمقاومة شيعية.. ومع أنّ هناك حراكات جرت في المجال الشيعي تحمل ملامح الربيع العربي لم يتم الاعتراف بها على الرغم من أنها حملت الحدّ الأدنى من شعاراته واعتبرت في نظر أهل الربيع العربي مجرد مآمرة وناصروا ضدّها الجهة نفسها التي حاربوها حينما أفشلت ربيعهم في مصر، واستفحلت التناقضات حيث ما أن تصارع السّرّاق حتى ظهر المسروق..ومع أنّ المقاومة تشمل على شرائح من داخل أهل السّنة فقد عملوا على تجريمها وتبشيعها..وهكذا وضعوا معايير طائفية لكل من الثورة والمقاومة..وكان هذا هو العنصر الناجح في التشويش على الحراك الطبيعي للمجتمعات العربية..كان الربيع العربي وفق هذا المخطط أشبه ما يكون بانقلابات تأخذ ملامح الثورة الجماهيرية..وكان من المتوقّع أن يتجمّب أهل الحراك كل ما من شأنه أن ينفّر أصدقاءهم الجدد.. فكلّهم يعرف ما هو دور برنار هنري ليفي وحقده على المقاومة ودفاعه المستميت عن الاحتلال..ومع ذلك ظهرت انتهازية قلّ لها مثيل في تاريخ الثورات مفادها أنّ ثمة التقاء في المصالح..تسرب هذا المفهوم من داخل مراكز التزييف الثقافي التي أنشأتها الرجعية لاستكمال وظيفة الإخضاع والتخدير، وبات كل شيء مبرّر..لا يهم مع من نعمل بل المهم التقاء المصالح..هي الحكاية نفسها التي أدت يوما إلى صداقة بعض المجاهدين الأفغان مع رولاند ريغان..وفي الوقت نفسه سيلوون عنق الحقيقة كلّها ليسربّوا مقاربة سخيفة مفادها أنّ ثمة علاقات خفية بين المقاومة وبعض دول الممانعة مع إسرائيل.. ومحاولة التهوين من مواقف الممانعة العربية واعتبارها مجرد ثرثرة والبدء في ضخّ ثقافة واقعانية هجينة وخادعة..الواقعية المزيّفة التي تستعمل عادة في الحجاج المغالط: مفارقة الواقعية المفرطة التي يراد منها كبح الاستدلال بناء على القيم..تكمن المفارقة هنا في أنّ الثورات لا سيما في منطلقاتها تنخفض فيها الواقعية ويقودها المثال..لذا يكون قدرها هو الأخطاء وربما الأخطاء القاتلة..ولا تكون مهادنة ولا انتهازية في عنفوانها..ولكنها كانت كذلك في الربيع العربي مما يؤكّد أنها كانت ثورة منزّلة على المجال العربي وتقوم على استراتيجيا الاستنفاض وفق دفتر تحمّلات أيديولوجية وسياسية وفي إطار الأبعاد الجيوسياسية الكبرى..كانت المشكلة في تدبير هذا الحراك بالغة التعقيد. لقد كان الخطر الذي يتهدد نجاح هذا المخطط هو عودة الشعوب العربية إلى وجدانها وهو جدير بتحريرها من تخدير الأيديولوجيا الجديدة للثورة..لذا كانوا يعملون تحت ضغط الزمان. كانوا يسعون إلى الإطاحة بالكثير من الدّول العربية في وقت قياسي قبل أن ينتهي مفعول التخدير..فوعي الجماهير المتأخر لا يهم إذا بعد تنصيب بدائل سياسية وتكريس بنيات موصولة بمشروع الشرق الأوسط الجديد. وفي أحيان كثيرة كشفت الحقيقة الانقلابية عن نفسها من خلال عسكرة هذه الحراكات حين تمّ إفشالها باستجابات سياسية موضوعية خففت من الاحتقان مما جعل السير المنطقي للربيع العربي الخادع يلتقي مع حتميته القصوى ألا وهو العنف المسلّح والإرهاب..عمل الإعلام العربي الذي تحوّل إلى تابع لغرفة العمليات نفسها إلى محاولة تبرير فضيحة عسكرة الثورات وبروز ما كان مخفيّا في الميدان من ألوف الإرهابيين المجهزين والموصولين بالقوى الدولية والإقليمية المنخرطة في لعبة الأمم في المنطقة، على اعتبار أنّ كل ما حصل هو بسبب صمود دمشق. لقد اعتبروا صمود دمشق في وجه المخطط الإمبريالي وأدواته هو صمود في وجه الحراك الشعبي المسالم بقوة النار. مع أنّ كثافة القتل والإجرام التي يقوم بها الإرهابيون المدعومون من هذه القوى تفوق الخيال..وقد رأينا أنّ القتل على الهوية في كل من سوريا والعراق بات وصمة عار في جبين الضمير العالمي..ولم تتحرك المواقف المناهضة للإرهاب إلاّ بعد أن خرج غول الإرهاب من قمقمه ليتهدد العواصم الغربية..إحدى أهم العبارات التي أجاب بها الأسد على بعض وسائل الإعلام الغربية، هو أن الغرب يحارب الإرهاب الآن بدافع الخوف وليس بدافع القيم..وهذه حقيقة لا غبار عليها. لعب الإعلام نوعا آخر من العنف تجاه الحقيقة..فلقد استخف بكل الحقائق واستهتر بكل الأعراف ليصبح لسان حال الإرهابيين منذ سنوات قبل أن تتغير الخطط ويلزموا بنوع آخر من الخطاب. فحتى قبل عام 2014 لم يكن ثمة حديث عن الإرهاب في سوريا أو العراق..فأمّا في سوريا فلقد جندت الماكنة الإعلامية الرجعية كلّ إمكاناتها لتتحدث عن حراك سلمي في سوريا بينما اعتبروا غزوة داعش للموصل بمثابة ثورة اجتماعية..إنّها بلبلة أخرى تصدر من مراكز التشويش على وعي المجتمعات العربية والغرض منها تمييع كل القيم والمواقف وخلق حالة من الإلتباس والفوضى وسلب الثقة بين المقاومة والجماهير العربية..كان الإعلام الرجعي وجملة المراكز التي تنتج الزّيف الأيديولوجي بمثابة كوبلز ما يمكن اعتباره حرب الربيع العربي على العالم العربي..فأمّا الشعوب فهي تهتز لكل داعي إذا ما كانت تعاني من اختلالات اجتماعية.. ولكن الشعوب لا تتنتظم بين عشية وضحاها في ثورات مدروسة وجيوش مدربة وفي ظرف شهور تصبح لها كيانات ووزارات دفاع وأسلحة تفوق الدول وميزانيات كذلك، الشيء الذي لم نجد له مثالا في أي ثورة في العالم..الشعوب تتصرف باختزالية..وفي غياب قيادات حقيقية ما كان لها أن تقف على كل اللعبة..ولذلك سعى المخطط إلى إعداد بدائل عن قيادات زائفة غير تاريخية قبل عملية الاستنفاض..وفّروا كل الطاقم الفنّي والطّبي والأيديولوجي والحربي لهذا الربيع..وعند النزول إلى تفاصيل هذه البدائل من سياسيين ومثقفين وفنانين وغيرهم سنقف على ما هو صادم للوجدان..كان الأمر سهلا..تحريك البيترودولار وتوفير ميزانيات بلا سقوف في عملية التزييف الكبرى للعقل العربي..لقد كان هذا الأخير قبل سنوات عقلا حائرا وربما مأزوما، ولكنه لم يكن عقلاملتبسا إلى هذا الحدّ الذي بدا عليه بعد عملية غسيل الدّماغ الكبرى. لم تكن المجتمعات على كل علاّت الرأي العام الذي يقول غاستون باشلار لا يمكن أن نبني عليه شيئا، هي المخطئة..ففي كل جيل من الأجيال ستكون الجماهير منفعلة وخاضعة لمن يتقن لعبة الإخضاع أكثر..ليس من المعقول تحميل الجماهير كلّ هذه التراجيديا بالمفهوم العلمي طالما أنّ العقل الجمعي لا يمكنه أن يحبط قواعد اللعبة التي تدار ضدّه في غياب قيادات تمّ استبعادها واغتيالها رمزيا ووضعوا بدائل عنها كرست هذا الزيف..إنّ للقيادة دور استغنت عنه حراكات الربيع العربي تحت ضغط هوس الانتشاء بانتصارات ملتبسة وسطحية لم يحصدوا منها سوى خيبات الأمل..لم تسقط ثورات الربيع العربي ولا حصل انقلاب عليها بل كانت تلك فصول من مساراتها المعقدة، فهي ولدت مخيبة للآمال منذ الوهلة الأولى التي صدّق فيها الرأي العام أنّه بإمكان قيام ثورة لحادثة فردية، وبأنّ الرجعية هي الأب الروحي للثورة وبأنّ فلسطين التي هي البوصلة لم تعد كذلك بل ليست أولوية. لقد فعلوا بالجماهير العربية مثل تجار الأزمات، استغلوا احتقانها ومطالبها الاجتماعية والتاريخية في جعلها تقود عملية التدمير الذاتي..مجتمعاتنا المسكينة التّواقة إلى ضرورياتها والحد الأدنى من الخدمات يتم استعمالها لتخريب كياناتها وتحويلها إلى قطيع منتفض حالم يستبعد من وعيه حسابات الجيوستراتيجيا ويفكّر فقط في رقصة المطر الهندية في ربيع كاذب وضع دستوره أقوام لا دستور لهم.


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


ادريس هاني
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2015/12/26



كتابة تعليق لموضوع : ربيع أعرابي انتهازي
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net