صفحة الكاتب : د . علي عبد الزهره الفحام

الفكر التكفيري ... النشأة والمميزات
د . علي عبد الزهره الفحام

 يعد المنهج التكفيري واحداً من أبرز التحديات التي تعاني منها الأمة الإسلامية ودول العالم بشكل عام، وهو يهدد المناطق التي ينتشر فيها بانعدام الامن والاستقرار، وتخريب الاقتصاد، وتفكيك النسيج المجتمعي، إلا أن أكثر المجتمعات تضرراً من وجوده هي المجتمعات "الشيعية"، إذ يشكل امتداد الفكر التكفيري المعزز بمنهجية "العنف" خطراً "وجودياً" على المدن والحواضر الشيعية، فالقضية معهم تتجاوز عناوين القتل وزعزعة الاستقرار، إلى هدف اقتلاع الوجود، وتأسيس واقع ديمغرافي جديد لا يكون للوجود الشيعي فيها أية معالم بشرية او فكرية .
أسئلة كثيرة تحوم حول مدرسة التكفير المعاصرة : نشأتها ، خلفيتها ، تطورها ، الدوائر والمؤسسات التي تقف وراءها ، أهدافها ، اتجاهاتها ، مميزاتها ، مشروعها ... وغيرها من المواضيع التي نحاول أن نقف عليها عندما نسير معاً في هذا البحث التاريخي السياسي العقائدي .

نشأة المدرسة التكفيرية
نشأت النواة الأولى للفكر التكفيري في زمن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) (ت 40 ﻫ) عندما برزت مجموعة من ذوي العقول المتحجرة والبصائر العمياء ليأسسوا تياراً عرف تاريخياً باسم (الخوارج)، وكان من أهم مميزاته تكفير أهل الكبائر واستحلال دمائهم وأعراضهم ، واتفقت هذه الجماعة على تكفير أمير المؤمنين وكل الأمة الإسلامية في عهده ما خلا من دخل تحت طاعتهم، وكان حنقهم على شيعة أمير المؤمنين (عليه السلام) كبيراً، بينما لم تكن لهم مشكلة كبيرة مع بقية الصحابة والتابعين، ولاسيما أتباع الشيخين ومناصريهما .
وبفضل أمير المؤمنين (عليه السلام) تم تطويق هذه الظاهرة، ولم يستطع فكر الخوارج من تحقيق اختراق كبير في الأمة، وظل أتباعه مشردين ليس عندهم حواضن مجتمعية توفر لهم زخم الاستمرار والتمدد، فصار ينمو تارة ويخبو تارة أخرى، وإن ظلت ظاهرة التكفير موجودة على المستوى التنظيري الفكري لدى أفراد أو جماعات على الساحة الإسلامية .
وكانت أغلب حركات الخوارج ذات الطابع المسلح والتي تهدد سلامة واستقرار العامة في المجتمع وتخرج على الولاة والحكام إنما تنطلق من منطلقات سياسية محضة، وما كان للطابع الفكري أي محورية تُذكر في حركة تلك الجماعات إلا نادراً .
لم يكرس المنهج التكفيري على مستوى النظرية الإسلامية إلا في نهايات القرن السابع الهجري حيث ظهر الشيخ تقي الدين أبو العباس الملقب بابن تيمية (ت728ﻫ)، الذي تميز فكره بالشذوذ والتطرف، إذ ترجع أصوله إلى فكر أموي منغلق، ينحدر ابن تيمية من بيت حمل لواء المذهب الحنبلي بكل ترسباته الفكرية والعقدية، وجمع في شخصيته مدرستي النواصب (البصرية و الشامية)، واجتر في مصنفاته ما خلقه أسلافه النواصب كابن حزم الأندلسي (ت456 ه) والقاضي أبي بكر ابن العربي (ت  543 ه)  وأقرانهما .
أسس ابن تيمية للفكر التكفيري خصوصاً ذلك الموجه ضد شيعة أهل البيت (عليهم السلام)، وكان من الأوائل الذين ربطوا بين الشيعة واليهود، قائلاً عن الشيعة «أنهم شر من عامة أهل الأهواء ، وأحق بالقتال من الخوارج »!! (مجموعة الفتاوى 28\482)، وتنقل أدبيات السلفيين المعاصرين مقولة مشهورة له تقول : «إذا صار لليهود دولة بالعراق وغيره ، تكون الرافضة من أعظم أعوانهم ، فهم دائماً يوالون الكفار من المشركين واليهود والنصارى ، ويعاونونهم على قتال المسلمين ومعاداتهم» [منهاج السنة النبوية : ج3/ ص378]، وكان الرجل عنيداً وصلباً في الدفاع عن مبادئه الفاسدة ليؤسس لفكر عقائدي جديد يؤمن بالتجسيم، ويطعن بأهل البيت ويحرض المسلمين على شيعتهم، وفي المقابل يلمع صورة بني أمية ويبرر مجازرهم وجرائمهم .
لقد كانت الأفكار التي ابتدعها ابن تيمية هي المحرك الأساسي للنظريات التكفيرية التي تبناها فيما بعد محمد عبد الوهاب (ت1206ﻫ) مؤسس الفكر التكفيري الحديث، إلا إن عبد الوهاب أضاف لها بعداً جديداً وأخرجها من إطار النظرية الكلامية إلى فعل واقع على الأرض خصوصاً بعد تحالفه مع آل سعود ليوفروا لحركته الغطاء السياسي والمالي بعد أن وفر لهم الغطاء الشرعي حيث كان يدعو «لطاعة الحاكم و اتباعه و عدم الخروج عليه مما وفر الأرضية المناسبة لبروزه و استقطاب الناس حوله» ثم استقر النظام الديني للوهابية على أن يتولى الملك من آل سعود إمامة الوهابية وبذلك لقيت هذه الحركة السلفية الأصولية احتراماً من قبل الحكام السعوديين المتعاقبين على السلطة مما وفر لها فرص الديمومة و الاستقرار (انظر : الوهابية ، شبكة (راصد) الالكترونية) .
والمسألة الثانية التي استفاد منها عبد الوهاب هي ترسيخ مفهوم (الجهاد المقدس) في عقول أتباعه وبهذا وقع على النقطة الحساسة في المجتمع البدوي القائم على الغزو والغنيمة فصارت القبائل تتهافت على الانضمام لهذه الدعوة الجديدة !!
أصبحت دولة آل سعود "الوهابية" في نجد والحجاز هي الراعي الأول لمدرسة التكفير العالمية فقد رصدت الإمكانيات الاقتصادية الهائلة لهذه الدولة النفطية لتغطية النفقات الدعوية للحركة السلفية الوهابية والتي هي أصل المدرسة التكفيرية المعاصرة والداعم الرئيس لحركات العنف و التطرف التي ظهرت في مناطق مختلفة من العالمين العربي والإسلامي وتحت مسميات واطر تنظيمية متباينة ، ومن هذه الحركات بعض الأجنحة في حركة الإخوان المسلمين ، الجماعة الإسلامية بمصر ، الجماعة الإسلامية في الجزائر ، وحركة طالبان في أفغانستان ولاحقاً في باكستان ، تنظيم القاعدة ، تنظيم الدولة الإسلامية الذي يعرف بـ "داعش" ، ومثل الأخير الطفرة النوعية في الخط البياني لجماعات التكفير والعنف فقد أضحت ما تسمى زوراً (دولة الخلافة) ثقافة منتشرة في جميع دول العالم تقريباً وشكلت شبكة عنكبوتية من الخلايا النائمة التي و إن لم ترتبط بشكل عضوي تنظيمي حقيقي إلا أنها ارتبطت أيديولوجياً و أنتجت تنظيمات محلية متفرقة تتبنى النظرة ذاتها و الأسلوب نفسه في التعامل مع الحكومات و المجتمعات فكانت تنظيمات : القاعدة في بلاد الرافدين التي أسسها أبو مصعب الزرقاوي (هلك سنة 1427ﻫ) ، القاعدة في جزيرة العرب وهو تنظيم ناشط في المملكة السعودية ، القاعدة في بلاد الشام ظهر مؤخرا على المستوى الإعلامي دون المستوى العملياتي، القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي وهو تنظيم بدأ ينشط بكثافة في البلدان العربية في شمال أفريقيا خصوصاً في الجزائر والمغرب ، تنظيم المحاكم الإسلامية في الصومال والذي يقال أنه مرتبط بشكل أو بآخر بالقاعدة ، تنظيم فتح الإسلام ظهر مؤخراً في لبنان ، تنظيم جند الشام ناشط في سوريا ولبنان والأردن ، تنظيم جيش الإسلام ناشط في فلسطين وخاصة في قطاع غزة ، تنظيم أنصار الإسلام ناشط في شمال العراق بُعيد سقوط النظام السابق، تنظيم (جبهة النصرة) وهو أول شكل من أشكال القاعدة الذي ظهر في سوريا بعد توتر الأحداث هناك، ثم تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) الذي أصبح اسمه فيما بعد (تنظيم الدولة)، وتنظيم (جيش الفتح)، و(حركة التوحيد)، و(كتائب الفاروق)، وكلها ناشطة في سوريا وبلاد الشام، فضلاً عن تنظيمات أخرى في أوروبا ومناطق في شرق وجنوب شرق آسيا .

مميزات الحركات التكفيرية
أولاً : التخبط في فهم الدليل الشرعي
وهو ناتج عن الجهل وقلة المعرفة والتقوقع النفسي وعدم الانفتاح والانحراف عن أهل البيت (عليهم السلام)، مما أدى إلى خلل كبير في منهجهم الاستدلالي المتعلق بالأحكام الشرعية والفهم العقائدي فالخوارج طبقوا الآيات التي تخص الكافرين على أقرانهم المسلمين، وأخذوا المتشابهات من القرآن وتركوا المحكم منه، وفي هذا المجال يعترف الشيخ حسن فرحان المالكي في كتابه (داعية وليس نبياً) أن شيخه عبد الوهاب «ليس بذلك المحقق المدقق مع ضعف ظاهر بالحديث والتاريخ فلذلك أخذ يقمش كل التشددات في الحكم على الأمور بشرك أو بدعة فيستشهد بمطلقات النصوص الصحيحة وصريحات النصوص الضعيفة وأكثر من بناء الأحكام التكفيرية الصريحة على حديث ضعيف أو أثر موضوع أو قياس فاسد ...» !!

ثانياً : العنف والقسوة
وهي صفة لازمتهم منذ نشأتهم و صنعتها الطبيعة السيكولوجية التي حكمت عقولهم و الفكر القبلي الذي كان و لا زال مسيطراً على أعلب المجتمعات التي انطلقت منها الحركة السلفية و أمثلتها التاريخية واضحة فالخوارج أسلاف السلفية المعاصرة ارتكبوا جرائم فضيعة بحق أتباع أمير المؤمنين (فقد قتلوا الأطفال حتى البهائم و بقروا بطون النساء الحوامل و دمروا القرى و نهبوا البيوت) وفي التاريخ الحديث قامت حركة طالبان بالتعاون مع أسامة بن لادن بقتل الآلاف من الشيعة الأفغان في مدينة (مزار شريف) ، أما القاعدة فجرائمها وعملياتها الإجرامية معروفة للجميع في العراق وسوريا والدول الأخرى، وهذا الأسلوب المعتمد على العنف والتطرف هو أيضاً نتاج الخلفية الفكرية والنفسية التي تنطبق منها هذه الجماعات، وقد صدر أخيراً عن بعض منظري تنظيم داعش كتاب بعنوان (ادارة التوحش) للكاتب السلفي (أبو بكر ناجي)، وهو يحكي منهجية حركة (داعش) في استعمال أساليب بشعة في القتل كالذبح والحرق والقتل الجماعي من أجل إرعاب الناس وإضعاف معنويات الخصوم وتحقيق المكاسب الميدانية في المعارك .

ثالثاً : الانغلاق و التعصب
وتتمثل في عدم استعدادهم لمراجعة أفكارهم والإصلاح في مؤسساتهم ورؤاهم العقدية والسياسية، وهي الميزة التي تدفعهم إلى تصفية الخصوم، واستعمال العنف وسيلة لفرض الرأي .

رابعاً : معاداة أهل البيت و شيعتهم وموالاة أعدائهم 
وهي سمة بارزة لكل الحركات التكفيرية في التاريخ الإسلامي و الذي يزور موقع (التوحيد و الجهاد) لمحمد المقدسي و هو أستاذ أبي مصعب الزرقاوي يجد ركناً خاصاً يتحدث عن (فضائل أمير المؤمنين معاوية) !! و في السياق نفسه يذكر الشيخ حسن فرحان المالكي في كتابه (داعية و ليس نبياً) : أن الخط السلفي المعاصر المتشدد ورث (النصب لآل البيت) من السلفيين النواصب المتقدمين – كما يقول هو- كابن تيمية والفراء الحنبلي ومحب الدين الخطيب ولذلك نجدهم –أي السلفيين- مستعدون لأن «يلمزوا في علي بن أبي طالب وأهل بيته باسم السنة! ويثنون على معاوية ويزيد وشيعتهم باسم السنة أيضاً ! كم هو حال الكثير من الرسائل الجامعية في السعودية»!! ولا غرو في ذلك، فإن ابن تيمية نشأ في مدينة (حران)، التي يقال أنها المدينة الوحيدة التي أصرت على الإبقاء على سب أمير المؤمنين (عليه السلام) بعد ان أصدر الحاكم الأموي (عمر بن عبد العزيز) قراراً بمنع سبه على المنابر، وكان شعارهم «لا صلاة إلا بلعن أبي تراب» (السلفية بين أهل السنة والإمامية ص212)!!

خامساً : سرعة التقلب و تغيير الآراء
ونقصد به وجود حالة من التشرذم واللاتوافق بين المدارس التكفيرية السلفية بسبب التخبط في منهج الاستدلال الذي ذكرناه و كذلك الحالة الانتقائية المتفشية بين أوساط هذه المدرسة و لعل انقلاب السلفيين من طاعة الحاكم إلى تكفير الحكومات أوضح مصادق ذلك الانقلاب ، فمحمد عبد الوهاب الذي دعا إلى طاعة الحاكم طاعة عمياء و لو كان فاسقاً خارجاً عن تعاليم الإسلام انقلبت عليه السلفية المعاصرة التي أنتجت "السلفية الجهادية" التي باتت تحلم بما يسمى (دولة الخلافة) !!. 
ولا شك أن الفكر السلفي التكفيري بكل امتداداته وطبعاته لن ينتهي في المدى المنظور، وسيكون له حضور ارهاصات ما قبل الظهور المقدس للإمام المهدي (عليه السلام)، وستكون نهايته على يد الإمام وأصحابه النجباء ليُسدل الستار على هذه الظاهرة التي ما كانت لتظهر لولا إقصاء أهل البيت (عليهم السلام) عن قيادة الإمة وهدايتها .


 


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


د . علي عبد الزهره الفحام
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2015/12/03



كتابة تعليق لموضوع : الفكر التكفيري ... النشأة والمميزات
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net