صفحة الكاتب : ادريس هاني

الحسين في ديوان العرب (7)
ادريس هاني
بين شعر وشعر مسافة قد تعدّ بمقاييس الفلك..فثمة شعراء خلطوا بين ماجن وجاد..آخرون تحدّثوا عن الحماسة وهم في الوغى كالرعديد..وفي كلّ ذلك قدر من الخير يناسب المقام أو يناسب المقال..لكن أروعه ما كان صادرا عن شاعر جمع من كل فضيلة واستشعر الشجاعة والفروسية في نفسه قبل شعره..فكانت القصيدة تعبيرا عن مهجة شاعر حقّ..قال وفعل.. هناك من قال شعرا في الحسين حتى كادت تفيض منه نفسه ولو كان من التوابين كعبيد الله بن الحر الجعفي أو قال شعرا في الحسين وأصابه من ذلك مقتل كالكميث..يحصل أنّ الإنسان يعيش مع الحسين تحوّلا في حياته يجلب عليه من كل صنوف المحن..ويتحدّى..ويبقى فيه رمق ولا ينثني..إنّه إحساس ولحظة عرفان لا تضاهى..كان الكميث شاعرا كبيرا من شعراء العرب..ولد في الفترة التي سيواجه فيها الحسين كل هذه المأساة..هو شاعر من بني أسد..ضليع في العلم وقدير في التقى شجاع في الشعر..يتميّز شعره بالجدّية والحجاج الكلامي والمحتوى الفكري ولعلّه أوّل من أحدث هذا اللون من الشعر..عاش العصر الأموي ولم يبلغ العباسي كما جاء في ترجمته وقتل شهيدا بعد أن ناصر الثورة الزيدية..يقول عنه أبو الفرج:
شاعر، مقدَّم، عالم بلغات العرب، خبير بأيامها، من شعراء مضر وألسنتها المتعصبين، ومن العلماء بالمثالب والأيام المفاخرين بها، كان في أيام بني أمية، ولم يدرك العباسية، وكان معروفاً بالتشيع لبني هاشم، مشهوراً بذلك.
هو أشعر شعراء عصره..بل هو عند البعض أشعر الشعراء..بل أشعر الأولين والآخرين..فأمّا الفرزدق فقد قال له: أنت والله أشعر من مضى وأشعر من بقي.
وهو الوصف نفسه الذي سيتكرر مع معاذ الهرَّاء حين سألوه: من أشعر الناس ؟ قال: أمن الجاهليين أم من الإسلاميين ؟ قالوا: بل من الجاهليين، قال: امرؤ القيس، وزهير، وعبيد بن الأبرص. قالوا: فمن الإسلاميين؟ قال: الفرزدق، وجرير، والأخطل، والراعي. قال: فقيل له: يا أبا محمد ما رأيناك ذكرت الكميت فيمن ذكرت ؟ قال: ذاك أشعر الأولين والآخرين.
كان الكميت على ولاء شديد لآل البيت..تدلّ قصائده الهاشميات على ذلك..مديحا وحجاجا ورثاء..يلخّص ولاءه في بيت شهير:
فما لي إلا آل أحمد شيعة +++ وما لي إلا مشعبُ الحقِ مشعبُ
عاش مرتعبا خائفا مترقبا بولائه وحبه..وهذا ديدن من أحب الآل حبّا جمّا..وأخلص الحبّ حتى غدا خائفا يترقّب:
ألم ترني من حبِ آل محمدٍ +++ أروحُ وأغدو خائفاً أترقبُ
تقف عند مديح الكميث لآل البيت فتجد الصدق والنبل والوفاء..وتجد المشاعر تهفوا في رضى وولاء..فتقرأ في هاشمياته قولا يفيض جودة واعتبار، دستور في الولاء ومعيار المحبة:
إلى النفرِ البيضِ الذين بحبهم +++ الى الله فيما نالني أتقرّبُ
بني هاشمٍ رهطُ النبي فأننــــي +++ بهم ولهم أرضى مراراً وأغضبُ
خفضت لهم مني جناحَي مودةٍ +++ الى كنفِ عطفاه أهلٌ ومرحبُ
وكنتُ لهم من هؤلاءِ وهــؤلا +++ محباً على أني أُذمُ وأُغضبُ
وأُرمى وأَرمي بالعداوةِ أهلَها +++ وإني لأوذى فيهم وأؤنبُ
يعيرني جهّالُ قومي بحبهم +++ وبغضهم أدنى لعارٍ وأَعطبُ
بأيِّ كـــــتابٍ أَمْ بأَيةٍ ســـنةٍ +++ ترى حبهم عاراً عليَّ وتحسبُ
ستقرعُ منها سنَّ خزيانَ نادمٍ +++ أذا اليوم ضمَّ الناكثينَ العصبصبَ
فمالي الا آل أحمدَ شيعةً +++ ومالي الا مشعبُ الحقِ مشعبُ
يعجب الجاحظ بشعر الكميت وبهاشمياته حتى قال في ( البيان والتبيين ) : قيل للفرزدق : أحسن الكميت في مدح هؤلاء الهاشميين قال : وجد آجراً وجصّافبنى ، فقد كان الهاشميون كذلك ، كانوا أقرب الناس الى لطف الشمائل وجميل الخصال :
إن نزلوا فالغيوث باكرةُ +++ والاسد ـ اسد العرين ـ إن ركبوا
لاهم مفاريح عند توبتهم +++ ولا مجازيع إن هم نُكبوا
هينون لينون في بيوتهم +++ سنخُ التقى والفضائل النجب
والطيبون المبرأون من الآفةِ +++ والمنجبون والنجب
والسالمون المطهرون من العيب +++ ورأس الرؤس لا الذنب
...................................................................
فدع ذكر من لست من شأنه +++ولا هو من شأنك المنصبُ
وهات الثناء لأهل الثّناء +++ بالأصواب قولك فالأصوب
بني هاشمٍ فهم الأكرمون +++ بنو الباذخ الأفضل الأطيب
وإياهم فاتخذ أولياءَ +++ من دون ذي النّسب الأقرب
وفي حبهم فاتهم عاذلا +++ نهاكَ ، وفي حَبلهم فاحطب
أرى لهم الفضل في السَّابقات +++ ولم أتمن ، ولم أحسب
مساميح بيضُ ، كرام الجدود +++ راجيع في الرَّهج الأصهب
مواهيب للمنفس المستراد +++ أمثاله ، حين لا موهب 
اكارمُ غرّ حسان الوجوه +++ مطاعيم للطّارق الأجنب
ومن أجمل ما قال الكميت:
أُناس إذا وردت بحرهم +++ صوادي الغرائب لم تغرب
وليس التفحش من شأنهم +++ولا طيرة الغضب المغضب
ولا الطعن في أعين المقبلين +++ ولا في قفا المدبر المذنب
نجوم الامور إذا إدلمست +++ بظلماء ديجورها الغيهب
واهل القديم ، واهل الحديث +++ إذا عُقدت حبوة المحتبى
كما عبّر عن ولائه بالنصرة والمودّة..فحينما قتل زيد هجا الكميث قاتله يوسف الثقفي:
يعزُّ على أحمـدٍ للذي أصاب ابنَه الأمس من يوسفِ
خبيثٍ من المعشر الأخبثين وإن قلتُ زانين لم أَقذفِ
ستقتله جماعة من اليمانية في مجلس يوسف، سيموت صبرا.. ولكنه سينطق بولائه بعناد الشهداء..يصف إبنه
المستهل حال أبيه عند وفاته: حضرت أبي عند الموت وهو يجود بنفسه فكان يفتح عينيه قائلاً: " اللهم آل محمد، اللهم آل محمد، اللهم آل محمد "..
فماذا ترى في هذا الطراز من الشعراء الذين عاشوا مأساة الحسين كلّها..ورثوا الحسين وهم يستشعرون في كل قصيد نبضا من الولاء..فلهؤلاء حالة في العشق لا يدركها سواهم..ولحظة في الولاء لا يمسّها إلاّ المطهّرون..كربلاء في شعر الكميث على قامة الكميث نفسه..الحسين الذي قضى غدرا بين غوغاء أمّة وطغام:
وقتيلٍ بالطفِ غُودر منه +++ بين غوغاءِ أمةٍ وطغامِ
تركبُ الطيرُ كالمجاسدِ منه +++ مع هابٍ من الترابِ هيامِ
وتطيلُ المرزآتُ المقاليتُ +++ عليه القعودَ بعد القيامِ
يتعرّفنَّ حرَّ وجهٍ عليه +++ عقبةُ السروِ ظاهراً والوسامِ
قتلَ الادعياءُ إذ قتلوه +++ أكرمَ الشاربينَ صوبَ الغمامِ
مصيبة الحسين في نظر الكميت هي أكبر حدث..هي كذلك حيث انبرى الأدعياء لننيل من صفوة الخلق..والغوغاء من وارث الأنبياء..
ومن اكبر الأحداث كانت مصيبة +++ علينا قتيلُ الادعياء الملحّبُ 
قتيل بجنب الطف من آل هاشم +++ فيالك لحماً ليس عنه مذبب
ومنعفر الخدين من آل هاشم +++ ألا حبّذا ذاك الجبين المتّرب
ويقول في المورد نفسه:
يحلئن عن ماء الفرات وظله +++ حسيناً ولم يشهر عليهن منصل
كأنَّ حسينا والبهاليل حوله +++ لأسيافهم ما يختلي المتقبِّل
يخضن به من آل أحمد في الوغى+++ دما طل منهم كالبهيم المحجِّل
وغاب نبي الله عنهم وفقده+++ على الناس رزء ما هنالك مجلل
فلم أر مخذولا أجلَّ مصيبة +++ وأوجب منه نصرة حين يخذل
يصيب به الرامون عن قوس غيرهم +++ فيا آخر أسدى له الغيَّ أول
هم إذن فريقان في نظر الكميت..
فريقان : هذا راكب في عداوة +++ وباك على خذلانه الحق معول
فما نفع المستأخرين نكيصهم +++ ولا ضرّ أهل السابقات التعجُّل
قد يلفظ الشاعر شعره ويمضي..ولكن الكميت يمارس شعره ويستنبطه من واقعه ويستلهمه من مواقفه..هو الحب إذن إذا تملّك شاعرا هام شوقا وسافر في تفاصيل المعشوق..ولا حبّ يضارع حب لبيت أحبّه الملكوت واصطنعه الله لنفسه وقال هم أهل البيت..أهل بيت من؟ أهل بيت الله..أهل بيت الحقيقة..أهل الكساء والسر المستودع فيهم..فالحب هنا لا حدود له..لك ان تحب حسينا حدّ الجنون..لك أن تقول فيهم ما يرقى بهم إلى الإنسان الكامل..ولك في تضحية الحسين عبرة..كان بإمكانه أن يقبل برشا يزيد ومساوماته فيكون أميرا في بيئة تواجه الفساد..فأبا إلا أن يقضي لكي لا يكون شاهد زور على انحطاط أمّة جدّه..لقد كان موته وعياله ثمن شهادة حقّ وفضح لباطل استشرى وعربد..الحب ولاء.. وتمثّل ووفاء..العشق يصنع المعجزات ويجعل من الضعف قوة..ومهما غرقت في حب الحسين لن توف{يه..فالواقع هنا يسابق الخيال..والوصف هنا هو على حدّ الواصف..وأجمل العشق ما اطمأنّ به العاشق من معشوق أخلص للحق والعدل والتقى..وترقّى ترقّيا رضيا بدل النزول شقيّا إلى ما تحت الثرى.. وفي قول الكميت معالم من هذا الحب وزبرة من ذاك الولاء الصلب:
من لقلب متيم مستهام +++ غَير ما صبوةٍ ولا أحلام
بل هوايً الذي اُجن وابدي +++ لبني هاشم أجلِ الانام
ادريس هاني : 26/10/2015

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


ادريس هاني
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2015/11/01



كتابة تعليق لموضوع : الحسين في ديوان العرب (7)
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net