صفحة الكاتب : ادريس هاني

من سوسيولوجيا إمبريالية إلى سوسيولوجيا مقاومة؟
ادريس هاني

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
الكبرياء ليس قاتلا للعلماء بل هو قاتل للعلوم أيضا..لا نسأل اليوم ماذا خسرت العلوم بكبرياء علمائها بل السؤال الأدق: ماذا خسرت العلوم بكبرياء مزاعمها..فماذا يعني يا ترى أن يكون علم ما لا زال ينشأ باستمرار علما موضوعيا ودقيقا؟ قد تكون مهمّة السوسيولوجي محصورة في مجال معيّن، أو غير معنية بالبحث عن المبادئ الخارجة عن حقل الاجتماع كما يقول جميعهم ليس آخرهم ألان تورين في(pour la sociologie)، وذلك لكي لا تتحوّل السوسيولوجيا كعلم إلى فلسفة اجتماعية، وهذا منذ سعى دركهايم إلى النزوع بها خارج كل مسبقات الفلسفة..ماذا يعني استبعاد الأيديولوجيا في ممارستنا الميتا ـ اجتماعية؟ وهل الأيديولوجيا جسم ظاهر لعدسة نقّاد العلم الإبستيمولوجيين؟ لنقف عند الأيديولوجيا التي هي الوحش الذي يعلّق عليه أهل الصفاء الصناعي والعلمي كلّ التشويش الذي قد يصيب العلوم..إن الأيديولوجيا تتكيّف مع محيطها بما فيه المحيط الذي تتوفر فيه مضادات الأيديولوجية..تتطور هذه الأخير وتعيد تشكيل نفسها بصورة تمنحها المزيد من المناعة ضد أساليب نقد العلوم..كالميكروب المتعايش مع الجسم، ثمة أيديولوجيات صامتة ، لا مرئية، عميقة ولكنها تنشط في صمت وتهيمن بوسائل قوية ونافذة على الحقيقة..العلم نفسه لا يصبح مقنعا إلا إذا توسّل بأيديولوجيته..وحينما يتمرد العلم على الأيديولوجيا مطلقا يصبح علموية مطلقة وهي أسوأ أنواع الأيديولوجيا..هذه الأخيرة تتربّص بالفيزياء والبيولوجيا والرياضيات..إنّ الأنساق العلمية ليست ناتجة عن قناعات تجريبية محض، بل يحصل أن يكون سبب التراجيح فكرة مسبقة في أذهان العلماء..وفي حقل الاجتماع يصبح جبروت الأيديولوجيا لا حدود له..لأنّها الحقل الذي يعنى بالنشاط الرمزي للإنسان وسلوكه الجمعي..لكن كل هذا لا يشكّل أخطر ما في الموضوع..لنتحدّث إذن عن غياب الموضوعية الناتج عن الاستعمال الممنهج للسوسيولوجيا كوظيفة إمبريالية..هنا تصبح الموضوعية نفسها في خدمة اللاّموضوعية..أو لنقل تختزل الموضوعية في حدودها التقنية..من هنا اعتبرنا أن كل العلوم التي لا تعرّف نفسها بالكمالات الإنسانية هي علوم غير كاملة وغير معوّل عليها في رقيّ الماهية الجوهرية للإنسان..هذا يتّضح مع دور السوسيولوجيا تاريخيا داخل مؤسسة الاستعمار..بل هو العلم الذي نما وتطور بشكل ملفت في حقول اجتماعية تحت الاحتلال..جزء منه علم استعماري..بعد سنوات من إعادة ترميم موضوعيته يتم استدعاؤه إمرياليا لتقديم صورة عن المجتمعات المستهدفة بالهيمنة..اليوم ينتشر باحثون سوسيولوجيون غربيون وتصرف أموال طائلة على بحوث سوسيولوجيا ميدانية لا تقع على بال الجاهلين بطرق عمل الاستعمار..أبحاث حول أشكال الخياطة أو الطرز في قرية نائية في شمال أفريقيا أو طريقة الأكل في أفغانستان أو أندونسيا؟ كان علم الاجتماع حاضرا بفروعه كلها حتى في المنشآت الاقتصادية الكبرى..في التسويق والإدارة والعسكرية..تحويل الرغبات الجماعية إلى بيانات وأرقام للتعامل معها..وليس بعيدا عن ذلك مشروع كاميلوت الذي نهضت به مؤخّرا وزارة الدفاع الأمريكية معتمدة على جيش من الأنتروبولوجيين لدراسة وضعية مجتمعات العالم الثالث وتعيين علل الانهيار وعوامل تفكك نسيجها الاجتماعي والتأثير على عملية التغيير فيها بشكل يتكامل مع مصالح الرأسمالية العالمية..أي لتحقيق الفوضى الخلاّقة يتعين تحريك المجتمعات المذكورة إلى مجتمعات مفككة تعيش حالة الحرب الأهلية والتمزق الداخلي، مشروع دراسة أسوأ ما يمكن فعله في مجتمعات العالم الثالث لربطها بحبل التبعية المتين..هنا تصبح مهنة السوسيولوجي تشبه مهنة المخبر..بل دائما كان المخبر سوسيولوجيا..لأنّ السوسيولوجيا التطبيقية تلهم صاحبها حسّا خاصا للاستخبار..فالذي يخترق المجتمعات ويتمثّل عاداتها ويفتعل انخراطه فيها لتسهيل مهمة دراستها من الداخل هو مخبر من الدرجة الأولى..فإذا أصبح جزءا من مؤسسة مختصة فذلك من باب تحصيل حاصل..وفي مثل هذه الحالة تصبح موضوعية علم الاجتماع أكذوبة لا تنقص من أهميته ولكنها تناقض مزاعمه..لمواجهة هذا الوضع الخطير الذي يشكله الانهيار الدراماتيكي لآخر قلاع الموضوعية في العلوم لا يكفي تمثّل قسم أبقراط إلى حقل الانتربولوجيا كما فعل بعض الانتربولوجيين المناضلين حيال استعمال البانتاغون لفريق من الانتربولوجيين في مهامهم الحربية..بل الحاجة اليوم ماسّة لتأسيس سوسيولوجيا مقاومة وأنتربولوجيا مقاومة..غايتها إعادة فهم السلوك الاجتماعي بالطرق والوسائل الأقل تحيّزا ولكن الأكثر استهدافا للإنسان..ولا شكّ أن الأمر هنا شديد التعقيد..لأنّ الراجح عندي أنّ العلوم بما أنها لا تنجو من الهيمنة الباراديغمية فلا حلّ إلا بتقسيمها حسب الأهداف المرسومة لها..هنا وجب سوسيولوجيا دراسة المجتمعات ذات النظم الإمبريالية لمعرفة كيف تؤثر هذه المجتمعات على أنظمتها.. عوامل انهيار اجتماعها وتقلب أمزجتها الجماعية؟ كيف تخاف وممن تخاف؟ كيف بالإمكان التحكم بمسارت تحولها باتجاه الأنسنة وإخراجها من هوس الحرب التي تزرعها الدّعاية الإمبريالية، أي حين تحول الدعاية مجتمع مسالما إلى مهووس بالحرب كما تساءل تشومسكي..مقاومة الأمبريالية هي أيضا مقاومة بعلوم الإنسان وأيديولوجياه..مقاومة سوسيولوجية وتاريخية..يجب أن نفهم أنفسنا بكيفية أخرى..والبحث عن عوامل انسجامنا وقوتنا بشكل يناهض البحث عن عوامل تفككنا وانحططانا كما حاول مشروع كاميلوت..

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


ادريس هاني
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2015/10/08



كتابة تعليق لموضوع : من سوسيولوجيا إمبريالية إلى سوسيولوجيا مقاومة؟
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net