صفحة الكاتب : د . صادق السامرائي

عيون المها وما بها؟!!
د . صادق السامرائي
يُقال أن الشاعر علي بن الجهم قدِمَ على الخليفة المتوكل بسامراء , وكان بدويا جافيا فأنشده مادحا قصيدة قال فيها:
 
أنت كالكلب في حفاظك للود
وكالتيس في قراع الخطوب
أنت كالدلو لا عدمناك دلوا
من كبار الدلا كثير الذنوب
 
ويُقال أيضا أن المتوكل قد رأى فيها , حسن المقصد وخشونة اللفظ , وبأنه أوعز أن يكون الشاعر في أحد القصور ببغداد على نهر دجلة , وبعد ستة أشهر جيئ به إلى المتوكل فأنشده:
 
عيون المها بين الرصافة والجسر
جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري
أعدن لي الشوق القديم ولم أكن
سلوت ولكن زدت جمرا على جمر
................إلى آخر القصيدة
 
فقال المتوكل : أوقفوه , فأنا أخشى أن يذوب رقة ولطافة؟!!
 
ومَن يتأمل القصيدتين , لا يجد ما يسوغ أنهما لشاعر واحد , وأنه هكذا تغير بسرعة , وصار يقول شعرا لا يمت بصلة إلى ما كان يقوله من قبل , ويصعب تعليل هذه الإنتقالة النوعية وببضعة أشهر.
 
كما أن شخصية المتوكل لا توحي بهذه الإستجابة لمن يواجهه بألفاظٍ  كما ورد بالقصيدة الأولى , وأظنه لو فعلا حصل ذلك , لقطع رأسه في مكانه وبيده , فلا يمكن لأحدٍ مهما كان أن يتلفظ أمامه بلفظ كهذا.
 
كما أن علي إبن الجهم لم يكن ساذجا إلى هذا الحد ليقف أمام المتوكل ويصفه بتلك الكلمات , بل وأن الحافين بالمتوكل لابد لهم أن إطلعوا على ما يريد قوله , ولا يمكنه أن يقول شيئا من غير مراجعة من قبل المشرفين على ديوان الخليفة.
 
فمن الناحية السلوكية , لا يمكن ذلك , خصوصا إذا كان الشاعر قد إكتملت أدواته ومفرداته , وآليات نظمه للقصائد , لأنه سيتحوّل إلى صنّاع شعر بمواد أولية مخزونة في ذاكرته. 
 
ولا أظنه قد أثر المحيط به وغيّر آليات نظمه للشعر ومَعجميته بهذه الأشهر القليلة , مهما كان المشهد غريبا وعجيبا بالنسبة له.
 
فالشاعر البدوي يبقى بدويا في ألفاظه , كالشاعر الشعبي الذي تبقى مفردات شعره ذات طبيعة شعبية.
 
والمقارنة ما بين القصيدتين , كالمقارنة ما بين الأرض والسماء , فجزالة القصيدة الثانية بأنغامها وعذوبتها وصورها وبلاغتها ومفرداتها وتأثيرها في النفس والروح والذوق , لا يمكن مقارنته بالقصيدة الأولى بأي حال من الأحوال.
 
فالأولى تنم عن ضيق إبداع وفقر بلاغي , وضعف في خزين المفردات والتعبير عن الصورة الشعرية , وقلة الجمال الفني , وكأنها لم تنطق بلسان شاعر , فلا يمكن لشاعر يكتب القصيدة الثانية أن يكون بهذه السذاجة , وعدم القدرة على تقدير الموقف والإحساس بالمحيط الذي هو فيه.
 
كما أن طبيعة الشاعر العربي مهما كانت بيئته , أمام الخلفاء يكون ميالا للمديح المطلق الذي يُخرج الممدوح من أفق البشرية , ويضفي عليه صفات خيالية , وهذا شأن شعر المديح على مرّ العصور العربية.
 
ومن الواضح أن هناك تشويه للشاعر والخليفة , فالصورتان لا تتفقان ولا تتطابقان , ومن المرجح أن تكون القصة ملفقة وغير صحيحة , وإنما أريد بها النيل من الخليفة والشاعر.
 
وهكذا فأن القصة لا تحقق الإنسجام , ولا تتفق مع التقاليد والأعراف السائدة عندما يتم تقديم شاعر للخليفة لأول مرة , خصوصا وأن المتوكل كان له شعراءَه وعلى رأسهم البحتري , الذي لا بد لأي شاعر يتقدم إلى مجلسه أن يُجاز من قبله , وإلا سيتحمل تبعات ما سيقوله.

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


د . صادق السامرائي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2014/04/12



كتابة تعليق لموضوع : عيون المها وما بها؟!!
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net