كانت تقف كل ظهيرة تسند ظهرها على احد الأعمدة تتوقى هجير الشمس بمربع من الكارتون فيما كانت بشرتها المتعرقة تلمع تحت أشعة الشمس فكانت لاتجد غير كمَّها المتهرئ لتمسح به قطيرات عرقها الغزير.
لم تكن تفارقها الابتسامة رغم قساوة الهجير وقد استحالت بعض قسماتها الى أجزاء قاسية تحت أشعة الشمس اللافحة، ترهقها ضوضاء الأرصفة و ضجيج الطرقات .
لم تكن تنفك عن حمل باقات الورد و علب ألواح الشيكولا لتدور بها على المارين كل يوم .
كنت ارقبها يوميا و أنا في الطريق الى عملي صباحا فيما كانت هي تنظر إليَّ بإكبار وأنا احمل حقيبتي و أوراقي و ثمّة لفائف كبيرة من المخططات احتضنها تحت أبطي لكأنها كانت تعتقد بأنني من السلالة الحاكمة .
كانت تنظر إليَّ بعينين مبتسمتين مرهقتين ، ولطالما كنت ابتسم لها وأنا أحييها بنظراتي فقط . فكان انشغالي اللامتناهي يحول بيني و بينها أحيانا و لربما كنت أتجاهلها عن غير عمد وبين لملمة الأوراق و انتظار باص العمل .
لم اعرف أنَّها كانت تترقبني كل يوم ، وتنتظرني كل صباح ، فكل ما كان يشغلني تجاهل غير مقصود لا أعي له سببا ، غير أنني كنت أتشاغل وحسب .
أحثّ الخطى لأحاول الوصول لمكان انتظاري المعتاد للباص في يوم استغرقت في نوم عميق فيه ، كنت أحاول أن أُلملم أوراقي التي لم أحسن ترتيبها لاستعجالي فيما كانت تتساقط مني بعض لفائف المخططات .
لم انتبه لها وهي تتقدم لتجمع ما تساقط من أوراقي بكل حفاوة و كأنّها كانت تجمع أوراقاً مقدسة لتسلمها لي ببالغ الاحترام .
ترتسم ملامح البؤس المشربة بالجمال الذي ترك الزمن عليه آثاره الظالمة ، يفيض من بين تلك العينين كلام غزير لا يعرف إلا الشجون المهووسة بتجاهل مفعم بالحياة ، فرغم قساوة الحياة تتجاهر البسمات على محياها الصغير .
كنت أستدرك اهتمامها البالغ بشي من التفاني الا أنَّ ضيق الوقت كان يحاصرني فلا يجعلني أعطي الكثير .
التقطتُ حقيبتي من بين أوراقي بصعوبة وأنا أحاول أن أخرج لها بعض المال إسداءً لخدمتها ،اذهلني اعتذار مصحوب بابتسامة خجلة وهي تقول :أنا لا أريد نقود ، اشتري مني ألواح الشكولا و سأأخذ النقود .
استوقفتني كلماتها كثيراً، بقيتُ صامتة خجلة من نفسي لا اعرف كيف أتدارك موقفي المحرج ، وددت أن اعتذر فحسبت أنّها لن تدرك معنى أن أقول آسفة سامحيني لأنّها صغيرة ، لكن صغيرة كهذه تقرر أن تختار عزة نفسها لابد أن تكون تعي الكثير فقررت فورا آن اعتذر لها .
تمتمت بكلمات الاعتذار لها فوجدتها تتجاهلني تماما وتغادر بعينيها المترقبتين لفتىً يقاربها في السّن فكان على ما يبدو ابن الربيع العاشر ، كان يجهد نفسه في مسح زجاج نافذة سيارة فارهة لأحدهم و حال اشتعال الضوء الأخضر كان الأخير ينطلق بسرعة البرق مخلفا وراءه طفلا كان يحلم بان يحصل على بعض النقود .
شدّني الحدث حتى أنّي تناسيت تماماً موعد قدوم باص العمل بالوقت المحدد و بقيت أرقب هذين الطفلين بعدما تركتني تلك الطفلة راكضة الى الجانب الآخر كأنها كانت تريد مواساة أخيها .
كنت أراقبهما من بعيد و لم انتبه لوصول الباص الطويل الذي حجب بتوقفه عني رؤية ما أودّ مشاهدته من أمل و بسمات و مزاح دار بين هذين الأخوين .
ركبت الباص و أنا انظر لكليهما من النافذة ، كنت ابتسم لهما لكنهما قابلا ابتسامتي بتجاهل مفعم باللامبالاة فلم يكونا يدركان للحظة أنّ من الممكن أنْ يبتسم لهما أحد المارة بعد ما كشرت الدنيا عن أنيابها .
الباص الذي يقلّني الى عملي يتوقف في المكان نفسه مرتين يومياً
وعند العودة أراها بالهيئة ذاتها تتوارى عن هجير الشمس بمربع الكارتون وهي تبيع الماء او ألواح الشكولا على المارة ، بقيت تدور بطفولتها الأرصفة و تدور صورتها في مخيلتي طوال الليل ، لطالما كنت أفكر لأجد منفذا لإنقاذ تلك الطفولة المعذبة ولكن ما عساي أنْ افعل ؟ قررت أنْ استفسر أكثر في اليوم التالي ،وكان فيّ حماس غريب لرؤيتها يشدني إليها شعور بالمسؤولية وذنب لااعرف سببه .
بكّرت في خروجي ذلك الصباح ولمّا يزل ثمّة متسع من الوقت لأعرف عنها ما أريد .
وقفت انتظر الباص و انتظر أن تلتقي عيناها بعينيّ لألوّح لها بيدي لعلها تقترب مني ، و حدث ذلك فعلا .
كانت تنظر إليّ من بعيد فيما لوّحت لها بيدي لتقترب مني ، وجدتها تهرول نحوي مع أخيها و قد حملت بيدها كارتوناً من الشكولا ذات النوعية الرخيصة ، اقترابا مني ، بادرت قائلة:
- بكم تبيعان الكارتون كله ؟
- 3000 دينار .
- ماذا لو اشتريته منكما بـ(5000) دينار ؟ و لكن أخبراني ، لَمَ أنتما هنا أما يتوجّب عليكما الالتحاق بالمدرسة في هذا الوقت ؟
- لقد تركنا مقاعد الدراسة منذ عامين ، ليس لدينا ما يكفي لسد مصاريف الدراسة
- ووالدك ؟
ظل الطفل صامتا لبرهة يتأوّه في داخله وعيناه تدوران في السماء ، كان يودّ لو تملّص من الإجابة لكنه نطق :
- أقعدته الحرب ذاك الرجل في المنزل ، يقولون : شظية استقرت في رأسه.
- أيّ رجل تقصد ؟
- رجل (تيار فانت) تعرفينه طبعا ( و أشار بيده لواجهة إعلان كبيرة نادت بالولاء لشخصية واهية جاهلة انضوت تحت خبائه ملفات الفساد و غالونات جمة من دماء الجهلة من اتباعه( .
رجل يسوق عقولاً فارغة نحوه كالأبقار ، يجذبهم نحوه بشعارات رخيصة تافهة ما انفكت تروغ بها حناجر شرذمة جاهلة يقودها تمردهم العنصري وولاؤهم لشخصه الواهي المبجل !
كنت أعجز أن أصف مدى غباوة الحشود المتجحفلة و هي تسير خلفه و تتكبد الموت و الجهل ولا تبرح أماكنها في طوابير الذل فيساقون كما تساق النوق دون تفكير ، ترى ما كانت عقبى ذلك ؟ طفلان يفترشان الأرصفة و يقتاتان على ما يجنيان من بيع ألواح الشكولا الرخيصة .
كنت أدور في دوامة من التفكير و أنا انظر إليهما وهما يرسمان طفولتهما بضحكات و شقاوة الأطفال على الأرصفة تارة و بين أعمدة النور تارة أخرى ،ولعل البؤس الذي كانا يعيشانه لم ينحر الطفل الذي بداخلهما حتى الآن .
عدت لأقول :
- أريد أن اشتري كل ألواح الشكولا و عودا الى المنزل .
- لا فرق بين الشارع و المنزل ( أجابتني تلك الطفلة بشيء من القهقة و الأسى و هي تحتضن عمود النور و تدور حوله( .
لم اعرف حينها كيف لي انزع هذين الطفلين مما يعيشانه، ليس هذين الطفلين و حسب فهناك الكثير .
بدا باص العمل بالاقتراب فهممت بشراء كل ألواح الشكولا والانصراف فلعل الباص يمر فلا يلمحني السائق و يتوقف .
كنت انظر لهما من النافذة فيما كانا يقفزان فرحاً بهذه التجارة العظيمة و كأنهما قد أصبحا من أثرياء العالم .
مرت الأيام وأنا اشتري ألواح الشكولا وازرع الرضا على محياهما بما أستطيع ، كان ذلك يخفف الكثير من شعور الذنب تجاه طفولة بائسة تفنن المجتمع و الحكام في وأدها ،حينها وجدت أنّ هذين الطفلين أصبحا جزءا من حياتي .
لطالما كنا نتبادل الضحك و الحديث على الرصيف كل صباح و انا انتظر الباص ليقلني الى عملي ، كنا نأكل الشكولا الرخيصة معا ، استشعرت الأمومة حقاً معهما فكنت افتقدهما كثيرا .
تمر الأيام..... الشتاء يغلف الطرقات والأرصفة الباردة و بعض البرك التي امتلأت بمياه الأمطار تتوزع على الطريق و ثمّة رعشات باردة تهتز لها الفرائص ، كنت أضع على كتفيها بعض ما امتلكت من كنزات فأجدها تمشي أمام أخيها تستعرض ما تلبس وكأنها على منصة عرض للأزياء ، كنا نضحك و لم تفارقنا ألواح الشكولا كل صباح .
ذات يوم معتاد استوقفني منظر غريب ، كان الطفل يجلس ببؤس و يبكي بحرارة كطفل رضيع و ألواح الشكولا تبعثرت أمامه ، خطواتي الواثقة المسرعة بدأت بالتباطؤ و إحساس بالذهول ينتابني ، كدت لا أصل إليه إلا بجهد كبير انحنيت إليه و سألته:
- ما بك ؟ ماذا حدث ؟
كان يختنق بكاءً ويجد صعوبة بالغة في الإجابة ،بالكاد ينطق حتى أجابني :
- أختي ..... دهسها احدهم وهرب.. الناس أبعدوني ، لم استطع اللحاق بها ، سمعتهم يقولون إنّها مات!!!
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat