إن عالم الآخرة تجسد وتمثل للصحبة الطاهرة لأبي عبد الله (عليه السلام) فرأوها ببصائرهم وقلوبهم النقية ، فأقبلوا عليها يتهافتون بكل عشق ووله ٍ وقد قدموا تلك الأنفس قرابين على دكـةِ ومذبح الشوق إلى الشهادة . فنجد الإمام الحسين (عليه السلام) وهو يعبر عن ذلك الشوق للقاء الله تعالى والآخرة بذلك اللقاء الذي سوف يجمعه بجده
المصطفى وأمه الزهراء وأبيه المرتضى وأخيه المجتبى ، سوف يلتقي بهذا السلف الماضي المقدس قال : ((وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف وخير لي مصرع أنا لاقيه)) (1) .
فيا لها من مواقف ومشاهد مُشّرفة ملؤها الشوق والبهجة والعشق والفرح والسعادة في تلك اللحظات التي مرت على أصحاب الحسين (عليه السلام) في ليالي عاشوراء فمن تلك المشاهد موقف حبيب بن مظاهر الأسدي (رضوان الله عليه) حينما خرج إلى معسكر الامام الحسين (عليه السلام) وهو مبتسم بل ضاحكا ً وقد هجم عليه الفرح والسرور ففي تلك اللحظات شاهدوه على ذلك الموقف فعندما وجهوا له سؤالا ً : (( ما هذه ساعة ُ ضحك)؟
فما كان جوابه إلا بذلك الإيمان العميق والتعلق الحقيقي بالعالم الغيبي ، حيث كان مستيقظا ً فأجاب بقوله : ((أيُ موضع أحق من هذا بالسرور والله ما هو إلا أن تميل علينا هذه الطغاة بسيوفهم فنعانق الحور العين)) (2).
إن هذه الإجابة من شيخ كبير السن تعتبر دليلا ً واضحا ً على إنه يحمل إخلاصا ً وإيمانا ً كبيران ، وصدقا ً في النية والعمل المتعطر باليقين والمعرفة الراسخة في أعماقه وعقيدته الدالة على عمق تعلقه بالبعد الأخلاقي العقائدي .
وفي قبال الإيمان الذي أبرزته الأنفاس لحبيب بن مظاهر الأسدي كانت أمامها تلك الأفكار والعقائد والأخلاق الأموية التي هي الإنكار الكامل لعالم الآخرة ، وعدم الاعتراف بأن كل شيء هو من الله وإلى الله تعالى.
فهذا هو عمر بن سعد عندما التقى بالامام الحسين (عليه السلام) وتحدث معه قال له الامام الحسين (عليه السلام) : ((لابن سعد : ويلك يا بن سعد أما تتقي الله الذي إليه معادك)).؟
((أتقتلني وأنا ابن من علمت ...؟ ذر هؤلاء القوم وكن معي فإنه أقرب لك إلى الله تعالى)).
فقال : عمر بن سعد : أخاف أن تـُهدم داري.
فقال الامام الحسين (عليه السلام) : أنا أبنيها لك .
فقال : أخاف أن تؤخذ ضيعتي.
فقال الامام الحسين (عليه السلام) : أنا أخلف عليك خيرا ً منها من مالي بالحجاز .
فقال : لي عيال أخاف عليهم.
فقال الامام الحسين (عليه السلام) : (( أنا أضمن سلامتكم)).
ثم سكت ولم يجبه ، فانصرف عنه الامام الحسين (عليه السلام) وهو يقول : مالك ذبحك الله على فراشك عاجلا ً ، ولا غفر لك يوم حشرك فوالله إني لأرجو أن لا تأكل من بُرّ (3) العراق إلا يسيرا ً.
فقال ابن سعد : في الشعير كفاية عن البرّ مستهزئا ً بذلك القول)) (4).
لو دققنا في هذا الحوار جيدا ً لوجدنا أن الحلول التي وضعها الإمام الحسين (عليه السلام) لعمر بن سعد فيها المصلحة الكاملة والسعادة الحقيقية والفوز بالنعيم المقيم الذي لا زوال له ولا اضمحلال ، لكن الإمام الحسين (عليه السلام) قوبل بعدم الإجابة لتلك الحلول التي وضعها لابن سعد وفي نفس الوقت أراد الإمام الحسين (عليه السلام) أن يُـلقي عليه الحجة وقد أظهر ابن سعد معدنه الحقيقي بتلك المطالب التي هي عبارة عن دليل واضح أنه لم يتعلق بالآخرة ، حيث إنه لم يذكر أمرا ً أخرويا ً واحدا ً في حواره مع الإمام الحسين (عليه السلام) بل ولا يوجد أمرا ً فيه رائحة ً تدل على تعلقه بالآخرة ، وإنما هي كانت مجردة عن التعلق بالله تعالى وعن جميع المظاهر والمعالم الأساسية في الشريعة .
إن قلب وسريرة عمر بن سعد عبارة عن نموذج من تلك القلوب والسرائر التي تعيش في عالم الظلام فهي قلوب ظلماتية وسرائر ملوثة ، وأخلاقا ً فاسدة ، ونفوسا ً منحرفة.
إن مثل هذه النماذج كانت تسعى لإزالة التفكير لعملية التهذيب للنفوس وتطهير الأخلاق ، بحيث كانت تريد أن تجعل البشرية تترك التفكير بإصلاح الباطن ، وقلع مادة الفساد التي غرستها الأيادي الأموية في النفس البشرية.
إن المواعظ والنصائح لسيد الشهداء (عليه السلام) التي ذكـَّـر بها عمر بن سعد كانت عبارة عن تذكير بالتقوى والمعاد والانتقال إلى عالم الآخرة بقلب ٍ طاهر ٍ متجردا ً عن جميع مظاهر القسوة ونصحه على أن يسعى لكسب رضا الخالق تبارك وتعالى والفوز بالرضوان الإلهي والجنة والسعادة الدائمة ، والحال إنه رفض جميع تلك الحلول والنصائح الحسينية ، بل ولم يعطي جوابا ً للامام الحسين (عليه السلام) إلا بتلك الأنفاس الأموية التي تستهزئ بمقام الإمامة والولاية.
المصادر والهوامش :
1- مثير الأحزان لابن نما ص29 بحار الأنوار ج44 ص366.
2- بحار الأنوار ج45 ص93 – 1403 ط 2 ، 1403 مؤسسة الوفاء بيروت.
3- البُر بضم الباء أي الحنطة.
4- البحار ج44 / 388 – الفتوح 5/ 164
مثير الأحزان ص50 – مقتل الخوارزمي 1/ 244
البداية والنهاية 8 / 175.
قناتنا على التلغرام :
https://t.me/kitabat
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat