صفحة الكاتب : عبد الله بدر اسكندر

إني عبد الله آتاني الكتاب
عبد الله بدر اسكندر

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
تتفرع على الأمر الخارق للنواميس الطبيعية مجموعة من الأحداث قد يتعذر على من يشاهدها إظهار علائقها وذلك لبعدها عن الارتباط بالأسباب المألوفة، أو ربما ترتبط بها من وجه خفي يصعب الوصول إلى معرفة حقيقته بالطرق التقليدية على أقل تقدير.
 
من بعد هذه المقدمة يمكننا القول إن الأمر الخارق للعادة قد يشتمل على عدة عناوين، كالمعجزة والكرامة والسحر، وبطبيعة الحال فإن هناك بعض الأسس التي يتميز من خلالها أولئك الذين تظهر على أيديهم هذه الخروقات، فالمعجزة لا يؤيد بها إلا الأنبياء، وإن كان المصطلح يقبل التماثل فهذا من باب التوسع.
 
ولهذا أصبح استقرار العَلمية لا يتعدى لغيرهم، كالصلاة التي لا يفهم منها إلا الحركات العبادية المتعارف عليها، علماً أن هذا اللفظ إذا أطلق فقد يراد منه الدعاء كما في أصل الوضع، وقد ذكر القرآن هذا المعنى في قوله تعالى: (وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاءً وتصدية) الأنفال 35.
 
وبهذا يتحصل أن المعجزة لا تظهر إلا على أيدي الأنبياء مصحوبة بالتحدي الذي يكون حجة لله تعالى على الأقوام المرسل إليهم بغض النظر عن إيمانهم أو عدمه، وأمثلة ذلك كثيرة في القرآن الكريم، كانقلاب العصا إلى ثعبان أو إبطال خاصية النار وانشقاق القمر وصولاً إلى المعجزة المعنوية المتمثلة في القرآن الكريم.
 
أما الكرامة فهي لا تختلف عن الفاعلية التي جعلها الله تعالى في المعجزة، إلا أنها تفترق عنها في المشتركات العرضية، رغم مجيئها بقانون آخر دون التحدي، كإتيان مريم (عليها السلام) فاكهة الصيف بالشتاء أو العكس.
 
ومن غرائب التفسير ما ذهب إليه البعض الذين أرادوا نفي حقيقة السحر بقولهم إن السحرة الذين جاء بهم فرعون قد استعملوا طلاء الزئبق مما جعل الحبال تتحرك كأنها حيّات تسعى، ولو أن الأمر كما يقولون لكان السحرة من المقربين لفرعون، إلا أن متفرقات القرآن الكريم تظهر أنهم ليسوا كذلك، كما في قوله تعالى: (قالوا أرجه وأخاه وأرسل في المدائن حاشرين***يأتوك بكل ساحر عليم) الأعراف 111-112.
 
 وبعد مجيء السحرة كانت لهم مجموعة من المطالب أهمها الأجر حين الغلبة، كما صور القرآن الكريم ذلك في قوله تعالى: (وجاء السحرة فرعون قالوا إن لنا لأجراً إن كنا نحن الغالبين***قال نعم وإنكم لمن المقربين) الأعراف 113-114. وهذا يدل على عدم قربهم من فرعون لما لذلك العمل من انتشار لا يتناسب مع شريعته، ولا أريد الإطناب في هذا الموضوع لأنه يجعلنا نخرج عن البحث المخصص لهذا المقال، وعسى أن نوفق إليه في مقال آخر.
 
من هنا يظهر أن السحر لا يختلف عن المعجزة والكرامة من جهة إبطاله للقوانين الطبيعية، إلا أنه يجانب الأسس الشرعية، وهذا ظاهر من اعتماد أصحابه على التخيلات التي يصدقها من لا يحيط بأسرار هذا العمل، وربما يستند السحر إلى تعاليم شيطانية قد تخفى على كثير من الناس، كما ورد ذلك في قوله تعالى: (واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون) البقرة 102.
 
وبناءً على ما تقدم يظهر أن للمعجزة سمواً وبعداً لا يمكن تواجدهما في الكرامة والسحر، حتى ذهب بعض المفسرين إلى أن ما حصل من ولادة النبي عيسى (عليه السلام) لا يمكن حمله على الكرامة التي ظهرت لمريم (عليها السلام) وإنما يصنف من المعجزات التي دلت على براءة ساحتها رغم أنها ليست من الأنبياء، واعتبر آخرون أن هذه الولادة العجيبة يمكن أن تكون كرامة لمريم ومعجزة لعيسى، وفي كلتا الحالتين فإن الكلمات الأولى التي نطق بها عيسى (عليه السلام) تؤكد الإعجاز بكل تفرعاته التي لا يمكن أن تظهر لمولود آخر إلا بإذن الله، وهذا ظاهر في قوله تعالى: (إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبياً) مريم 30. وفي الآية مبحثان:
 
المبحث الأول: ذهب جمع من المفسرين إلى أن الكتاب الذي آتاه الله تعالى لعيسى هو الإنجيل، وقال آخرون إن الكتاب هو التوراة باعتبار أن الإنجيل لم ينزل بعد، وقال بعضهم إنه كتاب القضاء، كما سيمر عليك في المبحث الثاني المخصص لآراء المفسرين، والحقيقة: إن الكتاب الذي ذكره عيسى (عليه السلام) لا يراد منه الإنجيل أو التوراة لأن نزول الكتب التشريعية لا يتحقق إلا في فترة الرسالة التي تأتي بعد النبوة التي أشار لها أو التي ولدت معه كما في ظاهر الآية.
 
وعند التأمل في متفرقات القرآن الكريم يظهر أن الكتاب يحمل العمومية التي لا تختص بها الكتب الحاملة للمنهج كالتوراة والإنجيل ولا حتى القرآن، وهذا العموم يشتمل على المعارف الإيمانية والحقائق التكاملية، إضافة إلى الأسرار والحكم الربانية التي تكون خارج الأطر التشريعية، التي تتفرع عليها الكتب المنهجية التي تحمل الهداية العامة، فتأمل الفرق.
 
وبالإضافة إلى ما مر فإن هذا الكتاب الذي أشرنا إليه لا يختص به نبي دون آخر بل هو من المشتركات التي يتوارثها الأنبياء، وقد يكون للصالحين والأوصياء نصيب منها، كما سيمر عليك في هذا المقال، فإن قيل: إذا كان هذا الكتاب مما يتوارثه الأنبياء فما تفضيل عيسى إذن؟ أقول: الفرق إن هذا الكتاب ولد مع عيسى دون سائر الأنبياء الذين حصلوا عليه لاحقاً كما في قوله تعالى: (أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة) الأنعام 89. ولا يمكن القول إن المراد هنا هو أحد الكتب المعهودة كالتوراة والإنجيل، لأن الكلام فيه إشارة إلى مجموع الأنبياء، فإن قيل: وماذا عن الزبور؟ أقول: الزبور لا يحتوي على الأحكام والكتاب الذي حكم به داود هو التوراة التي توارثها جمع من أنبياء بني إسرائيل.
 
ولأجل التوصل إلى بيان أكثر تفصيلاً علينا أن نشير إلى قوله تعالى: (كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه) البقرة 213. ومن هنا تظهر النكتة في خطابه تعالى للنبي (ص) بقوله: (وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله) المائدة 48.
 
وقد يظهر الأمر جلياً عندما أشار تعالى إلى عيسى بقوله: (ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل) آل عمران 48. وبهذا يظهر أن الكتاب أعم من الكتب التي تحمل المنهج، وبعبارة أخرى فإن هذا الكتاب هو العلم اللدني الذي يخص به الله تعالى بعض من عباده المخلصين، كما في قوله: (فوجدا عبداً من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علماً) الكهف 65. وكما هو ظاهر فإن الآية تشير إلى العلم الحضوري الذي يهبه الله تعالى لعباده المخلصين، دون العلم الذي يحصل عن طريق الاكتساب، ومن هنا يظهر معنى قوله: (من لدنا) وعند التأمل في الآيات التي تبين هذا النوع من العلم نجده لا يخضع للقوانين الطبيعية، أو الطرق المعتادة لدى عامة الناس.
 
ومن الأمثلة على هذا العلم ما ذكره تعالى بقوله: (كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذي علم عليم) يوسف 76. وبالإضافة إلى هذا فإن ما بينه تعالى من أمر يعقوب يجعلنا أمام دليل آخر، كما في قوله: (ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم ما كان يغني عنهم من الله من شيء إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها وإنه لذو علم لما علمناه ولكن أكثر الناس لا يعلمون) يوسف 68. وبهذا يظهر ما خفي على البعض من قوله تعالى: (قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك) النمل 40. وعند التأمل في هذا الأمر يتبين أن هذا العلم هو جزء من علم الكتاب الذي أفاضه الله تعالى على وصي سليمان الذي قيل إنه آصف بن برخيا، أما علم الكتاب كاملاً فقد أشار إليه تعالى بقوله: (ويقول الذين كفروا لست مرسلاً قل كفى بالله شهيداً بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب) الرعد 43.
 
المبحث الثاني: اختلف المفسرون في قوله: (آتاني الكتاب) حيث قال ابن الجوزي في زاد المسير: نقلاً عن ابن عباس: إنه آتاه الكتاب وهو في بطن أمه وقيل علم التوراة والإنجيل، ثم خلص إلى القول إن في الكتاب قولان: أحدهما التوراة والثاني الإنجيل، أما النسفي في مدارك التنزيل: فقد ذهب إلى أن الكتاب هو الإنجيل دون أن يضيف شيئاً آخر. وقال البغوي في معالم التنزيل: إن هذا إخبار عما كتب له في اللوح المحفوظ، ثم نقل عن أكثر المفسرين: إنه أوتي الإنجيل وهو صغير وأضاف عن طريق الحسن البصري إن الله تعالى ألهمه التوراة وهو في بطن أمه.
 
وللصوفية رأي آخر حيث يقول مكي بن أبي طالب في تفسير الهداية إلى بلوغ النهاية: نقلاً عن عكرمة: إن الكتاب يعني القضاء، ومن أغرب الأقوال ما نقله ابن كثير عن ابن أبي حاتم: من أن عيسى قد درس التوراة وأحكمها وهو في بطن أمه، ويقول الشوكاني في فتح القدير: (آتاني الكتاب) الإنجيل: أي حكم لي بإيتائي الكتاب والنبوة في الأزل وإن لم يكن قد نزل عليه في تلك الحال ولا قد صار نبياً، وقيل إنه آتاه الكتاب وجعله نبياً في تلك الحال وهو بعيد، على حد قول الشوكاني.
 
وللإمامية رأي حيث يقول الطبرسي في مجمع البيان: أي حكم لي بإتيان الكتاب والنبوة، ثم نسب إلى قيل: إن معناه إني عبد الله سيؤتيني الكتاب وسيجعلني نبياً، وكان ذلك معجزة لمريم (عليها السلام) على براءة ساحتها، ويقول الجنابذي في بيان السعادة: أتى بالماضي لتحقق وقوعه أو لتحقق استعداده، والمراد بالكتاب الإنجيل أو كتاب النبوة. انتهى ماذهب إليه جمع من المفسرين. وآخر الآراء هو الأقرب لما قدمنا وهو ما ذهب إليه الجنابذي من أن الكتاب هو كتاب النبوة على الرغم من عدم تفصيله لما ذهب إليه.
 
فإن قيل: إن السؤال الذي وجهه القوم إلى مريم يراد منه نفي التهمة عنها، كما يظهر من قوله تعالى: (يا أخت هارون ما كان أبوك أمرأ سوءٍ وما كانت أمك بغياً) مريم 28. ولكن عيسى لم ينف تلك التهمة، بل ذهب إلى أبعد من هذا الأمر كما يظهر من قوله تعالى: (قال إني عبد الله آتاني الكتاب...... إلى قوله...... والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حياً) مريم 30-33. وهذا السياق لا يظهر فيه نفي التهمة عن مريم؟
 
أقول: عندما تكلم وهو في المهد فإن هذا بحد ذاته إعجاز لا يمكن عدم تصديقه من قبل القوم، فإذا ثبت هذا فمن باب أولى يثبت تصديقهم بنبوته التي أشار لها علماً أن النبوة لا يمكن أن تأتي إلا بالطرق الشرعية، وهذا ما يعلم بالفطرة كما أشار إلى ذلك النبي (ص) بقوله: لم يزل ينقلني من أصلاب الطاهرين إلى أرحام المطهرات حتى أخرجني في عالمكم هذا. و قد يؤيد هذا الحديث بقوله تعالى: (الذي يراك حين تقوم***وتقلبك في الساجدين) الشعراء 218-219. 

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


عبد الله بدر اسكندر
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2013/05/04



كتابة تعليق لموضوع : إني عبد الله آتاني الكتاب
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net