صفحة الكاتب : غالية محروس المحروس

قبرك قارورة عطر
غالية محروس المحروس

 لكل مقال خصوصية فكرته فكيف للقارئ أن يفهم مقالي هذا ؟

 
قد اختلف مع البعض في فهم نص معين, كل منا عند القراءة يكون بينه وبين النص خيوط خفية يدركها بحسه الأدبي والإنساني، هذه الخيوط قد تتلاقى، مع نصوص معينة، أو تتباعد مع أخرى، وهذا حقٌ أي قارئ, فكيف بعنواني هذا, من يقرأ عنواني تخالجه كل الظنون ومن سيقرأ مشاعري و كلماتي ستنمحي كل الظنون.
 
حينما كـُـتبَ على أمي الرحيل قبل سنة تركت ورائها وحشة بألف آه وآه وعبث حد الذهول, حينما كـُـتبَ عليها الرحيل تركت ورائها دموعي وحزني في رداء الدهشة وتعويذة البكاء, فأمي ما عادت هنا!! لأبكي إذا نعم فقد اشتهيت البكاء عليك يا أماه فقد اشتقت لرائحتك لأتوضأ بعطرك.
 
أي طعم للحياة بلا أمي ؟
عام مضى يا أمي وها نحن نمضي نبحر في تفاصيل رحيلك, نغرق بها ننسى ونتناسى لنصحو على وجع فقدك أقول: مرة أخرى ومرات عديدة, وبعد مضي عام: تركت أمي بعد رحيلها لي الحياة ليلة عزاء طويلة, فلم تعد النجوم على الأرض إلا مصابيح عزاء أقيمت بليل , ولم يعد للقبر معنى إلا أن يكون الحياة, لو كنت أملك من عمري شيئا لأعطيت أمي ما يجعلني لا أفارقها ساعة, فحين رحلت أصبحت أحيا ببعض نفس وبعض روح ولا زلت , أمي يد لا تعرف إلا العطاء , وقلب لا يعرف إلا الحب والتسامح والغفران , ووجه لا يعرف إلا الابتسامة, حين رحلت أمي فقدت سر أسراري, العالم كله على صدر أمي , فإذا وضعت فيه رأسي كنت ملكة متوجة.
 
لماذا رحلت أمي؟!
 
أدرك أن السؤال ينطوي على درجة من العبث، وعلى قدر من عدم المسؤولية، وإذا شئت الدقة فهو توسل أناني ذو صلة لها علاقة بالحرمان والفقد, منذ تلك البدايات المبكرة في حياتي لازمني إحساس غريب يشبه اليقين، بأن أمي باقية، سنموت وهي لا تموت, كانت توفر لنا دائما كل شي، دائما هي الدفء وقتما يأتي فصل الشتاء، هي البركة، والخير الذي لا ينتهي، هي حاضنة الجمال  ومصدر فيض الوجود هي العطاء والنبل, لذا سؤالي لماذا رحلت أمي!
 
إنه سؤال يلح علي، ويدفعني إلي متاهات بعيدة، ربما إلى أسئلة الفلسفة الأولى،هي لماذا رحلت أمي ؟ هل من الضرورة أن ترحل ؟ أعرف أن الجميع سيرحلون، وأنت يا أمي مثل غيمة توعد بالمطر أنت من أغراني بالحياة، وأنت من زينت لي حب الناس ، ومن قادتني إلى حلم أن أكون.
 
 مرة ثانية أعيد السؤال، كيف ترحل أمي إنه سؤال شقي، لا يبحث عن معنى، بل يسعى إلى استبطان حقيقة أمي، إنها ( أمي ) من حرصت على توليد الحياة, أريد أن أجعل من أمي وطنا، هي من عاشت سنوات التعب والوجع والصبر، هي من عاشت وجع أبناءها، فهل أبكيك أم تبكيني يا أمي, أنتظر الإجابة منك يا خالقة الحياة لي يا فاطمة الحياة يا أمي.
 
اشتقت أن أناديك يا أمـي كيف لي أن أنساك, أُكابر أمام أعين الناس من أن أبكي عند ذكر اسمك, لكن في البكاء عندما أختلي مع نفسي فإنّي أعود كما ودّعتها يوم رحيلها أعود طفلة و أجهش, كم تمنيت أن أكون معك قرب سريرك، كي أقول: أحبك " يا فاطمة الحياة، وكم وددت أن أقول شاهدتك في كل الأمهات لا أبالغ إذا قلت: أنت من شاهدتك في كل شخص جميل كنت أبحث عن معنى في اسمك، أيتها الأم! فأنت بداية البداية وأنت بداية النهاية يا أمي.
 
أمي الحبيبة كلنا مشتاقين لك , مكانك ما زال فارغا , وما زلت في نفوسنا , في قلوبنا , في أرواحنا , أمي لقد مر عام على رحيلك وكأنه يوم ليس عام , يا أمي لقد اشتقت لك , لقد زرت قبرك , وكلمتك و لكنك لا تردين علي , والحمد لله على هذا القدر , يكفيني ويكفيني انك راضية عني , هذا كنزي وثروتي في هذه الدنيا أين ما ذهبت أين ما اتجهت فان الله يوفقني بإذنه تعالى,واعذريني يا أمي الحبيبة, لن أكمل كلمتي لأن دموعي ستشاركني الكتابة  ,عذرا يا قلبي ويا روحي وكل عام وأنت في قلوبنا يا أمي.
 
هل يكفي أن أزورك عند قبرك لأقول لك هذا الجميل والعرفان ؟
كان قلبي يخفق وشعرت إني ذاهبة لموعد أمي,  هذا ما أكدته لي رجفة أصابعي وهي تمسك بالقلم, الذي أردت أن اكتب به كل شيء عن لقائي بك, لذا كان علي أن أتغلب على هذا الحزن بذاكرة من حبر وبياض.
 
 كنت أؤمن إن زيارتي إليك ستكون محفوفة بملائكة السماء التي رسمت لي خطواتي نحوك وقادتني, كما تقود طفلة إلى روضتها في يومها الأول, ونحو قبرك سارت بي خطاي ومضيت نحوك من جديد بلهفة وصلت ذروتها وأنا أسابق الخطى قبل أن يدركني المغيب, وكأني أطير كـعصفورة مجروحة بين سماء النواح.
 
كنت أدرك إني جئت موجوعة وهذا قدر الفرح الذي يأتي موجوعا, والعناق الذي يأتي بعد أن يلوي أعناقنا شوقا, لأنه أتى بوجع يبقى عناقا وفرحا أكيدا, كفرحي الذي يدب في صدري وأنا أسعى إليك يا أغلى الأمهات أنت.
فقد اقترب الموعد,  وكل حجر يرسم خطواتك أمامي جاء الحنين يسعى إليك,
هنا كنت تسيرين ذات حياة  يا فاطمة الحياة, وهنا كنت أقتفي أثرك كما أقتفيك اللحظة عند ناصية كل شبر, كنت أرى وجهك يرافقني, يأخذ بيدي وأنت تلوميني لأني قطعت كل هذه المسافة لأقتفيك رثائا اتفيأ تحت ظلالها الوارفة!
 
طار القلب من مكانه وأنا واقفة عند قبرك, وحط القلب فوق بياض قبرك ورحت انشد أناشيد الفقد فوقه كانت روحي تهفو لعناقك, كانت أصابعي تختار لك أجمل الرياحين وأكثرها أناقة, وحينها استدركت في غمرة ركضي إليك إني لم أجلب لك وردا ولا تذكارا !
صاح القلب بدهشته التي لم يسمعها أحد سواك : سأطبع على كل حجر بقبرك تذكار حزني وأهمس, لكل نبتة ريحان في قارورة العطر التي تدعى قبرك, إني جئتك أحمل لك ريحانا ورثائا لم يبتلعها النواح بعد.
 
حكاية فقدك ورحيلك يوجعني هذه الأيام فوق أصابعي لأملأ الأفق بحزن كثيف, مثل هذه الجراح تظل طفلة في رحم الذاكرة, ولا تبلغ سن الرشد وأنا أرمم كل جرح بكلماتي ومشاعري, فالذاكرة عطر والعطر ذاكرة لا يطالها النسيان, فكم من وردة ذبلت وبقي عطرها يمارس احتلالا غامضا لذاكرتنا, وكم من حكاية انتهت لكن عطرها ظل يداهمنا وينكأ جراحنا, وهكذا صمتت حكاياتي وأغمضت عيني السابحة تأملا في فقدك.
 
في رهبة غيابك وقفت وأنا أستشعرك عند كل حجر,  يكفيني أن أقف عند قبرك والمس ترابه بأصابع مرتبكة لتتسلل روحي إلى روحك, التي ظلت تطاردني بالحنين حتى وأنت تتوسدين جنان الأرض, كان علي أن أواصل سيري إليك في مملكة البياض والصمت, الذي نهض في حضرة الكتابة تلك المواجهة التي كنت أخشاها أمام جسدك المزروع كنخلة قطيفية في قلب أرض القطيف.
 
قهوتك التي داهمتني في حبري, تلك القهوة التي بقيت عالقة في ذاكرتي وأنا أقتفيك في قلب القطيف ,وعند مدخل المقبرة توقفت السيارة حيث تنتظرني عينيك, كان ذلك مبعث بهجة أخرى لي رغم الوجع أن أطأ بأقدامي مقبرة كنت تسيري عليها, ذات يوم لزيارة شقيقي المرحوم الشاب وجدي حزينة تائهة تبحثين عن خطاك, كنت أنا في حضرة غيابك المتفاقم حضورا رمزيا يقتفيه قلبي في كل خطوة  يا أمي, لكن أقدامي كانت تستعجلني للدخول إلى المقبرة حيث أنت.
 
وضعت الريحان لك وغبت في بكاء صامت لم يشهده أحد سواك ,و على شاهدة قبرك علّقت آخر الدمعات وغبت في مشاعر صامتة, هكذا أصبح لحزن فقدي طقوس وألوان وأوجاع تشاكس الشمس ببريقها برائحة الحزن, كان البعض يرمقونني بدهشة وانبهار وكنت أتباهى بحزني عليك,  الذي أصبح ناعما وجميلا حتى إنهم يتوقفون عندي ليقرئوني ليتلمسوا وجعي بحنان, معجزة وجودك وروحك التي استشعرتها في كل التفاصيل التي تحيط بي, الصوت يأتيني من تحت قبرك رسمته ألوان الرحيل, وحين أردت أن أنادي أمي اختنق صوتي وأضعت الدرب إليك وتذكرت إنك راحلة عني منذ عام.
 
لأنك أمي التي منحتني الحياة قبل أن تمنحني الأمومة, وأمسكت بيدي وعلمتني أن الحب نافذة الحرية والكرامة والإنسانية, التي وعيت على استلابها بمسميات شتى, لأنك أمي التي أمسكت بمنديل حنانها وراحت تمسح عن وجهي, تلك الدموع المملّحة بعلامات الوجع و تغسل الخوف عن جبهة قلبي وتجلسني على حجرها, أتمنى ن أكون وشاحا لهدبك يا أمي.
 
أيقظني صوت جرس الباب، فيما كنتُ أظن بأن أمي قادمة لي ولم تصدر عنها أي ابتسامة، ولم ترد عليَّ حتى، فشربت قهوتي بكآبة. من جديد طفحت الدموع في عينيَّ. لا ينبغي أن أكون أكثر رقةً مع نفسي، أنا أترقب هذه الأيام لسنوية أمي ، أنها حاضرة معي إذا ما ناديت عليها عبر صرخة عظيمة، من أعماق حزني، قد تسمعني صوتها، لكن كلا، ليس ثمة من إجابة، أو على الأقل لم أفلح بسماعها, في صبيحة اليوم الثاني يَنفتح الباب وأرى بذهول أمي وهي تدخل. ثمة ابتسامة حلوة على شفتيها, آه أية معجزة لقد حققت أحلامي تلك المعجزة التي مستني في حزني ووجعي
 
وفي الأخير، أضحك من كل قلبي، فيما تحدق بي أمي بإعجاب, حينما استيقظت، تذكرت بأن أمي كانت قد رحلت, أي حنق يمزق قلبي من أجل أمي، ليس هناك من زمان، ولا ثمة من حدود ما بين الحلم أو الكابوس، والواقع يمكنني الخروج من فقدي والتجول عبر كل شيء تحملُ لي ذاكرتي ذكريات مُرعبة تارةً، تلك التي عشتها بالكاد منذ شهور، وتارة أخرى حالات القلق المُتخيلةِ، أكافحُ محاولةً أن أتلو على نفسي بعض الآيات القرآنية لتهدأ روحي، أحياناً تضيعُ مني السور الكريمة.
 
هناك فضول أحمق داهمني من إحدى المعارف بغباء إنساني:
ألم تحضري حفل ابنة أخيك؟ أي حفل ذلك الذي أقوى على من الصواعق حضور, أي دفوف ستعلو على إيقاع دفوف فاجعة فقدي, ألتمس العذر من أخي سمير وأنت أعلم بمشاعري تجاهك من أي شخص آخر أما العروس زهرة أهنئك بخطوبتك وأقول لو أمي حاضرة لطارت فرحة لفرحك, عبثاً حاولت إبعاد الأفراح عن ذهني، تلك التي أعقبت وفاة أمي والتي أكتب  فيها صدق مشاعري,وأنا كلما أحسست بالوحشة سأكتب إليك يا أمي, غريب هذا الوجد كم يختصر المسافات نعم من هنا يمر الليل ومن هنا يمر النهار وبينهما ترملت روحي برحيلك يا أمي.

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


غالية محروس المحروس
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2013/03/08



كتابة تعليق لموضوع : قبرك قارورة عطر
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 

أحدث التعليقات إضافة (عدد : 1)


• (1) - كتب : غالية ، في 2013/07/01 .

روعه ومؤثرة جداً هذي المشاعر والأحاسيس

نبضات الفقد والوجد احسستها لحد الدموع

الله يخلي كل الأمهات. ويحفظهم ويرحم الوالدة ويمسح على قلبك بالرضا والاطمئنان




حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net