صفحة الكاتب : ليالي الفرج

الصمت المُرّ
ليالي الفرج

صفاء فتاة يتيمة الأم في العقد الثاني من عمرها، هادئة، تحمل من الطيبة و نقاء القلب ما يكفي أن يقشع غيم الشتاء القاسي فتصفو السماء كصفحة نهر عذب..لم يكن لها وافر حظ في حياتها، فالعثرات أكثر من سنوات عمرها و سويعات الفرح أقل من عدد حروف اسمها.. غمرت الأحزان حياتها في وقت مبكر، ودون أن نتأمل كثيراً في ملامح حياتها ، سنلمحها لوحة مُعتمة رُسمت بفرشاة مَرَّرَتْ قواتم ألوانها يَمْنَةً و يَسْرة،لتبدو كلوحة من لوحات بيكاسو في مرحلته الزرقاء المتسمة برمزيتها لملامح الحزن و الوحشة، و يا لها من زُرْقَة.

ثلاثة أيام فقط تعانقت أنفاس المولودة صفاء بأنفاس والدتها في غرفة ضمت أم صفاء و هي ممتدَّة على السرير الأبيض و بجانبها مهد يحتضن ذلك الجسم الصغير تارة وتارة أخرى تضمه حاضنة مخصصة للأطفال في مستشفى الولادة..

أم صفاء لم تحتضن مولودتها بعد الولادة كبقية الأمهات، فبعد الولادة مباشرة، ابتلاها الله بنزيف حاد فشل الأطباء في إيقافه، وتشاء الأقدار أن تغادر هذه الدنيا تاركة مولودتها الوحيدة،لتصارع هذه الحياة وما فيها من أمواج القسوة والظلم التي تتقاذفها وتجرعها غصصاً مريرة.

لم يجد والد صفاء زوجة بديلة لأم صفاء سوى خلود احدى صديقاتها المُقربات، ظناً منه أنها ستجعل من علاقة الصداقة - التي كانت تربطها بزوجته – شفيعةً لرعاية طفلته بفيض من الحب و الحنان.

هذا الزوج لم يكن يعلم أن ثمة حسد و غيرة انغرسا في أعماق خلود نحو صديقتها الراحلة، و لم يكن القرب منها في حياتها سوى بحثاً عن تفاصيل وأسرار تلك الصديقة، بينما كانت نار الغيرة تشتعل كلما رأتها تنعم بوافر من السعادة و الانسجام مع زوجها.

كانت طبيعة عمله تفرض عليه الغياب عن البيت لفترة تُقارب الشهر..وذلك ساعد  كثيراً على غموض الصورة الحقيقية التي كانت تعيشها صفاء مع زوجة أبيها.

أما خلود فما زاد الأمر تعاسةً لدىها هو أنَّ ملامح أم صفاء كانت تلازمها طوال يومها، فصفاء حملت ملامح أمها و رَسْم جسمها، والصاعقة الكبرى أن نبرة صوتها لا تختلف البتة عن أمها

و كم  كانت خلود تستشيط غضباً من مجرد مرور طيف هذه الفتاة اليتيمة، فجمالها ورقّة صوتها كانا لا يتركان مجالاً للسَكينة في نفسها.

في غياب الأب تجعل منها الخادمة المنبوذة، ليس هذا فحسب، بل تتعمد اختلاق كل ما يعيق مسيرتها الدراسية،فكان الفشل حليفها إذ لم يشفع كل الذكاء الذي وهبها الله إياه من التمكن من إنهاء المرحلة الثانوية ، لينقشع حلمٌ توهج في سماء طموحها ، منذ صغرها كانت تترقب اليوم الذي تصبح فيه طبيبة أطفال بارعة، لكن القسوة والقهر و التسلط من زوجة أبيها أُسبغ عليها أصفاد الظلم ونير الإذلال، وجعلها أسيرة للأنانية الذميمة والسطوة العنيفة.

في إحدى الليالي الشتوية لم يثنها البرد القارص من التأهب لإعداد غرفة الضيوف ما بين تنسيق و ترتيب لوازم الضيافة، من فواكه و أصناف الحلويات و المشروبات الساخنة و الباردة..الليلة ذكرى ميلاد أختها الصغرى سوسن..صفاء لديها ثلاث أخوات من أبيها..كانت لهم المربية و المعلمة و الخادمة و الحارسة و الصديقة وقت الحاجة.

و في الجانب الآخر من الغرفة، تتكئ خلود على أريكة يرافقها الشيطان الرجيم في عالم أفكارها، يصول و يجول في عقلها الباطن المزدحم بأفكار الشر و الدمار لكل عاطفة حب و وئام.

عيناها تَتْبَع خطوات صفاء،لسان حالها يقول: يا لها من فاتنة! يا للقدَّ الممشوق! يا الهي ما لهذا الجمال يتوهج يوماً بعد يوم! عاماً بعد عام !،إلى متى و أنا أنتظر زوال هذا الهم من أعماقي، يا لك من فتاة مُتشبثة بحياتي، اخرجي من عالمي، لا أريد أن أتذكر أمك، إني أكرهك وأمك رغم موتها إلا أني ما زلت أراها تعيش بيننا.

كم كان بارعاً ذلك الشيطان في نسج خيوط شبكته الشيطانية .. فكرة جهنمية تسحق الضمائر و تغرس الخبث في القلوب .. نعم نجح في تصويب السهم القاتل لقلب الهدف .

 مروان، جارهم المنحرف مُندهش، لم يستوعب كيف لصفاء و بشكل مفاجئ أن تتبادل معه الحديث عبر التواصل المقروء، رغم أنه حاول مراراً و تكراراً أن يتقرب منها دون جدوى، الآن هي من تبادر بالتواصل و بشكل يومي، مُتخطيةً كل حواجز الخجل و القيم التي كانت متمسكة بها،ولم يكن استغرابه فقط من الكلمات العاطفية و التعبيرات الجريئة، بل كان متعجباً من إصرارها على أن يكون لقاؤهما في أحد الاستراحات النائية، ليتفقا على رسم مستقبلهما و الحياة التي ستجمعهما على حد تعبيرها. يا لها من ساذجة تحلم أن أتزوجها .. هكذا ردد مروان في قرارة نفسه.

جاء اليوم المرتقب، ولم يكن مروان إلا وحشاً بشرياً ينهش فريسته، و في تلك اللحظة الأليمة و بشكل مفاجئ  يدخل والد صفاء ليجد عفتها المعهودة لا أثر لها.

بعد فترة وجيزة من تلك الحادثة الأليمة مروان ترك البلاد متوجهاً لدولة غربية، و أسس له حياة جديدة هناك، واستقر فيها بعد زواجه من امرأة من تلك الدولة، ليحصل على جنسية ذلك البلد الذي اتخذه وطناً آخراً.

والد صفاء لم يتردد في تزويج صفاء من رجل يكبرها بخمسة وعشرين عاماً ليتخلص من عارها حسب نظرته.لم يتغير دورها كثيراً من كونها خادمة، لتصبح أيضاً ممرضة ترعى رجلاً لا يتمكن من تناول كأس الماء  بيديه دون مساعدة من كثرة الأمراض المزمنة التي يعاني منها .

خلود مازالت تلح على زوجها أن يلتقيا مع صفاء مجدداً لكنه يأبى رؤيتها أو مجرد الحديث معها،  فمنذُ أن زوّجها قسراً و أسوار القطيعة تعلو يوماً بعد يوم.

خلود: أتوسل إليك إلا سامحتها.. ليس لها أحد في هذه الحياة سواك.

الأب: لا تكرري هذا الحديث العقيم، فأنت على يقين أني لن أغفر لها ما دمتُ على قيد الحياة.

خلود:تجهش بالبكاء و ترتمي على أقدامه، ممسكةً بأطراف ثيابه، مرددةً: أرجوك..أرجوك..إن صفاء وحيدة، تحتاجنا جميعاً.

الأب: لم أنجب فتاة تُدعى صفاء، لا ترددي هذا الإسم أمامي، للمرة الأخيرة أُحذرك، و طوال التسعِ سنوات الماضية لم يرِقَّ قلبي لها لحظة،بل في كل يوم كنت أزداد غيظاً و كراهية لهذه المخلوقة،و إذا حاولتِ مجرد التفكير في زيارتها أو مهاتفتها دون علمي، فأنت طالق.

خلود في داخلها: يا إلهي سامحني..اغفر لي..كيف للشيطان أن سوّل لي انتحال شخصية صفاء و محادثة مروان عبر تلك الرسائل الملعونة و تشييد تلك العلاقة الوهمية القذرة!

يا لك من مسكينة يا صفاء، يا لقلبك النقي ، فبمجرد طلبت منك مرافقتي للاستراحة بحجة لقاء بعض الصديقات لم ترفضي و لم ترتابي رغم قسوتي الدائمة عليكِ.. تركتك في تلك الاستراحة الملعونة بحجة إحضار بعض الأغراض، و تركت الباب مفتوحاً لمروان بعد أن اتفقت معه على هذا اللقاء عبر مراسلاتي له و أنا مُنتحلة شخصيتكِ. ولم أتردد في إرسال رسالة عبر الهاتف المحمول لوالدك لأخبره بأنك تقضين أجمل الأوقات مع عشيقك، فكان ما كان.

خلود: يا الهي..هل أستمر في صمتي؟ يا له من صمت مُرّ.

فجأة ..يقطع حبل أفكارها صوت يناديها : خلود.. خلود حبيبتي .

 أريدك في أجمل حلَّة هذا المساء.. كوني جاهزة في تمام السابعة مساءاً.. قمتُ بحجز رحلة إلى جزر المالديف لنقضي فيها أسبوعاً بمناسبة ذكرى زواجنا، و لنحتفل بأجمل ذكرى يا أجمل نعمة في حياتي 


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


ليالي الفرج
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2013/02/01



كتابة تعليق لموضوع : الصمت المُرّ
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net