صفحة الكاتب : معمر حبار

يوسف العظيم
معمر حبار

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

عظمة سيدنا يوسف عليه السلام تعدّت صِدقه لتسري في سلوكه كله طيلة أحلك المراحل التي فُرضت عليه وأصعب الفترات . ويكفي أنه لم يُعرف عن سيدنا يوسف عليه السلام، أنه شتم إخوته حينما همّوا به ليلقوه في غياهب الجب وتلك عظمة منه، رغم أنه لم يبلغ الحُلم الذي يسمح له بالوقوف هذا الموقف.

 

ورغم أنه بِيع بثمن بخس دراهم معدودات كما تباع العبيد، واشتراه العزيز ليضمّه ضمن قافلة العبيد التي يملكها، لعلّه ينتفع به أو يتخذه ولدا، "وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَىٰ أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ"، يوسف – الآية 21، إلا أنه لم يستسلم للعبودية وأمسى السيد دون الأسياد، وملكا متوّجا دون التاج، ويعتق العبيد ويُكرمُ الأحرار.

 

وحينما راودته التي هو في بيتها، "وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ  قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ"،يوسف - الآية 23،  عاملها معاملة العظيم الذي لايخون سيده بالغيب، ولا يُشترى بجيفة ولو كانت سيدته التي أحسنت إليه وأكرمت مثواه، وتمنت أن تتخذه ولدا، لأنه لايُهدد بالمنع ولا يُغرى بالمنح ، فالعظيم رزقه في صدره، لايملكه إلا ربه الذي رباه على العظمة، ولا يمكن لأي كان أن يقتحم الضلوع، ليغري ويهدد مابداخلها.

 

وعظمته هي التي دفعته أن يرضى بالسجن مستقرا إلى حين تُعلنُ براءته من نفس النفس التي اشترطت السجن عقوبة له، لعله يرضى بما تهوى لكن هيهات، فالعظيم لايُباع ولا يشترى وهو الذي يملك صكّ شراء على أنه عبد، ولا يملك بعد صكّا على أنه حر، فكان بموقفه هذا نعم الحر والسيد العظيم.

 

وحينما دخل السجن، لم يكن كغيره من السجناء، بل ميّزته عظمته عن السّجين والسّجان، فنصح بما لم يعهدوه من فضل وخير، وطُلب منه الاستشارة وهو السّجين، فأشار بما هو أحسن للعباد والبلاد وبما هو أنفع وأحسن، فكان مثالا وقدوة في التنظيم والنظافة وسداد الرأي، ولم يستسلم لحظةً لسجنه و"عبوديته !"، بل استسلم له الجميع لما رأوا فيه من خصال العظماء.

 

وجاء اليوم الموعود، ليستشيره الملك في الحُلم الذي أقلق مضجعه وعكّر عليه ركائز كرسيه، "يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَّعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ"، يوسف - الآية 46، وهو الذي يملك ترسانة من المعبّرين والمفسرين، فالعظيم يُلجأ إليه في الشّدة والصعاب، وفعلا كان سيدنا يوسف عليه السلام عظيما، حينما لم يشترط لتفسيره الرؤيا دنيا زائلة، ولو طلب حق التفسير لجاءته الكنوز حبوا، فما كان له إلا أن فسّر وانصرف انصراف العظماء ، فأعجب صاحب التاج من المحتاج الذي لم يطلب حاجته عزّةً وتعففا.

 

طلبه الملك على الفور يستخلصه لنفسه،" وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَىٰ رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ  إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيم"، يوسف - الآية 50، وتلك منزلة لم يحلم بها أقرب المقرّبين إلى الملك، إذ بسيدنا يوسف عليه السلام، يجيب الساعي بما لم يتوقعه، فالعظيم ليس بحاجة إلى منزلة تضاف،فهو الرفعة التي يحلم بها الكبار، ويعدون أنفسهم لها.

 

 وفي خضم هذه الرفعة والنصر المبين، يسأل يوسف عليه السلام عن البياض الذي لُطخ، والصفاء الذي شُوه، والبراءة التي سُئلت بأي ذنب أُقبرت، والإخلاص لولي نعمته الذي اتهم بسببه وهو من هذا وذاك وتلك براء، "وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَىٰ رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ ۚإِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ"،يوسف - الآية 50، ولم يسأل عن غياهب السجن التي ألقي فيها، وظل فيه مظلوما سنين طوال، وزاد عليها الذي لم يذكره عند ربه " و َقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ"، يوسف - الآية 42.

 

وصُعق الملك حينما علم أن البراءة تُسجن في ملكه، والنظيف العفيف يقال له " وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ  إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ"،الأعراف - الآية 82، حينها يتدخل سيدنا يوسف عليه السلام، ويصفح عن التي كذبت وزوّرت ولطّخت، ويعفو عن الذي ألقاه في غياهب السجن، ويرفض كل أشكال الانتقام، وهو الذي عاد قائما مرفوعا، وأعطاه الملك مالم يعطي أحدا، فصدور العظماء لاتتسع لبغض ولا انتقام، ومن كان عظيما في سجنه وهو يُهَاجَم من كل زاوية وحين، كان أعظم في حريته وهو يُهَاجِم.

 

خرج من السجن وقد حوّله إلى مدرسة يستقيم فيه أعوج الأخلاق، ويصفو أعرج الصفات، ويبصر أعمى الفضائل، فتحسّر السّجان على فراق يوسف عليه السلام، وتمنى السّجين لو طال السجن رفقته لأيام أُخَر، لأنهم طيلة سنوات السجن، رأوا مالم يروه في الأحرار من نقاوة صدر وبياض يد وعلو في الأخلاق وصرامة في التفسير واعترافا بذي الفضل.

 

ودارت الأيام، وأمسى السّجين هو الملك فعلا، أليس هو الآن من يملك الرقاب، ويوزّع القوت على الملك وحاشيته، فكيف بمن دونه، فكان عظيما في التسيير والتوزيع، فلم يحاب أحدا على أحد، ولم يفضّل غني على فقير، ولم يأخذ ممن يستحق لمن لايستحق، فكان عادلا مع أهله، فلم يعطهم أكثر من النصيب المحدد لهم، "قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ"،يوسف - الآية 78، فقالوا جميعا كل محنة يديرها يوسف عليه السلام، فهي منحة لامحالة.

 

وبعد 4 عقود من الزمن، يلتقي بالأخوة الذين قالوا ذات يوم وهو الصبي الطري، "اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ"، يوسف - الآية 9، بل منذ قليل فقط، وبعدما قيل لهم،"قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَن جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ"،يوسف - الآية 72، اتهموه بالغيب وهم له منكرون، وكأن الزمن لم يتغيّر، والطّباع لم تتبدّل "قَالُوا إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنتُمْ شَرٌّ مَّكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ"، يوسف - الآية 77، فما كان من سيدنا يوسف عليه السلام، إلا أن سامحهم فيما ارتكبوا وأجرموا في حقه وحق الأب الذي " وَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَىٰ عَلَىٰ يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ"،يوسف - الآية  84 ، وقال في عزة وعظمة، "قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ"،يوسف - الآية 92، يعفو وخزائن الأرض بيديه، والبطون تسعى إليه، والرجال يضربون أكباد الإبل لينالوا الرغيف والرغيفين، والملك يتمنى وده ويرجو قربه، وكل يلهث باسمه.

 

هذه صورة من صور العظمة جسّدها سيدنا يوسف عليه السلام مع محبيه ومبغضيه، ومع من أعطاه ورباه، ومع حاسده ومن همّ بقتله وألقى به في غياهب الجب، وحينما كان أسيرا، وحين امسك بزمام العقول والبطون، وجاءه الملك طالبا وراجيا .. وصدق الله تعالى حين قال "وَكَذَٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ"،يوسف - الآية 56.


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


معمر حبار
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2012/10/16



كتابة تعليق لموضوع : يوسف العظيم
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net