صفحة الكاتب : د . مرتضى الشاوي

قراءة في قصيدة ( عتاب واعتذار ) لمنتظر السوادي
د . مرتضى الشاوي
    إنّ جمال النص الإبداعي في براعة مبدعه في توليد المعاني الجديدة وابتكار الأفضل مع خصب خياله الواسع ونضج أسلوبه المتنوع . 
      تتكون هذه القصيدة السردية من مقطعين منفصلين يصلح أنّ يكون كلّ مقطع قصيدة ، فكلّ مقطع يحملُ عنواناً يمثل عتبة رئيسة :
      الأولى : تشتمل على عنوان ( عتاب ) يمثل في مضمونه الدلالي السلبي الذي يرتكز على الملامة في مقابلة الآخر نتيجة تجريحه بالقول أو بالفعل أو بالموقف ، فلا يستطاب نفسياً واجتماعياً .
    إنّ العتاب بدلالته هو اللوم والملامة ومخاطبة الآخر في الإدلال طالباً حسن مراجعته ومذكراً إياه مما كرهه منه والعتاب لا يكون إلا عند رجاء رجوع الآخر عن الذنب والإساءة ، وهذه دلالة عنوان المقطع الأول من القصيدة .
المقطع الأول : 
     انّ عتبة النص بدأت بسردية تنطلق من بؤرة التلاقي في معرفة وجودية بين جنسين متجاذبين في مرحلة خاصة من حياتهما تبدو للمتلقي أنّها قصة حب واقعية قد حدثت بين اثنين ، قد تعارفا وتحابا ، ثم انفصلا ؛ بسبب اختباء المعشوقة ؛ لسبب مخفي لم يفصح عنه النص بوضوح قد تركه للمتلقي .
أنبنى النص دلالياً على عدة مضامين وجدانية وانفعالية منها :
1- علاقة الحب الذي وصلت إلى درجة العشق عند الطرف الأول ( العاشق ) عندما بلغ درجة اليأس في البحث عن  ( الآخر ) المعشوقة ، وهو في حالة من التقدم في العمر قد وصفها الشاعر بأنّ الحالة المأساوية قد كسرت عظامه وهدّت من حيله ، فأصبح لها صدى كالصلصال في صوته فكانت النتيجة غائية في حصول العشق في النهاية بعد عمر طويل : 
عشقها 
لما صلصل في عظامه اليأس
     لكنّ سبب ذلك العشق في حصوله هو في سرّ أناقتها البارزة وجمالها الطبيعي ، وقد رمز إليه بطريقة جذب الانتباه إلى تسريحة شعرها ولونه الذي يشبه لون النبيذ وفي هذا  إضفاء جانب حسي استفاد منه في تراسل الحواس بين : 
الشعر = اللون + الرقة + الانبهار
النبيذ  = اللون + الطعم + الثمالة
     وهي في عملها الجمالي قد بثّت من محاسنها جزأ لتصيّد قلب مرهف قد عانى مرارتين : مرارة الحزن في عمقه كعمق الجبّ ومرارة الغربة النفسية والجسدية في متاهات في مقاهي الابتعاد  .
أرسلت شعرها النبيذي 
من مقاهي الغربة عتقته 
وكأنّها في هذا العمل قد حررته من وضعه البائس وزرعت روح الأمل من جديد بعدما كان بعيش مقاهي الغربة النفسية وعمق ذلك الجب المملوء بالحزن طيلة حياته ، فصيّرته عاشقاً ، وهو في عشقه هذا مقيّد كالأسير تحت رحمة الآخذ به إلى موطن الأسر ، وهو في حالة ثمل قد وصل إلى حد السكر الذي بلغ هذا القدر بفعل نظرة رقيقة تشبه براءة طفلة قد استوطنت قلبه المتيم : 
من مقاهي الغربة عتقته
ثملاً اسيراً 
شرته بنظرة بريئة 
طفلة تستوطن قلبه 
   وسرعان ما تحولت روحه الشفافة الهائمة إلى دمية بيد المعشوقة ؛ لما قاساه في زمن الانتظار، وهو في ذلك يمثل حالة من حالات الافتداء أراد منها الإهداء أن يسقي فرحته في اللقاء الذي شبّه حبهما بوردة الياسمين الباسمة كالثغر المبتهج :
أهدى لها الروح دمية 
أفديك ...
لأسقي بسمة الياسمين 
             وعلى الرغم مما قدم لها من تضحية وفداء في سقي شجرة حبه الصادق الذي رمز إليها بالياسمين ؛ لما امتاز بلونه الأبيض وبدلالته على الصفاء والنقاء .
     لقد اختبأت فجأة عن حياته دون سبب لم يصرح منتج النص عن ذلك ، لكنّ ملامح النص تؤدي إلى نتيجة أنّها لا تكترث من وجوده فهو كالألعوبة في يدها متى ما انتهت رغبتها رمتها كما ترمي اللعبة !!!.
وفي ذلك الاختفاء غير المرئي الذي ألبسهما ثوب الهجر بالافتراق بلا عودة معلومة تصاعدت حدة التوتر في انهيار شخصية العاشق فازداد ألمه وضعف معه القلب ، فاشتد مرضه ، وأصابه شيء من الشلل في أطراف جسده نتيجة الصدمة فتصدع كلّ كيانه كما تصدع الزلازل الأرض :
اختبأت ...
اتسع ألمه حين مسّت ثوب الهجر 
ضعف القلب 
والرعشة تزلزل أطراف الجسد  
     ورغم الصدمة المفاجئة بابتعاد المعشوقة لم يفقد الأمل ، بل راحت أنامله تخط رسالة عتاب قد ضمنها من جمر الروح بعدما كانت دمية تداعبها  ليشعرها بأنّ البعد والهجر قد حول الروح إلى جمر من أجل العودة إلى أحضان المحبوب :
أنامله تخطّ جمر الروح 
رسالة عتاب 
أما المقطع الثاني فقد جاء استكمال للمقطع الأول بثوب جديد ، لا تشعر بطرفي المعادلة ( العاشق والمعشوق ) بوضوح بسبب انحسار الضمائر العائدة على الأخر إلا ما ندر من ضمير المخاطب ( آنت ) ، وكاف الخطاب في الجمل الدالة على الطلب .
لقد بني المقطع الثاني على عناصر رئيسة  نلتمس منه المضامين الوجدانية  : 
الأول : ديباجة سردية عن حالة الندم بشكل عام تأخذ أبعادها النفسية  في الكشف عن صورة الانهيار عند وصول رسالة العتاب  إلى المعشوقة .
    إذ وصف حالة الندم  ؛ لشدته  بآهاته  فتحوّل إلى صوت أنين مستعيناً بأسلوب التنكير- لا سيما -  في تنكير بعض المفردات الواقعة مسنداً مثلاً ( ندم ) قد امتد في الأفق وكأنّه وجه في ليل غليظ يحيل الليل بظلمته إلى زيت ويشعل قناديل الأمل للرجوع فيتحول رماد الأمل إلى كحل يساعد على الرؤية والتطلع في طرقات الانتظار رغم غشاوة الياسمين الذي سببته بالاختباء لكنّ فجر هذا الأمل بعيد كما يراه منتج النص .
ندمٌ يعصر وجه الأفق ليلاً غليظاً 
يعتق الليل زيتاً 
في قناديل الأمل 
رماد الأمل كحل 
على طرقات الانتظار 
يغشى  الياسمينا 
     قد تحوّل الندم إلى اعتذار بطريقة الأساليب الطلبية من نداء واستفهام  إستنكاري وأسلوب عرض برفق ولين رقيق للمسامحة والخضوع فيه تدلل وأسلوب أمر فيه توسل والتماس للعودة ولكنّ لا عودة ؛ لأنّ الفجر بعيد . وهذه الأساليب : 
الأسلوب الأول : أسلوب الاستفهام وقد تحقق بأداة واحدة وهي الهمزة واستعان بها الشاعر لرقتها ولخفتها وتحول معناها مجازياً إلى تأنيب الضمير كما في قوله :
الآهات تئن والفجر بعيد 
آلهجر سربال الحبيب ؟ 
والى معنى مجازي وهو تمنٍ للرجوع في قوله : 
أ تعود مع الندى الروح ؟ 
لتورق ياسمينة القلب 
الأسلوب الثاني : أسلوب النداء الذي تحقق  بأداة النداء ( يا ) بدلالتها على البعد يتناسب مع الهجران إلا أنّ حالة الندم قد أدت إلى الانكسار داخل النفس فنادته بصفات الألم واكتمال الحب :
يا شطر نفسي 
نبض الحياة ... توأم الروح 
الأسلوب الثالث : أسلوب العرض وهو الطلب برفق ولين من أجل أن يتحقق الاعتذار النفسي في الخطاب  النصي :
ألا تسمح عصفوراً يأكله الندم 
ألا ارحم من في صوتك يولد 
الأسلوب الرابع : أسلوب الأمر 
وفيه يتحقق الأمر المجازي في التوسل للاعتذار وطلب المسامحة في ضوء وظيفة طلب الالتماس من الآخر :
أنقذه بقبس أو بنظرة 
اسمك خاتم في حنايا الروح 
يدندن في الغسق  
تلك النظرة التي كانت من جانبها إشعاعاً لتغييره من حالة يائسة إلى حالة فرح وسرور هي الآن ترجوها لتكون قبساً من لدن العاشق لتعود من جديد ولا جديد قائم  ؛ لأنّ الفجر بعيد كما أفصح عنه النص ، ولم يبق منه شيء  للذكرى سوى الاسم كأنّه الخاتم في باطن الروح يتناغم خفية سلواً في زمن الظلام .
يضاف إلى محاسن القصيدة فنياً اشتمالها على المجازات الحسية وحركتها التفاعلية لجذب المتلقي نحوها ، فضلاً عن تنقلاتها السريعة في رسم المشاهد البيانية القائمة على التكثيف في الوصف وانتقاء المفردات   .
من المآخذ الأسلوبية :
1- انّ منتج النص له حضور في النص بالرغم من أن ّالنص يتحدث عن شخصيتين حسب توافر الضمائر كان عليه أن لا يظهر بشخصية الراوي  على الرغم من الاستفادة من تنقلات الضمائر بحسب ظاهرة الالتفات في العربية وقد برز في ( أهدى لها الروح دمية 
أفديك ...
لأسقي بسمة الياسمين ) 
وقد تحوّل فجأة من ضمير الغيبة المذكر( هو ) إلى المتكلم ( أنا ) مباشرة بالرغم من أنّ القصيدة قد بنيت على الغيبة بين المذكر والمؤنث لتكوين أبعاد الشخوص في تفاعلها القصصي  .
2- التحول المقطعي المفاجيء يسبب صدمة في عدم فهم النص بالرغم من وضوح مفرداته .
3- وردت مفردة ( الياسمينا ) مطلقة بالإلف القائمة ليس هناك ضرورة لإطلاقها  فتكتب ( الياسمين ) بلا إلف هو الأفضل  .
4- خفاء الأسباب الطبيعية في الاختباء الذي أدى إلى الهجران بسبب عدم التوازن العاطفي بين الطرفين .
5- لم يتحقق الاعتذار كلياً بالعودة الجسمانية لأنّ الفجر بعيد في الوصول  وإنّما جاء بحالة التأنيب النفسي في استنكار البعد وترك الآخر . 
 
 الإحالات : 
قصيدتي( عتاب واعتذار) لمنتظر السوادي
 
    1-عتاب
    عَشَقَهَا
    لَما صلصلَ في عظامِه اليأسُ
    أرسلت شَعرَها النبيذيّ
    اِلتقطته من جُبِّ الحزنِ
    من مقاهي الغربة عَتَقتْه
    ثملاً أسيراً .. شَرتْه بِنظرةٍ
    بريئة .. طفلة تستوطنُ قَلَبِه
    أهدى لها الروحَ دُميَةً
    أفديك ...
    لأسقي بَسمة الياسمينِ
    اختبأتْ ...
    أتسع ألمه حين مَسَّتْ ثوبَ الهَجرِ
    ضعف القلب والرعشةُ تُزَلزلُ
    أَطرَافَ الجسدِ
    أناملُه تخطُّ جَمرَ الروح
    رِسالةَ عتاب
 
   2- اعتذار
    ندمٌ يعصرُ وجهَ الأُفقِ ليلاً غَلِيظَا
    يُعتِقُ الليلَ زَيتَاً
    في قناديلَ الأَملِ
    رَمادُ الأَملِ كُحلٌ
    عَلَى طُرُقاتِ الانتظارِ
    يَغشى الياسمينا
    الآهَاتُ تَئِنُ والفَجرُ بَعيدٌ
    آلهجرُ سِربالُ الحبيبِ ؟
    يا شَطرَ نفسي
    نبضَ الحياة ... توأمَ الروحِ
    ألا تسامحُ عصفوراً يأكُلُهُ النَدَمُ
    ألا ارحمْ من في صَوتِكَ يُولَدُ
    أنقذه بقبسٍ أو بِنظرةٍ
    اسمك خاتمٌ في حنايا الروحِ
    يُدَندِنُ في الغسق
    أ تعودُ مع النَدى الرُّوحُ ؟
    لِتورقَ ياسمينةُ القَلبِ
 
    
 
 
 
 
 

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


د . مرتضى الشاوي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2012/08/01



كتابة تعليق لموضوع : قراءة في قصيدة ( عتاب واعتذار ) لمنتظر السوادي
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 

أحدث التعليقات إضافة (عدد : 1)


• (1) - كتب : منتظر السوادي ، في 2012/08/03 .

الشكر كل الشكر لحبيبي وأستاذي الغالي
الدكتور مرتضى الشاوي
حماك الله وحفظك وسدد خطاك




حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net