صفحة الكاتب : خديجة عبدالواحد ناصر

《ودائعٌ من وحي القرآن 》 <إمرأة رفضت المُلك و قصر المَلك >
خديجة عبدالواحد ناصر

 قال تعالى:{ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} التحريم: 11

كانت السيدة آسيا بنت مزاحم  في موقع السلطة العليا التي يملكها زوجها، فكانت في مقام الملكة لشعبها، وكانت الدنيا بكل زخارفها وزينتها وشهواتها ولذاتها، تحت قدميها، ولكنها رفضت ذلك كله عندما اكتشفت الإيمان بالله، وعاشت في خط العبودية له، وذاقت طعم مناجاته في حالة الخشوع الروحي والخضوع الجسدي في لحظات السجود الذي كان يرتفع بروحها إلى الدرجات العليا الروحانية في رحاب الله، فاحتقرت زوجها وملكه، وكل هؤلاء الخاضعين له، المتزلفين له، اللاهثين وراء ماله وسلطانه، ليحصلوا على شيء منهما، ورأت نفسها غريبةً بينهم، لأنها تعيش غربة الروح والفكر والشعور عن كل أوضاعهم وعاداتهم ومنطقهم الكافر، ونظرت إلى الدار الواسعة التي هي في رحابة القصور الملكية التي تحيط بها الجنائن النضرة وتجري الأنهار من تحتها، فشعرت بالاختناق الروحي فيها، فصرخت في ما يشبه الاستغاثة في خلوتها الروحية بين يدي الله الذي كانت تراه بعين إيمانها القلبي ...
سألت السيدة آسيا بنت مزاحم ربها ان يبني لها بيت في الجنة ، لأنه البيت الذي تعيش فيه في جنة رضوانه ، وتحسُّ فيه بسعادة الروح إلى جانب نعيم الجسد ، فلا تحس بأيّ حزنٍ مما يحسّ به الناس في الدنيا، لأنها لا تجد هناك أيّ حرمان يوحي بالألم أو بالحزن الداخلي، فهذا هو الحلم الكبير الذي تطلع من خلاله إلى السعادة المطلقة، فأنها الإنسانة التي تشعر بالتعاسة القاسية، في ما يشعر به الناس بالسعادة التي تلتقي عندها أحلامهم، وتشعر بالسعادة في ما لا يبالي فيه الناس في أفكارهم. 
وسألت ربها النجاة من فرعون في علوّه الاستكباري، وفي ظلمه للمستضعفين من الناس، وفي طغيانه على الحياة والحقيقة، وفي تمرّده على الله، فإنها لا تطيق الحياة معه، لأنها تتصوره كما يتصور الإنسان الوحش إذا أقبل عليه أو عاش معه. ولذا، فإنّ نجاتها منه هو  حلم حياتها الكبير وكذلك سألت ربها النجاة من القوم الظالمين ، الذين يمثلون المجتمع الفرعوني الذين يزينون له طغيانه وجبروته، ويضخمون له شخصيته، ويدعمون ظلمه واستكباره، ليكونوا قاعدة الظلم الذي يمارسه في ما يشرّعون له من قوانين، وفي ما ينفذونه من خططه ومشاريعه. 
وهكذا نجد في هذه المرأة المؤمنة التي عاشت في أعلى درجات السلم الاجتماعي، التي يضعف الأقوياء أمامها فيسقطون وتسقط معهم مبادئهم، المثال الحيّ للمرأة القويّة التي تجمعت فيها كل عناصر القوّة، من الروحية العالية، والإرادة الحديدية، والوعي العميق لكل خلفيات الواقع الفاسد الذي يحيط بها، لتعطي الدرس الكبير لكل الذين يتعلّلون في تبرير انحرافهم بالبيئة الفاسدة التي يعيشون فيها، فلا يملكون إلا الخضوع لضغوطها الشديدة، لتقول لهم بأنهم لم يبلغوا في انحراف مجتمعهم ما بلغه مجتمعها الخاص والعام من خطورة الانحراف، ولم يعيشوا في قلب الإغراء كما عاشت فيه، ولكن الفرق بينها وبينهم، أنهم عاشوا الانبهار بالواقع المحيط بهم، عندما استغرقوا فيه، فسقطوا في أوحاله، أمّا هي فقد ارتفعت بروحها وعقلها عنه، وحدّقت فيه تحديقة الإنسان الواعي الذي يريد أن يرى العمق الداخلي ليكتشف ما في داخله من أوساخٍ وأدران ونقاط ضعفٍ، ليتخذ موقفه من خلال وعي العمق، لا من خلال سذاجة السطح. 
وبذلك استطاعت أن تتجاوز الضعف الأنثوي، لترتفع إلى درجة القوة الإنسانية الإيمانية التي تتقدم فيها على الرجال في إرادتها القوية وقرارها الحاسم، لتكون أمثولةً للرجال والنساء من المؤمنين، ليرتفعوا إلى مواقع السموّ التي بلغتها من خلال الوعي الإيماني في شخصيتها الإنسانية.


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


خديجة عبدالواحد ناصر
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2023/03/23



كتابة تعليق لموضوع : 《ودائعٌ من وحي القرآن 》 <إمرأة رفضت المُلك و قصر المَلك >
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net