صفحة الكاتب : شعيب العاملي

(تسبيح فاطمة).. وشيعتها..
شعيب العاملي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

بسم الله الرحمن الرحيم
 
لقد حَذَفَ المخالفون اسم فاطمة الزهراء عليها السلام من التسبيح المعروف باسمها، وهو نِحلةٌ لها من رسول الله صلى الله عليه وآله.
 
وقد ذهبنا إلى أنَّهم تعمَّدوا الكذب والتشويش على هذا التسبيح، وأنَّهم نَقَلوه بصورٍ مختلفةٍ بعيدةٍ عن الواقع، حتى لا تُعرفَ حقيقته وكيفيته.
 
لكنَّ الباحث منهم قد ينظر في كتبنا فيرى فيها اختلافاً أيضاً في كيفيته، فيخاطبنا قائلاً:
 
لماذا تتَّهمون المخالفين لكم بتعمُّد الكذب على النبيِّ صلى الله عليه وآله، ومحاولة التشويش على (تسبيح فاطمة) عليها السلام؟
 
إذا كان السبب هو الاختلاف في نقل الرواية عند المخالفين لكم، سيَّما البخاري، فهذا الاختلاف لا يختصُّ بهم، بل إن رواياتكم أيها الشيعة أيضاً مختلفة في كيفية تسبيح فاطمة عليها السلام، فما بالكم تتَّهمون غيرَكم بما وقعتم فيه؟
 
لكنَّ المؤمن الفَطِنَ يعلمُ أنَّ هناك فرقاً فارقاً بيننا وبينهم، فيجيب من جهات:
 
الجهة الأولى: إجماعُ الشيعة على تقديم التكبير
إنَّ الشيعة الإمامية متَّفقون على أمرين:
 
الأمر الأول: هو كون التسبيحات مئة، لا يزيد عددها ولا ينقص.
 
الأمر الثاني: هو أنَّ التكبير مقدَّمٌ على التحميد والتسبيح.
 
فلو خالفَ أحدٌ هذين الأمرين لم يكن ملتزماً بتسبيح فاطمة عليها السلام.
 
أمّا المخالفون فلم يلتزموا بذلك، وقد تَقَدَّمت روايات البخاري بصيَغها الأربعة، ويُلاحظ عليها مخالفتها لهذين الأمرين:
 
1. أما الأول أي كونها مئة: فلأنه قد ورد في احدى الصيغ كون التسبيحات تسعاً وتسعين، وهي التي رجَّحها أبو هريرة برواية البخاري، لكونها ناظرةً إلى الاختلاف بين الروايات وحاكمةً عليها.
 
2. وأما الثاني أي تقديم التكبير: فلأنه ورد في صيغةٍ أخرى عندهم تأخير التكبير عن التحميد والتسبيح.
 
فخالفَوا بذلك إجماع الشيعة في المسألتين.
 
قال الشيخ المجلسي: ولا خلاف بيننا في أنها مائة، وفي تقديم التكبير(1)، وقال صاحب مفتاح الكرامة: ولا خلاف عندنا في أنّه يبدأ فيه بالتكبير(2).
 
لكنَّ القومَ ما اكتفوا بهذه الصيغ الأربعة، بل أضافوا لها صيغاً أخرى غريبة منها:
 
الصيغة الأولى: أن يكون المجموع ثلاثين تسبيحة فقط!
 
كما في صحيح البخاري، حيث روى رواية يكون مجموع التسبيحات فيها ثلاثين تسبيحة! ففيه: تسبحون في دبر كل صلاة عشراً وتحمدون عشراً وتكبرون عشراً(3).
 
الصيغة الثانية: أن يكون المجموع ثلاث وثلاثين تسبيحة فقط!
 
كما في صحيح مسلم، ففيه: احدى عشرة احدى عشرة، فجميع ذلك كله ثلاثة وثلاثون(4).
 
الصيغة الثالثة: أن ينقص من التسبيحات الثلاث ويزاد التهليل!
 
كما في الخبر الذي رواه الترمذي وصححه، ثم صححه الألباني، وفيه عن زيد:
 
أمرنا أن نسبح دبر كلّ صلاة ثلاثاً وثلاثين، ونحمده ثلاثاً وثلاثين، ونكبره أربعاً وثلاثين.
 
قال: فرأى رجلٌ من الأنصار في المنام، فقال: أمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن تسبحوا في دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين، وتحمدوا الله ثلاثاً وثلاثين، وتكبروا أربعا وثلاثين؟
 
قال: نعم!
 
قال: فاجعلوا خمساً وعشرين، واجعلوا التهليل معهن.
 
فغدا على النبي صلى الله عليه وسلم، فحدثه، فقال: افعلوا(5).
 
وهو يدلُّ على جعل كل واحدةٍ من التسبيحات خمساً وعشرين، مع إضافة التهليل ليكون المجموع مئة، وميزة هذا الحديث أنَّه ناظرٌ للصيغة المعروفة، ثم ينسب للنبي صلى الله عليه وآله أنه أمر بالصيغة الجديدة، وهو قريبٌ من خبر أبي هريرة، الذي كان ناظراً إلى الاختلاف بين الصحابة في التسبيح، وكان الترجيح فيه لتسعٍ وتسعين تسبيحة.
 
وبهذا يظهر أنَّ الاختلاف بين السنة ليس كالاختلاف بين الشيعة، فإنَّ السنَّة قد خالفوا الحقَّ وشوَّشوا على أصل العدد في التسبيح، فما اتفقوا على كونه مئة تسبيحة، ولا على كون التسبيحات ثلاثة (تكبيرٌ وتحميدٌ وتسبيح)، ولا على تقديم التكبير. وهو يؤكد ما تقدَّم من تعمُّدهم التشويش على التسبيح.
 
الجهة الثانية: الترتيب المعروف عند الشيعة
إنَّ المعروف والمشهور بين الشيعة هو أنَّ تسبيح الزهراء عليها السلام يبدأ بالتكبير (34 مرة)، ثم التحميد (33 مرة)، ثم التسبيح (33 مرة).
 
وفي هذا المعنى رواياتٌ عدَّة، صحيحة السند، صريحةٌ في الترتيب، منها صحيحة بن عذافر، التي ينقل فيها الراوي عن الصادق عليه السلام أنَّه قال:
 
(الله أَكْبَرُ) حَتَّى أَحْصَاهَا أَرْبَعاً وَثَلَاثِينَ مَرَّةً.
 
ثُمَّ قَالَ: (الحَمْدُ لله) حَتَّى بَلَغَ سَبْعاً وَسِتِّينَ.
 
ثُمَّ قَالَ: (سُبْحَانَ الله) حَتَّى بَلَغَ مِائَةً(6).
 
وقد رواها البرقي في المحاسن، والكليني في الكافي، ومثلها رواياتٌ أخرى مشهورة، عمل بمضمونها العلماء، وقد صرَّح بهذا الترتيب كثيرٌ منهم كالشيخ المفيد في المقنعة(7)، والشيخ الطوسي في المبسوط(8)، وغيرهما.
 
وصرَّحَ العلامة الحلي في المختلف بأن هذا الترتيب هو المشهور(9)، ومثله المجلسي في بحاره(10)، بل ذكر الحر العاملي أنَّ على هذا الترتيب: عَمَلُ الطَّائِفَةِ(11)، وقال صاحب الجواهر أنّ ما تقدَّم هو: المشهور بين الأصحاب شهرة عظيمة.. بل لا خلاف أجده في الفتاوى و النصوص عدا خبر العلل(12).
 
بهذا يتَّضح أنَّ الشيعة لم يختلفوا كاختلاف السنة فيه، رغم ذلك ورد في رواياتهم وكلمات علمائهم ما يظهر منه مخالفة المشهور.
 
الجهة الثالثة: هل اختلف الشيعة؟
يظهرُ من كلمات بعض العلماء ما يخالفُ المشهور في تسبيح فاطمة عليها السلام، ومن ذلك كلام الشيخ الصدوق، حيث قدَّمَ في الفقيه التسبيح على التحميد فقال:
 
وَسَبِّحْ تَسْبِيحَ فَاطِمَةَ الزَّهْرَاءِ عليها السلام، وَهِيَ أَرْبَعٌ وَثَلَاثُونَ تَكْبِيرَةً، وَثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ تَسْبِيحَةً، وَثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ تَحْمِيدَةً(13).
 
وقد استند في ذلك إلى روايةٍ أوردها في الفقيه والعلل.
 
وهذا القولُ لو تمَّ هو في الحقيقة تخييرٌ بين الصيغتين:
 
1. تكبيرٌ ثمَّ تحميدٌ ثمَّ تسبيحٌ كما هو المشهور.
 
2. تكبيرٌ ثمَّ تسبيحٌ ثمَّ تحميد.
 
ولكن، بعد ثبوت الترتيب المشهور بسندٍ صحيح، واعتضاده بروايات عدة، وعمل الأصحاب به، لا بدَّ من النظر فيما خالفه من روايات، وهي رواياتٌ عدة، نكتفي بذكر روايتين منها، وبها يتَّضح حال ما تبقى:
 
الرواية الأولى
روى الشيخ الصدوق في الفقيه فقال:
 
رُوِيَ أَنَّ أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ عليه السلام قَالَ لِرَجُلٍ مِنْ بَنِي سَعْدٍ: أَ لَا أُحَدِّثُكَ عَنِّي وَعَنْ فَاطِمَةَ الزَّهْرَاءِ؟
 
أَنَّهَا كَانَتْ عِنْدِي فَاسْتَقَتْ بِالْقِرْبَةِ حَتَّى أَثَّرَ فِي صَدْرِهَا، وَطَحَنَتْ بِالرَّحَى حَتَّى مَجِلَتْ يَدَاهَا، وَكَسَحَتِ الْبَيْتَ حَتَّى اغْبَرَّتْ ثِيَابُهَا، وَأَوْقَدَتْ تَحْتَ الْقِدْرِ حَتَّى دَكِنَتْ ثِيَابُهَا، فَأَصَابَهَا مِنْ ذَلِكَ ضُرٌّ شَدِيدٌ.
 
فَقُلْتُ لَهَا: لَوْ أَتَيْتِ أَبَاكِ فَسَأَلْتِهِ خَادِماً يَكْفِيكِ حَرَّ مَا أَنْتِ فِيهِ مِنْ هَذَا الْعَمَلِ.
 
فَأَتَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وآله فَوَجَدَت‏ عِنْدَهُ حُدَّاثاً فَاسْتَحْيَتْ، فَانْصَرَفَتْ.
 
فَعَلِمَ صلى الله عليه وآله أَنَّهَا قَدْ جَاءَتْ لِحَاجَةٍ، فَغَدَا عَلَيْنَا وَنَحْنُ فِي لِحَافِنَا، فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، فَسَكَتْنَا وَاسْتَحْيَيْنَا لِمَكَانِنَا.
 
ثُمَّ قَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، فَسَكَتْنَا!
 
ثُمَّ قَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، فَخَشِينَا إِنْ لَمْ نَرُدَّ عَلَيْهِ أَنْ يَنْصَرِفَ، وَقَدْ كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ فَيُسَلِّمُ ثَلَاثاً فَإِنْ أُذِنَ لَهُ وَإِلَّا انْصَرَفَ.
 
فَقُلْنَا: وَعَلَيْكَ السَّلَامُ يَا رَسُولَ الله، ادْخُلْ، فَدَخَلَ وَجَلَسَ عِنْدَ رُءُوسِنَا، ثُمَّ قَالَ: يَا فَاطِمَةُ، مَا كَانَتْ حَاجَتُكِ أَمْسِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ، فَخَشِيتُ إِنْ لَمْ نُجِبْهُ أَنْ يَقُومَ، فَأَخْرَجْتُ رَأْسِي فَقُلْتُ: أَنَا وَالله أُخْبِرُكَ يَا رَسُولَ الله، إِنَّهَا اسْتَقَتْ بِالْقِرْبَةِ حَتَّى أَثَّرَ فِي صَدْرِهَا، وَجَرَتْ بِالرَّحَى حَتَّى مَجِلَتْ يَدَاهَا، وَكَسَحَتِ الْبَيْتَ حَتَّى اغْبَرَّتْ ثِيَابُهَا، وَأَوْقَدَتْ تَحْتَ الْقِدْرِ حَتَّى دَكِنَتْ ثِيَابُهَا، فَقُلْتُ لَهَا: لَوْ أَتَيْتِ أَبَاكِ فَسَأَلْتِهِ خَادِماً يَكْفِيكِ حَرَّ مَا أَنْتِ فِيهِ مِنْ هَذَا الْعَمَلِ.
 
قَالَ: أَ فَلَا أُعَلِّمُكُمَا مَا هُوَ خَيْرٌ لَكُمَا مِنَ الْخَادِمِ؟
 
إِذَا أَخَذْتُمَا مَنَامَكُمَا فَكَبِّرَا أَرْبَعاً وَثَلَاثِينَ تَكْبِيرَةً، وَسَبِّحَا ثَلَاثاً وَثَلَاثِينَ تَسْبِيحَةً، وَاحْمَدَا ثَلَاثاً وَثَلَاثِينَ تَحْمِيدَةً.
 
فَأَخْرَجَتْ فَاطِمَةُ عليها السلام رَأْسَهَا وَقَالَتْ: رَضِيتُ عَنِ الله وَعَنْ رَسُولِهِ، رَضِيتُ عَنِ الله وَعَنْ رَسُولِهِ(14).
 
ويلاحظ على هذه الرواية:
 
أولاً: أنَّها عاميَّة، وليست من طُرُقنا. فلا يصحُّ الاستناد إليها في مقابل مروياتنا الصحيحة المعمول بها.
 
بل ذهب بعضهم إلى كونها موضوعة لتضمُّنها بعض الغرائب (15).
 
ثانياً: أنَّها ظاهرةٌ في هذا الترتيب وليست صريحةً فيه، وهو جليٌّ، وقد صرَّحَ به غيرُ واحدٍ من الأعلام، كالعلامة الحلي حيث قال: وهو يُشعِر بتقديم التسبيح على التحميد(16).
 
فإذا وُجِدَ المقتضي لحملِها على خلاف الظاهر لم يكن هناك ما يمنع من ذلك.
 
ثالثاً: أنَّ الشيخ قد ذكر الرواية نفسها في علل الشرائع بترتيبٍ مختلف، حيثُ ورد فيها: إِذَا أَخَذْتُمَا مَنَامَكُمَا فَسَبِّحَا ثَلَاثاً وَثَلَاثِينَ، وَاحْمَدَا ثَلَاثاً وَثَلَاثِينَ، وَكَبِّرَا أَرْبَعاً وَثَلَاثِين‏(17).
 
والحديثُ في حقيقته واحدٌ لا اثنان، فلئن كان يُحتملُ في الأحادث المختلفة الصادرة في وقائع مختلفة أن يختلف الترتيب فيها من باب التخيير، فإنَّ هذا الحديث ينقل واقعةً واحدةً محدَّدةً بصيغتين مختلفتين، وقد نقلهما الشيخ في كتابيه عن مصادر العامة لا عن مصادرنا.
 
لذا لا وجه لما ذكره الشيخ المجلسي بقوله: ويمكن الجمع بالقول بالتخيير مطلقاً(18) إن أراد به هذه الرواية بالخصوص، فالاختلافُ بين صيغتين حول حدثٍ واحدٍ لا يمكن حمله على التخيير.
 
وما في العلل يخالف ما عليه كلمة الشيعة جميعاً من تقديم التكبير، وأما ما في الفقيه فيخالف ما عليه مشهورهم من تقديم التحميد على فرض ظهور الرواية في الترتيب.
 
رابعاً: إن قيل: هذه روايةٌ خاصةٌ بوقت النوم، وقد يختلف حكم التسبيح بعد الصلاة عنه عند النوم.
 
قلنا:
 
تقابلُ هذه الرواية روايةٌ صحيحةٌ مختصَّةُ أيضاً بقراءة تسبيح الزهراء عليها السلام عند النوم، وهي ظاهرةٌ في الترتيب المشهور عندنا، وهي صحيحة هشام بن سالم: عَنْ أَبِي عَبْدِ الله عليه السلام قَالَ: تَسْبِيحُ فَاطِمَةَ الزَّهْرَاءِ عليها السلام: إِذَا أَخَذْتَ مَضْجَعَكَ فَكَبِّرِ الله أَرْبَعاً وَثَلَاثِينَ، وَاحْمَدْهُ ثَلَاثاً وَثَلَاثِينَ، وَسَبِّحْهُ ثَلَاثاً وَثَلَاثِينَ(19).
 
فإذا دلَّت الروايات المتقدِّمة الموافقة للمشهور على الترتيب صريحاً، لزمَ حملُ الروايات المخالفة لها على عدم إرادة الترتيب منها إن أمكن.
 
قال العلامة الحلي: ليس في الحديث تصريح بتقديم التسبيح على التحميد، أقصى ما في الباب أنّه قدّمه في الذكر، وذلك لا يدلّ على الترتيب، والعطف بالواو لا يدلّ عليه(20).
 
كما ذهب إلى عدم صراحتها الشيخ البهائي فقال: هذا ولا يخفى أن هذه الرواية غير صريحة في تقديم التسبيح على التحميد، فإن الواو لا تفيد الترتيب، وإنما هي لمطلق الجمع على الأصح كما بين في الأصول، نعم ظاهر التقديم اللفظي يقتضي ذلك(21).
 
ولما كان هناك روايةٌ صريحةٌ في تقديم التحميد لزم حملُ هذه الرواية عليها، فقال البهائي: فتحمل الرواية الأخرى (أي هذه التي نتحدث عنها) على خلاف ظاهر لفظها ليرتفع التنافي بينهما(22).
 
وكذا فعل الحر العاملي فقال عن الروايات التي تقدَّم فيها التسبيح بالعطف: الْوَاوُ لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ كَمَا تُقُرِّرَ فَيَجِبُ حَمْلُهُ هُنَا عَلَى تَقْدِيمِ التَّحْمِيدِ عَلَى التَّسْبِيحِ كَمَا مَرَّ، وَعَلَيْهِ عَمَلُ الطَّائِفَةِ(23).
 
من ثمَّ احتمل المجلسي الأول أن لا يكون الشيخ الصدوق أيضاً ناظراً إلى الترتيب بل لذكر التسبيحات بغض النظر عن ترتيبها، فقال: الظاهر أن مراد الصدوق بالواو الترتيب، وإن احتمل أن يكون مراده مطلق الجمع لئلا يكون مخالفاً للأخبار مثل ما رواه الكليني والشيخ في الصحيح(24).
 
وبهذا يظهر أنَّ الرواية غير ناهضة لإثبات التخيير، بل يحتمل أن لا يكون الشيخ الصدوق أيضاً قائلاً بالتخيير.
 
الرواية الثانية
وهي رواية ابن فرقد، أنَّ شِهَابَ بْنَ عَبْدِ رَبِّهِ سَأَلَهُ أَنْ يَسْأَلَ أَبَا عَبْدِ الله عليه السلام وَقَالَ‏: قُلْ لَهُ إِنَّ امْرَأَةً تُفْزِعُنِي فِي المَنَامِ بِاللَّيْلِ.
 
فَقَالَ: قُلْ لَهُ: اجْعَلْ مِسْبَاحاً وَكَبِّرِ الله أَرْبَعاً وَثَلَاثِينَ تَكْبِيرَةً، وَسَبِّحِ الله ثَلَاثاً وَثَلَاثِينَ تَسْبِيحَةً، وَاحْمَدِ الله ثَلَاثاً وَثَلَاثِينَ(25)..
 
قال الشيخ المجلسي الأول بعد رواية الترتيب المشهور ثم هذه الرواية: وكلا الطريقين جائزٌ عند المنام جمعاً بين الأخبار، ويمكن حمل الطريق الثاني على التقية(26).
 
ويُلاحَظ على كلامه:
 
أنَّه لا كلام في جواز كلا الترتيبين، فالذِّكرُ مستحبٌّ بأيِّ صيغة اتَّفَق، ولَم يناقش أحدٌ في ذلك. وهذا الشيخ الطوسي القائل بالترتيب الذي عليه المشهور يقول: وفي أصحابنا من قدم التسبيح على التحميد، وكل ذلك جائز(27).
 
لكنَّ الكلام في أنَّ التسبيح الخاص الذي صار يُعرفُ ب(تسبيح فاطمة عليها السلام) هل له ترتيبٌ مخصوص هو المشهور المعروف؟
 
أم أنَّهُ يتحقَّق ويحصل الغرض منه ويترتب الثواب الخاص به بالإتيان بالتسبيحات المائة بأي ترتيب اتَّفَق؟
 
إنَّ مقتضى القاعدة هو ترتُّبُ الأثر الخاص عند الاتيان به بالصيغة الواردة فقط، وهي الصيغة المشهورة، وإن احتمل بعض العلماء التخيير في تقديم التسبيح على التحميد أو العكس، ومنهم المجلسي كما تقدم، والحر العاملي حيث أشار إلى أن أحد الوجوه هو: لِلْإِشَارَةِ إِلَى الجَوَازِ وَعَدَمِ وُجُوبِ التَّرْتِيبِ، فَيَرْجِعُ إِلَى التَّخْيِيرِ(28)، وصاحب الحدائق(29)، وردَّه صاحب مفتاح الكرامة بأنٍّه لا قائل به(30)، فإنَّهم وإن احتملوه إلا أن أحداً لم يقل به.
 
فما الحقُّ في ذلك؟ وكيف تعامَلُ الروايات المختلفة؟ هل تُحمَل على التخيير أم على التقيَّة؟
 
لقد احتمل المجلسي الأول إمكان حمل الرواية الثانية التي تخالف المشهور على التقيَّة، وقد تقدَّم كلامه، أشار أيضاً إلى هذا الوجه الحر العاملي(31).
 
لكن صاحب الحدائق ترقَّى في ذلك، فمنع من الحمل على التخيير تأسيساً، بمعنى أنه ما ارتضى كون التسبيح قد ورد على سبيل التخيير، وإن كان يجوز الاتيان بهذه التسبيحات على أيِّ نحوٍ بلا خلاف، لكنَّه عند مخالفته للمنصوص لا يكون مصداقاً لتسبيح فاطمة عليها السلام.
 
فإمَّا أن تكون النصوص المخالفة للمشهور غير صريحةٍ في الترتيب، فتُحمَل على الترتيب الموافق للمشهور، أو تُحمَل على التقية، لموافقتها للعامة.
 
قال صاحب الحدائق: لما كان القول المشهور بين الطائفة المعتضد بالأخبار المتقدمة هو تقديم التكبير ثم التحميد ثم التسبيح، فلو سلمنا صراحة المخالف في المخالفة فالظاهر انه لا محمل له إلا التقية لموافقته لرواياتهم، ولا سيما ان طريق الخبر المذكور رجالهم(32).
 
فإنَّه لم يجد لهذه الروايات المخالفة للمشهور محملاً إلا التقية.
 
وقد رجَّحَ صاحب مفتاح الكرامة هذا الوجه، فقال: وأمّا الروايات الاخر الدالّة على تقديم التسبيح في حال النوم كما في خبر علي وفاطمة عليهما السلام، وكذا خبر شهاب، أو تعقيب الصلاة كما في خبر المفضّل، فيمكن حملها على التقية. ويؤيّده أنّ حديث علي وفاطمة عليهما السلام وإن رواه في الفقيه مرسلًا، إلّا أنّ ظاهر سنده في العلل أنّ رجاله إنّما هم من العامّة(33).
 
ولم يستبعد ذلك الشيخ موسى كاشف الغطاء حيث قال: ولو حملت على التقية لم يكن بعيداً(34).
 
بناء على هذا يكون الراجح حملُ الروايات المخالفة للمشهور على التقيَّة، وكذا حملُ كلمات العلماء الذين لم يذكروا الترتيب المشهور على عدم إرادتهم الترتيب، بل على ذكر التسبيحات بغض النظر عن ترتيبها، كما احتمل بعضُ العلماء كصاحب الجواهر حين قال: بل لعلهم جميعاً لا يريدون الترتيب، بل مطلق الجمع الذي لا ينافيه(35).
 
وعلى كلِّ تقدير، فإنَّه مع عدم ثبوت التخيير، وكون صريح الأخبار الموافقة للمشهور دالةً على الترتيب، تصل النوبة إلى الترجيح بين الطائفتين، فترجح الروايات الموافقة للمشهور.
 
قال صاحب الجواهر: وترجح بالشهرة فتوى وعملاً، وبقوة الدلالة، ضرورة أنه ليس في أخبار الخصم كخبر أبي بصير، كما أنه ليس فيها كصحيح ابن عذافر سنداً(36).
 
فمن وجوه أقوائية ما عمل به المشهور:
 
1. شهرته في الفتوى، بل تقدَّم أن أحداً لم يفتِ صريحاً بخلافه.
 
2. شهرته في العمل، وهو واضحٌ بين علماء الشيعة وعوامهم.
 
3. صحة وصراحة الروايات الدالة على الترتيب، بخلاف سائر الروايات فليس فيها شيءٌ صريحُ الدلالة على ذلك.
 
فإذا ضُمَّ إلى ذلك ما يشهد بتلاعُب القوم بالتسبيح، ومنه:
 
1. اختلاف الرواية المنقولة عن المخالفين بين الفقيه والعلل، وذلك من جهة الترتيب، مع وحدة الواقعة.
 
2. رواية البخاري لأربع نصوصٍ لا يتَّفق منها اثنان في الترتيب، بل روايته لما يُقتَصَرُ فيه على ثلاثين تسبيحة، ورواية غيره ما يقتصر فيه على ثلاثٍ وثلاثين، أو جعل كل تسبيحة خمساً وعشرين مع إضافة التهليل.
 
3. ترجيح أبي هريرة في البخاري للترتيب الذي ينقص من التسبيحات واحدة، فيخالف إجماع الشيعة، ويجعل التكبير مؤخراً لا مقدَّماً، فيخالف إجماعهم ثانية، ونسبة ذلك إلى النبي صلى الله عليه وآله(37).
 
كلُّ هذا يجعل احتمال الكذب عند القوم راجحاً، بل متعيِّناً، ويُرجِّحُ حمل الروايات المخالفة للمشهور عندنا على التقية، بل يعيِّنُه.
 
وعلى هذا يكون القدرُ المتيقَّن مما يحصل به الثواب المخصوص لتسبيح فاطمة الزهراء عليها السلام هو الكيفية المشهورة المعروفة المعمول بها بين الشيعة، سيَّما أنَّ: المقطوع به اتحاد كيفية تسبيح الزهراء عليها السلام(38)، وإن لم يحرُم غيرها.
 
ثمَّ إنَّه على فرض عدم تمامية شيء ممّا تقدَّم، وثبوت التخيير في رواياتنا، فإنَّه مقتصرٌ على التخيير بين التحميد والتسبيح، مع الاتفاق على تقديم التكبير عليهما، لكنَّ عدَّة صيغٍ من الصيغ التي أوردها البخاري وغيره لا توافق إجماع الشيعة، فيثبت بذلك تعمُّده أو رواة العامة التشويش على تسبيح فاطمة، كما تقدَّم.
 
هذا وقد احتمل صاحب الجواهر التخيير في الاتيان بالتحميد أو التسبيح بعد التكبير، بناءً على أنَّ بعض النصوص قد خصَّت التكبير بالتقدُّم، وقد خالف العامَّةُ في ذلك، فيكون ما خالف العامة هو الحق، وهو تقديم التكبير عليهما، سواء أعقبه التحميد كما هو المشهور أو أعقبه التسبيح كما هو ظاهرُ بعض الروايات.
 
وعلى هذا الوجه أيضاً لا يسلَمُ العامة من الإشكال، لأنَّهم خالفوا النبي صلى الله عليه وآله حتى في هذا المقدار، الذي لا بدَّ معه من تقديم التكبير.
 
وعلى هذا الوجه تكون الروايات الصريحة في الترتيب عندنا دالةً على الأفضلية، كما قال صاحب الجواهر: لإمكان إرادة أفضل الأفراد منه كما هو الشأن في غير المقام من مطلق المستحبات ومقيدها(39).
 
وعليه تُحمَل بعضُ النصوص الأخرى التي وردت فيها التسبيحات على على خلاف الصيغة المعروفة، كزيارة السيدة المعصومة عليها السلام المروية عن الإمام الرضا عليه السلام: فَإِذَا أَتَيْتَ الْقَبْرَ فَقُمْ عِنْدَ رَأْسِهَا مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ، وَكَبِّرْ أَرْبَعاً وَثَلَاثِينَ تَكْبِيرَةً، وَسَبِّحْ ثَلَاثاً وَثَلَاثِينَ تَسْبِيحَةً، وَاحْمَدِ الله ثَلَاثاً وَثَلَاثِينَ تَحْمِيدَةً، ثُمَّ قُلِ: السَّلَامُ عَلَى آدَمَ صَفْوَةِ الله(40).
 
النتيجة والثمرة
من الواضح أنَّ الاختلاف في الروايات عند الشيعة مقصورٌ على صورةٍ خاصة، بحيث يكون ما خالفَ المشهورُ منها محمولاً على التقيَّة، أو على التخيير في هذه الصورة.
 
وبهذا فإنَّ الشيعة وحدَهم هم من عرفوا قدر تسبيح الزهراء عليها السلام، والتزموا به دائماً، وحافظوا على صورته كما هو، فيما ضيَّعَهُ غيرهم، وكانت أسباب التضييع نسبته للزهراء عليها السلام، فصار المتلاعبون به مصاديق الحديث الشريف: إِنَّ النَّاسَ لَيْسَ شَيْ‏ءٌ أَبْغَضَ إِلَيْهِمْ مِنْ ذِكْرِ عَلِيٍّ وَفَاطِمَةَ عليهما السلام(41).
 
وبأحاديثهم المكذوبة غُيِّبَ تسبيحُ فاطمة الزهراء عليها السلام عن المسلمين، ولم يواظب عليه أحدٌ كما فعل الشيعة.
 
ولا عجب أن تُحرَمَ الأمَّة بركات هذا التسبيح، فإنَّها بظُلمِها لآل محمدٍ حُرِمَت رحمةَ الله تعالى، وهي مستحقِّةٌ لذلك، بقبيح فِعالِها، وتقديمها الأجلاف القُساة على الأطهار الأبرار.
 
والحمد لله رب العالمين(42).
 
 
المصادر
 
(1) بحار الأنوار ج‏82 ص336.
 
(2) مفتاح الكرامة في شرح قواعد العلامة ج‌7 ص609.
 
(3) صحيح البخاري ج٦ ص١٥١.
 
(4) صحيح مسلم ج٢ ص٩٨.
 
(5) سنن الترمذي حديث3413.
 
(6) المحاسن ج‏1 ص36، والكافي ج‏3 ص342.
 
(7) المقنعة ص114.
 
(8) المبسوط في فقه الإمامية ج‌1 ص117.
 
(9) مختلف الشيعة في أحكام الشريعة ج‌2 ص182.
 
(10) قال أنه: أشهر وأقوى (بحار الأنوار ج‏82 ص336).
 
(11) وسائل الشيعة ج‌6 ص445‌.
 
(12) جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام ج‌10 ص399.
 
(13) من لا يحضره الفقيه ج‏1 ص320.
 
(14) من لا يحضره الفقيه ج‏1 ص320-321.
 
(15) يراجع هامش بحار الأنوار ج‏82 ص338.
 
(16) مختلف الشيعة في أحكام الشريعة ج‌2 ص183‌.
 
(17) علل الشرائع ج‏2 ص366.
 
(18) بحار الأنوار ج‏82 ص340.
 
(19) الكافي ج‏2 ص536.
 
(20) مختلف الشيعة في أحكام الشريعة ج‌2 ص185.
 
(21) مفتاح الفلاح في عمل اليوم والليلة ص278‌.
 
(22) مفتاح الفلاح في عمل اليوم والليلة ص279‌.
 
(23) وسائل الشيعة ج‌6 ص445‌.
 
(24) روضة المتقين في شرح من لا يحضره الفقيه ج‏2 ص363.
 
(25) الكافي ج‏2 ص537.
 
(26) روضة المتقين في شرح من لا يحضره الفقيه ج‌2 ص670‌.
 
(27) المبسوط في فقه الإمامية ج‌1 ص117‌.
 
(28) وسائل الشيعة ج‌6 ص446‌.
 
(29) الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة ج‌8 ص522‌.
 
(30) مفتاح الكرامة في شرح قواعد العلامة ج‌7 ص614‌.
 
(31) وسائل الشيعة ج‌6 ص446‌، وهداية الأمة إلى أحكام الأئمة - منتخب المسائل ج3 ص188‌.
 
(32) الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة ج‌8 ص523‌.
 
(33) مفتاح الكرامة في شرح قواعد العلامة ج‌7 ص613‌.
 
(34) منية الراغب في شرح بلغة الطالب ص312‌.
 
(35) جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام ج‌10 ص400.
 
(36) جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام ج‌10 ص401.
 
(37) صحيح البخاري ج1 ص205.
 
(38) جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام ج‌10 ص402.
 
(39) جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام ج‌10 ص403‌.
 
(40) بحار الأنوار ج‏99 ص266.
 
(41) الكافي ج‏8 ص159.
 
(42) الثلاثاء الخامس من ربيع الثاني 1444 هـ، الموافق 1 - 11 - 2022م


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


شعيب العاملي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2022/11/01



كتابة تعليق لموضوع : (تسبيح فاطمة).. وشيعتها..
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net