صفحة الكاتب : الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي

ما أقربَ الموت !
الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

بسم الله الرحمن الرحيم

لَا غَائِبَ أَقْرَبُ مِنَ الْمَوْتِ !

عِبارَةٌ لأمير المؤمنين عليه السلام تَهُزُّ وجدان المؤمن، وتبعَثُهُ على العَمَلِ لآخرته، فليس الموت بعيداً عَنهُ بحال، بل هو أقرَبُ الغائبين !

ولكن..
كيف يكون الغائبُ قريباً ؟! بل كيف يكون الموتُ أقرَبَ مِن كلِّ غائبٍ؟

هل لكونه لا مفرَّ منه بحال ؟!
أم لأنَّهُ مَجهول الوقت فينتظره المؤمن كُلَّ آن ؟!
أم لأنَّهُ يشبه الساعة فيأتي كلمح البصر أو هو أقرب ؟!

إنَّ الذي يعرفُ حقيقة الأمر هو الذي قال: لَوْ كُشِفَ الْغِطَاءُ مَا ازْدَدْتُ يَقِيناً !

ولكن..
يا عَليُّ.. ماذا سنرى نَحنُ لو كُشِفَ لنا الغطاء ؟!
كيف سنرى حال الأموات؟! وكيف يُغادِرُنا هؤلاء من هذه الدّنيا إلى جوار الله ؟!

يقول عليٌّ عليه السلام:
فَغَيْرُ مَوْصُوفٍ مَا نَزَلَ بِهِمْ !

يظنُّ القارئ لكلامه عليه السلام أنَّ وَصفَ الموت ممتنعٌ، ثمَّ يذهل من وصفه عليه السلام لما يجري على الميت !
وليس الخبر كالعيان، إلا عند عليٍّ عليه السلام والكُمَّل من المؤمنين..

يصف عليه السلام حال الموتى فيقول:
اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِمْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ وَحَسْرَةُ الْفَوْتِ !

أما سكرة الموت.. فقوله تعالى: (وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحيدُ) (ق19)
وأما حسرة الفوت.. فقوله تعالى: (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى‏ عَلى‏ ما فَرَّطْتُ في‏ جَنْبِ الله) (الزمر56).

إنَّ اجتماع هذين الأمرين عَجيبٌ..
فسَكرَةُ الموت تعني أنَّ الإنسان يصيرُ مذهولاً كالسَّكران..
وحسرة الفَوت تعني أنَّه مُدرِكٌ لما حوله مُتَحَسِّرٌ على ما فَرَّط في جنب الله.

إنَّ تَركَ كلِّ طاعة يبعثُ على الحسرة، وارتكاب كلِّ معصيةٍ يزيدُ منها، لكنَّ أكثرَ ما يبعثُ على الحسرة هو تَركُ أعظم الطاعات، موالاة أولياء الله، فقد قال الصادق عليه السلام في قوله تعالى: (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى‏ عَلى‏ ما فَرَّطْتُ في‏ جَنْبِ الله): نَحْنُ جَنْبُ اللَّه‏ (تفسير القمي ج‏2 ص251).

التَّفريط فيهم هو تَفريطٌ في الاعتقاد بولايتهم، وفي البراءة من أعدائهم، وفي اتِّباع أمرِهم وطاعتهم، والاقتداء بهم والاهتداء بهديهم، وفي إحياء أمرهم، وزيارة مراقدهم وتَعاهُدها.. والإحسان إلى أوليائهم.. وكلِّ أعمال البرِّ التي أرشدوا الناس إليها..

عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا..: مَنْ سَرَّهُ أَنْ.. تَهُونَ عَلَيْهِ سَكْرَةُ الْمَوْتِ، وَهَوْلُ الْمُطَّلَعِ، فَلْيُكْثِرْ زِيَارَةَ قَبْرِ الْحُسَيْنِ ع (كامل الزيارات ص150).

إنَّ أشدَّ الناس حَسرَةً في ساعة الموت مَن أعرَضَ عن آل محمدٍ عقيدةً وزيارةً، فمَن ترك زيارة الحسين عليه السلام رغبةً عنه وزهداً فيه كان له: الْحَسْرَةُ يَوْمَ الْحَسْرَةِ (كامل الزيارات ص123).

إنَّها مُعادَلَةٌ: أحَدُ طرفيها آل محمد، والطَّرَفُ الآخر الدُّنيا بأسرها، بزخرفها وزبرجها..
فعن الصادق عليه السلام:
إِنَّهُ مَنْ آثَرَ الدُّنْيَا عَلَيْنَا عَظُمَتْ حَسْرَتُهُ غَدا (تحف العقول ص121).

فإما أن يؤثر العبدُ الدّنيا فيكون من أهل الحسرة، أو يؤثر آل محمدٍ على الدّنيا فيجدهم ساعة موته: وَيُمَثَّلُ لَهُ رَسُولُ الله (ص)‏ وَأَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ وَفَاطِمَةُ وَالْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ وَالْأَئِمَّةُ مِنْ ذُرِّيَّتِهِمْ (ع) (الكافي ج‏3 ص127).

إنَّها الحَسرَةُ لِمَن أعرَضَ عنهم..

يُكمِلُ أميرُ المؤمنين عليه السلام وصفَه لحال الموت ببيانٍ عَجيبٍ، يُبيِّنُ فيه أنَّ الميّت يمرُّ بمراحل ثلاثة:

أولاً: سَلبُ النُّطق !

يقول عليه السلام: فَفَتَرَتْ لَهَا أَطْرَافُهُمْ وَتَغَيَّرَتْ لَهَا أَلْوَانُهُمْ، ثُمَّ ازْدَادَ الْمَوْتُ فِيهِمْ وُلُوجاً فَحِيلَ بَيْنَ أَحَدِهِمْ وَ بَيْنَ مَنْطِقِهِ !

تبدأ أطرافُ الإنسان بالتغيُّر والبرود، وهو لا يزال حياً، يزداد الموت فيه (وُلُوجاً)، كيف ذلك وما من أحدٍ يرى شيئاً إلا الأثر ؟! ههنا تظهرُ عظمة الله تعالى وقدرته وجبروته..

يؤثرُ الموت على ابن آدم في جهاتٍ دون أخرى، يقول عليه السلام عن ذلك:

وَإِنَّهُ لَبَيْنَ أَهْلِهِ يَنْظُرُ بِبَصَرِهِ، وَيَسْمَعُ بِأُذُنِهِ، عَلَى صِحَّةٍ مِنْ عَقْلِهِ، وَبَقَاءٍ مِنْ لُبِّهِ: في هذه المرحلة يفقد الإنسان القدرة على الكلام، لكنَّه لا يزال مبصراً مستمعاً، سالم العقل، مستذكراً لما جرى عليه في حياته.

ثم تبدأ محاكَمَةُ الذات، قبل مُحاكمة ربِّ العباد..
يُفَكِّرُ فِيمَ أَفْنَى عُمُرَهُ، وَفِيمَ أَذْهَبَ دَهْرَه: يتذكَّرُ كلُّ إنسانٍ ما جَنَت يداه تلك الساعة، وما احتَمَلَ مِن أوزارٍ في الدُّنيا، وما لَزِمَهُ من تَبِعاتها، فلطالما أجهَدَ نفسه في جَمع ما ترك، فصار: الْمَهْنَأُ لِغَيْرِهِ وَالْعِبْ‏ءُ عَلَى ظَهْرِهِ !

هي لَحَظاتٌ قد ينظُرُ فيها الأحباب للميت فلا يعلمون ما يجري معه.. ولا يحيطون عِلماً بما يجول في فكره، ولا يُدركون حالَةَ الندامة هذه، حتى أنَّه يتمنى أن حُسَّاَدَهُ قد حازوا ما كان بيده دونَه !

أيُّ معادَلَةٍ هذه ؟!
لم يخرُج ابن آدم من الدّنيا حتى تمنى لو أنَّه لم يكن في يديه شيء منها !
وأنَّ ما كان يحجبُه عن غيره ويحسده سواه عليه كان لذلك الحاسد لا له !
لقد صارَ زاهداً بكلِّ ما سعى إليه في حياته.. ولكنَّ أهلَ الزُّهد حقاً أعرضوا عن الدّنيا عند المقدرة، وهذا يُعرضُ عنها عند العجز عن تناولها !

ثانياً: سَلبُ السَّمع !

فَلَمْ يَزَلِ الْمَوْتُ يُبَالِغُ فِي جَسَدِهِ حَتَّى خَالَطَ لِسَانُهُ سَمْعَهُ: مرحلةٌ جديدةٌ ينتقلُ إليها ابن آدم.. فَقَدَ حاسة النُّطق أولاً، ولكنَّه كان يسمَع ما يدورُ حولَه، لكنَّه في هذه المرحلة يفقدُ القدرة على السمع أيضاً.

فَصَارَ بَيْنَ أَهْلِهِ لَا يَنْطِقُ بِلِسَانِهِ، وَلَا يَسْمَعُ بِسَمْعِهِ، يُرَدِّدُ طَرْفَهُ بِالنَّظَرِ فِي وُجُوهِهِمْ ! يَرَى حَرَكَاتِ أَلْسِنَتِهِمْ وَلَا يَسْمَعُ رَجْعَ كَلَامِهِمْ !

لم يبق إلا النَّظَر.. هذه العين التي كانت أقلَّ شيء شُكراً في الدُّنيا قد طال بقاؤها شيئاً يسيراً بعد السمع والبصر.
لقد قال الصادق عليه السلام: لَا تُعْطُوا الْعَيْنَ حَظَّهَا مِنَ النَّوْمِ فَإِنَّهَا أَقَلُّ شَيْ‏ءٍ شُكْراً (إرشاد القلوب ج‏1 ص93).

تأخذُ العينُ اليومَ حَظَّها من وداع الأحباب.. تنظُرُ إليهم يتكلَّمون.. نظراً مفتقراً إلى السمع.. فأيُّ حال هو هذا ؟

لطالما نامت هذه العينُ عن أداء الواجبات، وحَرَمَت سائر الجوارح من التقرُّبِ إلى الله تعالى.. فكانت أشدَّهم حسرةً.. حينما بَقيَت في ميدان الوداع وحدَها! تُوَدِّع الأهل والأحباب والأقارب.. لا مِن سَمعٍ ولا نُطقٍ.. ينظر إليهم المحتضرُ فلا يسمع كلامهم كأنهم يتهامسون !

ثالثاً: قَبضُ البَصَر ! وخروج الروح !

ثُمَّ ازْدَادَ الْمَوْتُ الْتِيَاطاً بِهِ فَقُبِضَ بَصَرُهُ كَمَا قُبِضَ سَمْعُهُ !

الموت، الغائبُ القريب، يزداد التصاقاً بابن آدم، وكأنَّه كلَّما اقترب منه سَلَبَه شيئاً من جوارحه، وحانَت ساعةُ البَصَر، فقُبِض، واكتمل الإستعداد للموت.. حين فَقَدَ ابن آدم حواسه: وَخَرَجَتِ الرُّوحُ مِنْ جَسَدِهِ، فَصَارَ جِيفَةً بَيْنَ أَهْلِهِ !

قَدْ أَوْحَشُوا مِنْ جَانِبِهِ ! وَتَبَاعَدُوا مِنْ قُرْبِهِ ! لَا يُسْعِدُ بَاكِياً ! وَلَا يُجِيبُ دَاعِياً !

لقد تغيَّرت المعادلات.. كان الميت من أهل الإلفة، لكنَّه صار من أهل الوحشة ! يستوحشُ منه أهلُه، وإن كان بَدَنُهُ لا يزالُ كما هو !
ألم يكن سعيُه لحفظ بدنه حثيثاً في حياته ؟!
ألم يكثر الخلقُ من الاهتمام بأبدانهم ؟! فلماذا الابتعادُ عنه ولا يزال بَدَنُه كما هو ؟!
ماذا جرى ؟! لماذا تركه الأحبابُ والأصحابُ وحيداً ؟!

لقد حانت الساعة التي يستوحشُ فيها الأحبابُ من أحبابهم، عند خروج روحهم، وصَيرورة أبدانهم (جِيفَةً) !

ذهبت الروح إلى بارئها.. فما عادَ للبَدنِ رونَقُه، لَقَد فُقِدَ مَن نَعرِف، وإن كان بدنُه أمامنا.. فما نَفعَلُ معَ بدَنٍ لا روحَ فيه ؟!

ثُمَّ حَمَلُوهُ إِلَى مَخَطٍّ فِي الْأَرْضِ فَأَسْلَمُوهُ فِيهِ إِلَى عَمَلِهِ، وَانْقَطَعُوا عَنْ زَوْرَتِهِ‏ !

هناك حيثُ تبدأ الرِّحلَةُ إلى الآخرة.. وينقطعُ الأحبابُ حتى عن زيارة حبيبهم ! 

هناك حيث يتحسَّرُ أناسٌ ويندمون، ويُنادَى بآخرين من قبل الله تعالى: (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ) إِلَى مُحَمَّدٍ وَأَهْلِ بَيْتِهِ، (ارْجِعِي إِلى‏ رَبِّكِ راضِيَةً) بِالْوَلَايَةِ، (مَرْضِيَّةً) بِالثَّوَابِ، (فَادْخُلِي فِي عِبادِي) يَعْنِي مُحَمَّداً وَأَهْلَ بَيْتِهِ، (وَادْخُلِي جَنَّتِي)، فَمَا شَيْ‏ءٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنِ اسْتِلَالِ رُوحِهِ وَاللُّحُوقِ بِالْمُنَادِي (الكافي ج‏3 ص128).

ثمَّ يكون المؤمنُ مستبشراً بشفاعة النبي (ص) وآله الأطهار (ع)..
هُناك حيثُ لا ينفعُ المرء إلا ما قدَّمَ من طاعة الله ورسوله وولاة أمره، رزقنا الله في الدّنيا معرفتهم وزيارتهم وطاعتهم، وفي الآخرة شفاعتهم وجوارهم والأنس بهم، إنّه سميع مجيب.

رحم الله موتانا وموتى المؤمنين، وأنقذهم من أهوال القبر والقيامة، إنَّه سميعٌ مجيب.
والحمد لله رب العالمين


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2022/10/26



كتابة تعليق لموضوع : ما أقربَ الموت !
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net