صفحة الكاتب : الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي

رسولُ الله.. قائمٌ مقامَ الله!
الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

 بسم الله الرحمن الرحيم
 
اتّفق في بعض سِنيِّ أمير المؤمنين (ع) (الجمعة والغدير)، فصعد المنبر على خمس ساعات من نهار ذلك اليوم، فحمد الله وأثنى عليه حمداً لم يُسمع بمثله، وأثنى عليه ثناءً لم يُتوجه إليه غيره‏.
 
هذه فقرةٌ يرويها الشيخ الطوسيّ رحمه الله في مصباحه عن الإمام الرضا عليه السلام عن آبائه عن الإمام الحسين عليه السلام..
الراوي للخطبة عن أمير المؤمنين إذاً هو سيّد الشهداء أبو عبد الله عليه السلام.
 
أما وقت الخطبة: فهو اليوم الذي اجتمع فيه عيدان من أعياد المسلمين: (يوم الجمعة) و(عيد الغدير)..
ويومُ الجمعة سَيِّدُ الأيام.. كما عن آل محمد عليهم السلام.
أما يوم الغدير.. فهو أشرف الأعياد وأعظمها.. وهو عيد الله الأكبر الذي ما بَعَثَ الله نبياً إلا وتَعَيّد فيه..
 
ومن عِظَم المناسبة، وعَظَمَة المتكلّم، يُعلم أهمية الكلام.. فالعاقلُ ينتخبُ المواطن المهمة، لأهمّ الحديث..
 
كان مطلع الخطبة (حمداً لم يُسمع بمثله)، ثم قال عليه السلام:
 
1. وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ
فقدّم الشهادة للرسول صلى الله عليه وآله بالعبودية على الرسالة، وعلى سائر الخصال.
هل لأنّ عبوديته المطلقة كانت سبباً في أن يجعله الله تعالى رسولاً؟ فكانت من باب تقديم السبب على المسبَّب؟
أم لأن عظيم ما سيقول (ع) في حقّه (ص) قد يوهم السامع أنّ النبي (ص) قد ارتفع إلى مكانة الخالق؟! فقدّم العبودية لدفع تلك الشبهة المحتملة؟!
 
2. اسْتَخْلَصَهُ فِي الْقِدَمِ عَلَى سَائِرِ الْأُمَمِ عَلَى عِلْمٍ مِنْهُ
ورد في الأحاديث الشريفة: إِنَّ اللَّهَ قَدِ اسْتَخْلَصَ الرُّسُلَ لِأَمْرِه‏.. أي أنّه جعلهم خالصين له سبحانه وتعالى وخاصين به..
لنا أن نتصوّر عظمة هؤلاء الرسل حتى اختصّهم الله بنفسهم، واستخلصهم من بين خلقه.
ثم من بين هؤلاء المستخلَصين استخلص محمداً (ص) (عَلَى سَائِرِ الْأُمَمِ)...
فصار (ص) المستخلص من بين المستخلَصين!
 
ولكن لم يسبق استخلاصهم استخلاصه، فإن الله تعالى قد خصّه بما خصّه (فِي الْقِدَمِ)!
القِدَمُ المطلقُ الذي لا أوّل له هو قِدَمُ الله تعالى، وهو الأول الذي لا أوّل له.
أما القِدَمُ النسبيُّ فهو يعني التقدم على الغير، وقد ثبت أن الله تعالى استخلصه (ص) قبل كل شيءٍ وأَحَدٍ لنفسه، وأنّ تفضيله على سائر الأمم لم يكن متأخراً عن تلك الأمم، بل منذ القِدَم وقبل إيجاد تلك الأمم! من عالم الأنوار.. الطافح بالأسرار..
 
لكن لماذا فضّله الله تعالى؟!
يقول عليه السلام: (عَلَى عِلْمٍ مِنْهُ): استخلصه لسَبق علمه تعالى بما سيكون عليه المصطفى صلى الله عليه وآله من مراتب القرب والجلال والكمال.
هي مرتبةٌ تُنال بالاستحقاق والجدارة إذاً، حيث يصيرُ صاحبُ الكفاءة محلّ تفضُّل الله وتكرُّمه وعطائه ومَنِّه، فيعطي من يشاء لسبق علمه باستحقاقه، وليس لعطاء الله مانعٌ، ولكنه يتنزل على أصحاب الكفاءات.. فكم كانت تلك النفسُ طاهرةً لسيد الكائنات.. وكم كانت روحه ساميةً وقريبة من بارئها حتى خصّه بما خصه؟!
 
3. انْفَرَدَ عَنِ التَّشَاكُلِ وَالتَّمَاثُلِ مِنْ أَبْنَاءِ الْجِنْسِ
كيف ينفرد عن التشاكل وهو كسائر الناس؟
وعن التماثل من أبناء الجنس والقرآن الكريم يقول: (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى‏ إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقيمُوا إِلَيْهِ وَ اسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكينَ) (فصلت6)
فإذا كان بشراً مثل الناس كيف ينفرد عن التماثل؟
 
لقد أجاب القرآن الكريم على ذلك بقوله تعالى:
(وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ) (محمد 38)
 
القومُ كالقوم، كلهم من جنسٍ واحد، لكن بعضهم ليس كمثل بعض، فلا يستوي الخبيث والطيب، ولا الأعمى والبصير، ولا الأحياء والأموات، ولا الذين يعلمون والذين لا يعلمون، ولا أصحاب النار وأصحاب الجنة.. ولا الظلمات والنور..
 
فالنبيُّ صلى الله عليه وآله منفَرِدٌ عن التشاكل والتماثل، ليس في أبناء جنسه من يماثله، فمرتبته تفوقهم جميعاً، فضلاً عن سائر الأجناس.
 
4. أَقَامَهُ فِي سَائِرِ عَالَمِهِ فِي الْأَدَاءِ مَقَامَهُ!
النبي (ص) قائمٌ مقام الله إذاً في هذه العوالم!
ههنا يتأمّلُ العاقلُ عظمة هذه الكلمة، الفعلُ فعلُ الله تعالى، هو الذي وضع النبيّ (ص) في موضعه، وهو فعلُ الحكيم العليم.
والنبي (ص) صار قائماً مقام الله تعالى في (سائر عالمه)!
ماذا يعني هذا؟
 
هل يعني أنّ الله تعالى تنازل عن مرتبة الخالقية والربوبية وأقام النبي (ص) فيها مكانه؟!
كلا وحاشا.. إن هذا باطلٌ ممتنع!
ولو قال قائلٌ به فبمَ يفترق عن قول النصارى في إنجيلهم عن عيسى عليه السلام:
الله ظَهَرَ فِي الجَسَدِ.. (ثيموثاوس الأولى3: 16)
 
لقد علّل الإمام هذا المعنى بعد بيان كفاءة النبي (ص) بأن الله تعالى لا يمكن أن يُدرَك بالأبصار، أي أنه لا يمكن أن يباشر خلقه، فكان النبي (ص) هو الذي يقوم مقام الله تعالى في إيصال رسالته إليهم، حيث: (انْتَجَبَهُ آمِراً وَنَاهِياً عَنْهُ)، فهو الذي يأمر عن الله تعالى وينهى عن الله تعالى، وهو المؤدي عن جبار السماوات والأرض.
 
لذا ورد في الزيارة: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي مَنَّ عَلَيْنَا بِحُكَّامٍ يَقُومُونَ مَقَامَهُ لَوْ كَانَ حَاضِراً فِي الْمَكَان‏ (بحار الأنوار ج‏99 ص116)..
ولكنّ الله تعالى لا يحضر في المكان، فأقام النبيّ (ص) مقامه (لو كان حاضراً)، فلو كان الله حاضراً في المقام سيكون عالماً قادراً عادلاً كاملاً.. لكنّ الله تعالى لا يحضر في الأماكن فصار النبيُّ متّصفاً بصفات الكمال التي تتناسب مع العبودية المطلقة، فكلّ ما لديه من الله تعالى..
 
وقد أعطاه ربُّنا عزّ وجل ذلك:
إِذْ كَانَ لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ، وَلَا تَحْوِيهِ خَوَاطِرُ الْأَفْكَارِ، وَلَا تُمَثِّلُهُ غَوَامِضُ الظِّنَنِ فِي الْأَسْرَارِ، لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْجَبَّارُ..
فمَن كانت هذه صفاته امتنع أن يباشر خلقه، فكان أفضلهم وأكملهم هو القائم مقامه في أمرهم ونهيهم، وكلّ ما كان اتيان الخالق به ممتنعاً، كان الموكّل به أفضلهم محمد (ص)، ثم سخّر له ملائكته، وأعطاه من العطاء ما يتناسب وهذا المقام العظيم، حتى بلغ إلى مرتبةٍ:
 
5. قَرَنَ الِاعْتِرَافَ بِنُبُوَّتِهِ بِالاعْتِرَافِ بِلَاهُوتِيَّتِهِ
فمن لم يعترف بنبوة النبي محمد (ص) لم يعترف بألوهيّة الباري عزّ وجل، فصار إنكاره إنكاراً لمن قام مقامه، والإقرارُ به إقراراً بالله تعالى..
فما عبَدَ الله تعالى من لم يؤمن بمحمد صلى الله عليه وآله في أيامنا، وإن آمن بمن تقدّم عليه من الأنبياء والمرسلين..
 
وهو الذي: اخْتَصَّهُ مِنْ تَكْرِمَتِهِ بِمَا لَمْ يَلْحَقْهُ فِيهِ أَحَدٌ مِنْ بَرِيَّتِهِ..
 
ما أعظم كلماتك يا أمير المؤمنين في عيدك.. وما أجمَلَها في ذكرى ولادة ابن عمِّك (ص)..
وما أروعها عندما تكشفُ لنا عجزنا أمام إدراك حقيقة النور المحمديّ الذي انفرد عن التشاكل والتماثل، والذي استخلصه الله تعالى مع من خصَّهم من بريّته وسَمَا بهم إلى رُتبته، عترته الطاهرة الذين: أَنْشَأَهُمْ فِي الْقِدَمِ قَبْلَ كُلِّ مَذْرُوٍّ وَمَبْرُوٍّ أَنْوَاراً أَنْطَقَهَا بِتَحْمِيدِهِ، وَأَلْهَمَهَا شُكْرَهُ وَتَمْجِيدَهُ، وَجَعَلَهَا الْحُجَجَ عَلَى كُلِّ مُعْتَرِفٍ لَهُ بِمَلَكَةِ الرُّبُوبِيَّةِ وَسُلْطَانِ الْعُبُودِيَّة (مصباح المتهجد وسلاح المتعبد ج‏2 ص752)..
 
يا رسول الله.. إنا بنبوّتك مُقِرُّون، وبعترتك مؤمنون، ولهم مسلِّمون، ولأمرهم مطيعون.. فخذ بيدنا يا قائماً مقام من لا تُدركُه الأبصار..
ما أعظم عبوديتك لله تعالى.. حتى أعطاك ما أعطاك..
 
السلام عليك يا رسول الله وعلى آلك الطيبين الطاهرين..
السلام عليكم يا آل الله.. يا أحباءه وأولياءه..
 
اللهم احشرنا معهم بحق محمد وآله
والحمد لله رب العالمين


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2022/10/13



كتابة تعليق لموضوع : رسولُ الله.. قائمٌ مقامَ الله!
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net