صفحة الكاتب : الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي

أربعون يوماً.. من البكاء!
الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

 بسم الله الرحمن الرحيم
 
ما قصَّةُ الشيعة مع البكاء؟! ما بالُهم يُجَدَّدونَه عاماً بعد عام؟! وجيلاً بعدَ جيل؟!
أما آنَ لحُزنهم أن ينقضي؟! ألا يصيبهم التَّعَبُ والنَّصَبُ من كثرة البكاء؟! فعلامَ إحراقُ القلوب؟ وإسالة الدموع أنهاراً لا تنضب؟!
 
أسئلةٌ قد يسمعُها المؤمنُ ممَّن لَم يفقه حالةَ الحُزن التي يعيشُها..
 
ثمَّ تتبعُها أخرى:
 
إذا كان الشيعة يبكون إمامَهم المظلوم المقتول في عشرة المحَّرَّم، ويُظهِرون من التفجُّع الشيء الكثير، ويجعلون الأيام العشرة أيام بكاءٍ ومصيبةٍ، فما بالُهم يجدِّدون العزاء حتى الأربعين؟!
 
وإذا كانوا يبكون تسعاً من الأيام قبل يوم المصيبة العظمى، فما بالهم يُتبِعون ذلك بأربعين يوماً من الحزن، ثمَّ تراهم في الأربعين كأنَّهم في يوم عاشوراء؟!
 
يثقلُ على المؤمن أن يجيبَ هؤلاء القوم وهو في حالة الانكسار، لكنَّه يستعين بالله تعالى، ويتوكَّل عليه، ويسطرُ كلمات لهم ولغيرهم، عسى أن يكون فيها لله رضاً، ولبعض الخلق هداية ورشاد:
 
أولاً: مَن سَنَّ سُنَّة البكاء للأربعين؟
 
إنَّ البكاءَ أربعين يوماً على الحسين عليه السلام هو سُنَّةٌ إلهيَّةٌ، سَنَّها الله تعالى لكافَّة خلقه، من سماءٍ وأرضٍ، وإنسٍ وجنٍّ، وملائكةٍ مطيعين!
وكانَ لكلِّ أحدٍ مِن هؤلاء بكاءٌ يتناسبُ وشأنه، كما التَّسبيح ﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبيحَهُم‏﴾ (الإسراء44).
 
قال الصادق عليه السلام:
يَا زُرَارَةُ:
 
1. إِنَّ السَّمَاءَ بَكَتْ عَلَى الحُسَيْنِ أَرْبَعِينَ صَبَاحاً بِالدَّمِ!
2. وَإِنَّ الْأَرْضَ بَكَتْ أَرْبَعِينَ صَبَاحاً بِالسَّوَادِ!
3. وَإِنَّ الشَّمْسَ بَكَتْ أَرْبَعِينَ صَبَاحاً بِالْكُسُوفِ وَالْحُمْرَةِ!
4. وَإِنَّ الْجِبَالَ تَقَطَّعَتْ وَانْتَثَرَتْ!
5. وَإِنَّ الْبِحَارَ تَفَجَّرَتْ!
6. وَإِنَّ المَلَائِكَةَ بَكَتْ أَرْبَعِينَ صَبَاحاً عَلَى الحُسَيْنِ (ع)! (كامل الزيارات ص81).
 
لقد كتَبَ الله تعالى لمخلوقاته البكاء على سيِّد الشُّهداء، تفجُّعاً على مصيبةٍ لَم تشهَد الأكوانُ لها مثيلاً.. فإمام الوجود بأسرِه مقتولٌ ظُلماً وعدواناً، وَمَا قُتِلَ قِتْلَتَهُ أَحَدٌ كَانَ قَبْلَهُ !
 
فمَن بكى الحُسينَ أربعينَ يوماً بعد شهادته، يكون قد لبَّى كما لبَّت السماء والأرض والشمس والجبال والبحار والملائكة، فلا يُنسَبُ لبِدعَةٍ، ولا يُلام على حرقةٍ لازَمت قلبه على إمامه، وظهرَت آثارُها في عينه وبدنه.
 
ثانياً: لماذا تجديد العزاء في الأربعين؟!
 
هل يُجدِّدُ المؤمنون الحزنَ في الأربعين فعلاً؟!
لا ينطقُ بهذا الكلام من كان عالماً بما جرى، فالشيعة لا يجدِّدون عزاءً في الأربعين، إذ أنَّ ما جرى طيلة أربعين يوماً هو مصيبةٌ عظيمةٌ، وواقعةٌ أليمة، وحادثةٌ مُفجعة! تستحقُّ أن يُبكى فيها يوماً بعد يوم.
 
فمصائبُ الإمام ما انتهت في عاشوراء أبداً! لقد انتهَت سِنِيُّه في الدُّنيا عندما شاء الله تعالى أن يراهُ قتيلاً، لكنَّ بلاءه وعذاباته ما انتهت بذلك!
 
إن الأيام الأربعين هذه هي أيَّامُ اشتياق الرأس الشريف للجسد الطاهر! هي أيامُ استلاب الرأس المكرَّم عن البدن المقدِّس! هي أيَّامُ الطَّواف برأس سيِّد الشُّهداء من بلدٍ إلى آخر! ومِن محلٍّ إلى محلّ! ومِن منزلٍ إلى منزل!
 
هي أيّام تبدُّل أحوال الرأس الشريف: حين يُرفعُ تارةً على رأس رُمح! ويوضع أخرى في طَشتٍ أمام أخبث خلق الله! ويُنكتُ ثالثةً! ويصلَبُ رابعةً! فواويلاه! وامصيبتاه!
 
يقول الإمام السجَّاد عليه السلام، ذو القلب العظيم الذي احتملَ ما جرى، وكان شاهداً عليه:
إِنَّ الله وَلَهُ الْحَمْدُ ابْتَلَانَا بِمَصَائِبَ جَلِيلَةٍ، وَثُلْمَةٍ فِي الْإِسْلَامِ عَظِيمَةٍ:
 
1. قُتِلَ أَبُو عَبْدِ الله الحُسَيْنُ (ع) وَعِتْرَتُهُ.
2. وَسُبِيَ نِسَاؤُهُ وَصِبْيَتُهُ.
3. وَدَارُوا بِرَأْسِهِ فِي الْبُلْدَانِ، مِنْ فَوْقِ عَامِلِ السِّنَانِ! وَهَذِهِ الرَّزِيَّةُ الَّتِي لَيْسَ مِثْلُهَا رَزِيَّة (اللهوف ص201).
 
مصائبُ ثلاثة، القتلُ والسبي والدوران بالرأس المبارك، يهتزُّ لكلِّ واحدةٍ منها عرشُ الرحمان، وتتفطَّرُ لها القلوب!
 
يقول السجاد عليه السلام:
أَيُّ فُؤَادٍ لَا يَحْزُنُ مِنْ أَجْلِهِ؟! أَمْ أَيَّةُ عَيْنٍ مِنْكُمْ تَحْبِسُ دَمْعَهَا وَتَضَنُّ عَنِ انْهِمَالِهَا؟!.. أَيُّ قَلْبٍ لَا يَنْصَدِعُ لِقَتْلِهِ؟! أَمْ أَيُّ فُؤَادٍ لَا يَحِنُّ إِلَيْهِ؟! (اللهوف ص201).
 
نعم لقد قُتِلَ سيِّدُ الشهداء في العاشر، لكنَّ السبي والطواف برأسه بدأ في ذلك اليوم!
يقول السجاد عليه السلام:
أَيُّهَا النَّاسُ أَصْبَحْنَا مَطْرُودِينَ مُشَرَّدِينَ مَذُودِينَ‏! وشَاسِعِينَ عَنِ الْأَمْصَارِ! كَأَنَّا أَوْلَادُ تُرْكٍ وَكَابُلَ، مِنْ غَيْرِ جُرْمٍ اجْتَرَمْنَاهُ، وَلَا مَكْرُوهٍ ارْتَكَبْنَاهُ! (اللهوف ص201).
 
إنَّ الشيعة لا يجدِّدون الحُزن في الأربعين، فإنَّهُ ما فارَقَهُم يوماً وهذا حالُ رأس إمامهم! وأهله وبنيه! يُطافُ بهم بعد تشريدهم!
ولكن.. يومَ قُدِّرَ للرأس أن يعود مع قافلة السِّبى إلى أرض الطفوف، كان ذلك في يوم الأربعين.. فانفجرَ المؤمنون لهَول ما جرى!
 
نَعَم يُجدِّدون العزاء بمعنى استذكار المصيبة العظمى.. يومَ قُطِعَ الرَّأسُ الشَّريف، واليومَ يُعادُ إلى البدن الطاهر!
 
ينقل الشيخ ابن شهر آشوب عن السيد المرتضى رحمهما الله: أَنَّ رَأْسَ الحُسَيْنِ (ع) رُدَّ إِلَى بَدَنِهِ بِكَرْبَلَاءَ مِنَ الشَّامِ وَضُمَّ إِلَيْهِ.
ثم يقول: قال الطوسي: ومنه زيارة الأربعين (مناقب آل أبي طالب ع ج‏4 ص77).
وعلى ردِّ الرأس ودفنه مع الجسد الطاهر كلمةُ الشيعة قديماً وحديثاً (راجع اللهوف ص195).
 
إنَّ ههنا معنىً عظيماً.. إنَّ زيارة الأربعين صارت زيارة رَدِّ الرأس الشريف، وإلحاقه بالبدن الطاهر.
 
ولكن..
كيف نحَّى السجّادُ عليه السلام شيئاً مِن تُراب القبر حتى يدفن الرأس المبارك؟! وكيف ضمَّ الرأس إلى الجسد المقطوع؟! وكيف أُهيلَ التُّرابُ عليه من جديد؟! ذاك ما لا نعرفه!
فإنا لله وإنا إليه راجعون.
 
ثالثاً: مآتم الآل.. في الأربعين!
 
لقد اجتمعَ في يوم الأربعين في كربلاء نساءُ الحسين وعياله، وجابر بن عبد الله الأنصاري ومن معه، وجماعة من بني هاشم، ورجالٌ من آل رسول الله صلى الله عليه وآله.
 
وَرَدَ هؤلاء لزيارة قبر الحسين عليه السلام، ومرَّ موكب الإباء يحملُ الرؤوس، حتى دُفِنَت مع الأجساد.
لكن كيفَ كان اللِّقاءُ بينَهم؟
 
فَوَافَوْا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، وَتَلَاقَوْا بِالْبُكَاءِ وَالحُزْنِ وَاللَّطْمِ!
وَأَقَامُوا المَآتِمَ المُقْرِحَةَ لِلْأَكْبَادِ!
وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِمْ نِسَاءُ ذَلِكَ السَّوَادِ، فَأَقَامُوا عَلَى ذَلِكَ أَيَّاماً (اللهوف ص196).
 
هيَ أيّامٌ ثلاثةٌ، أو تَزيد.. قضاها الآلُ في أشدِّ المآتم حُزناً على وجه البسيطة، قُرب قبور الأطياب والأحباب.
ليسَ مَن يمنع النِّساء والأطفال من تعاهُد القبور تلك الساعات! وهم أسوةُ المؤمنين اليوم.
 
نعم.. قد كانَ رأسُ الحسين عليه السلام يتعاهدهم في الطريق ذهاباً وإياباً، لكنَّهُ ودَّعَهم الآن وسكن في بقعته الطاهرة!
فإنَّا لله وإنا إليه راجعون.
 
رابعاً: رايةُ الأربعين.. وديعةٌ للمؤمنين!
 
لقد أدَّت السماوات ومن فيها والأرضُ ومَن عليها نصيبَها من البكاء، فبَكَت الحسين عليه السلام أربعين يوماً، حتى عادَ الرَّأسُ إلى الجسد الشريف.
بكتهُ عليه السلام ورأسُهُ فوق القنا! بكته والجسدُ الشريف مدفوناً بلا رأس.
 
ولما أعيدَ الجسدُ إلى الرأس الشريف انقطع بكاؤها! وتوقَّفَ أنينُها!
هل تَرَى هذه المخلوقات أنَّ المُصاب قد انتهى بذلك؟
أم أنَّها قَرَّت بأمر الله تعالى لحكمةٍ؟!
 
أم أنَّها تُريدُ أن تُسَلِّمَ الراية إلى أجيالٍ من المؤمنين تأتي.. أجيالٍ تبكي الحسين عليه السلام عشراً.. ثم أربعين يوماً.. إلى يوم القيامة!
 
هُمُ المؤمنون الذين صارَت زيارة الأربعين علامةً من علامات إيمانهم! يتوارثونها جيلاً بعدَ جيل.. (المزار للمفيد ص53).
لقد علَّمَهم أئمتهم زيارةَ الحُسين في يوم الأربعين فحفظوا ذلك، وضحُّوا بأرواحهم لأجلها.
 
وها هو الصادق عليه السلام يعلِّم أصحابه ما ينبغي أن يقولوا (فِي زِيَارَةِ الْأَرْبَعِينَ.. عِنْدَ ارْتِفَاعِ النَّهَارِ).
ففي الزيارة المعروفة عنه عليه السلام: السَّلَامُ عَلَى وَلِيِّ الله وَحَبِيبِهِ.. السَّلَامُ عَلَى الْحُسَيْنِ المَظْلُومِ الشَّهِيدِ، السَّلَامُ عَلَى أَسِيرِ الْكُرُبَاتِ، وَقَتِيلِ الْعَبَرَاتِ.. إلى آخر الزيارة (تهذيب الأحكام ج6 ص113).
 
زيارةٌ تلخِّصُ كلَّ ما جرى: لقد استشهد الحسين عليه السلام في سبيل الله، لإنقاذ العباد من الضلالة والجهالة، وهذا يومُ الأربعين علامةٌ فارقةٌ في هذه الطريق.. لقد صارَ علامةً تعجزُ الأمَمُ عن الإتيان بمثلِها أو مُجاراتِها، فضلاً عن طمسِها وتشويهها.
 
إنَّها جُزءٌ من أيام المُصاب العظيم..
 
وفيها يظلُّ المؤمن يردِّد: قَلْبِي لِقَلْبِكُمْ سِلْمٌ، وَأَمْرِي لِأَمْرِكُمْ مُتَّبِعٌ، وَنُصْرَتِي لَكُمْ مُعَدَّةٌ، حَتَّى يَأْذَنَ الله لَكُمْ، فَمَعَكُمْ مَعَكُمْ لَا مَعَ عَدُوِّكُمْ..
 
عجَّلَ الله فَرَجَكُم يا آل الله، وعجَّلَ فرَجنا بفرجكم.
 
وإنا لله وإنا إليه راجعون
 
ليلة الأربعين 1444 هـ، الموافق 17 – 9 – 2022 م

الشيخ محمد مصطفى محمد مصري العاملي 
 


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2022/09/17



كتابة تعليق لموضوع : أربعون يوماً.. من البكاء!
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net