صفحة الكاتب : طالب عباس الظاهر

نظرات في القصة القصيرة (9)
طالب عباس الظاهر
 القصة القصيرة أداء لغوي موح، يحيل لما هو حياتي معاش بالصوت والصورة، مستثمراً في الآخر لخزين تجربته الإنسانية في الحياة، والتحفيز لتراكمية الأحداث لمشاهده وذكرياته، فيعكس مثل هذا الأداء التعبيري مدى أصالة تجربة القاص الإبداعية في ملامسة أدق الجزيئيات المهملة، وربما المنسية أيضاً في دهاليز الذاكرة، وترتيبها بأوضح شكل، ليعيد تشكيل لبناتها من جديد، وفق رؤيته الفلسفية، لا كما هي في الواقع .. عبر توفر شرطي المعرفة والصدق في مثل ذلك الاشتغال الفني، في محاولة للربط مابين الأحداث والشخوص والأمكنة والأزمنة المختلفة، واغتناء احدهما بالآخر في المسيرة السردية التي قد تطول أو تقصر، لاستيفاء الغرض المراد في البناء الداخلي للنص القصصي.
إلا إن من المهم جداً  الالتقاط الواعي لأهم المفردات الحياتية التي تخدم هذا الغرض، والمحافظة على التتبع الدقيق لتطور خطوط سير الثيمة، من البداية حتى النهاية، وعدم إغفال المفردات عائمة تتخبط في فراغ المجهول، مهما كانت بسيطة، إذ إن قوة الحدث الرئيسي للقصة، ومحاولة تجسيد صفات الشخصية المحورية ـ البطل ـ يدفعان بالبنيات المشكَّلة نحو التوهج .. بالإفصاح البليغ عن أبعد مكنونات المبدع.
إذن، فالحدث يُعَدُّ نقطة ارتكاز لانطلاق القصة، وبفقده تفقد بوصلتها، وتظل تائهة في بحر السطور لا تعرف ماذا تريد؟ وإلى أين هي ذاهبة؟! وبالتالي تعجز عن فهم نفسها وهويتها معاً، فضلاً عن قدرة الأداء لرسالتها ونجاحها في تلك المهمة الجوهرية، وعلى العكس فإنّ الوصف الزائد، والإغراق فيه يوقف التدفق الحيوي لسير الحبكة، وربما يورث السأم في نفس المتلقي .. دافعاً به نحو الخارج، ومحفزاً إياه على التشتت.. بدلاً من سحبه إلى الداخل؛ أي الانشداد إلى المتن القصصي، كما هو مفترض، وإغراقه في خضم تناقضاته وصراعاته، واحتجاجاته المستترة والعميقة على يجري وما هو حاصل على مستوى السطح من أحداث الحياة والوجود. 
فضلاً عما يمثله الحدث من الأهمية القصوى، بإدامة عنصر التشويق في سرد النص القصصي، واستمرار متابعة الآخر؛ فهنالك مفردة مهمة أيضاً، وهي ضرورة الاشتغال على المتناقضات والمتضادات والمتعاكسات، من أجل إبراز القيم الجمالية للأشياء في النص من خلال الخوض في القبيح منها، والعكس صحيح أيضاً،  فالوجود قائم بالأساس على ثنائية الأضداد كالليل والنهار، والحق والباطل، والسماء والأرض وما إلى ذلك..فلولا سواد الليل وعتمته؛ لما عرفنا بياض النهار ووضوحه، ولو لا ظلم الباطل، لما لمسنا عدالة الحق، ولولا سمو السماء لما أدركنا وطء الأرض وانحدارها .. وهكذا.   
القصة القصيرة كيان محنط في ظاهره الساكن، وجسد جامد لا روح فيه ولا نبض، رغم إنه يختزل الحياة أو قطعة حية من الوجود .. في تجربة حياتية وإنسانية ثرة، فبينما يجف النسغ في عروق الأحياء، إلا إنه يمكن أن يخلد في متن النص القصصي، حتى بعد موت كاتبه، وتحول عظامه إلى مجرد رميم، وربما يستمر إلى الأبد أحياناً .. بمدى ملامسته لحقائق الوجود الكبرى.
فالموهبة الإبداعية كما البذرة، تستطيع أن تختزن وتحفظ للقصة حيوية الصيرورة، وتبقي الحياة تمور بكيانها .. بدفق الوجود، متى ما حرّكت الذائقة المرهفة للآخرين سكون المعنى وهجوعه وقيامه المؤمل، فتبعثه نضراً يفيض حيوية كالحياة، يقابله في البذرة توفر الظروف الطبيعية من تربة وماء وهواء.. دائماً يحاول أن يستدرج المتلقي للتوغل أكثر فأكثر صوب المخبوء، ويجذبه بسحر أخّاذ لاكتشاف أعماقه .. بالاستقراء الواعي لأدق التفصيلات الحياتية المضمرة طي الحروف والكلمات، بل بعمقها المحجوب أبداً عن النظرة العادية .. بالاستقبال الساذج، لإماطة اللثام عن فحوى طرحها الإنساني الخالد، وبمدى تحسس الوجع النبيل في عقل وقلب ونفس الإنسان .. الرابض في التأوهات المكبوتة، وصدى الصراخ الأخرس، ورجع الأنين الشجي، بألف ألف لغة غير مدونة، تستهزئ بقدرات البوح الممكن في كل لغات العالم مجتمعة.
القصة القصيرة ينبغي لها أن تغدو نافذة على عالم شفاف مشحون بالرؤى، وكهف مسكون بالهواجس البكر التي لم تطأها بعد عذراء المشاعر والأفكار، كونها تنساب في ذائقة الآخر كصوت نحيب المطر في غبش شتوي بارد على شباك علوي لبيت قديم، تولول الريح بين قضبانه الحديدية الصدئة، وتصفر مع اشتداد الأعاصير، فينعكس على زجاجه وميض انفلاق السماء بالبرق، وغضب الرعود، فيمسح وجهه كل صباح ضباب الفجر الحالم .. وقطعاً فلن تتحسس مثل تلك الأشياء النفوس المتلفعة بالغفلة، والأذواق النزقة المتشرنقة بغشاء البلادة واللامبالاة، التي غالباً ما ترى لكنها نادراً ما تعقل.
والقصة ككل متكامل ومتوحد ومتناسق الألوان والأشكال، بل وغاية في الدقة والإتقان، وبكلمة واحدة إبداع، فلا ينقص جزء إلا ويحدث الخلل، ولا يطغى جانب إلا ويولد عدم الارتياح، ولا تتعارض الفطرة إلا وتخلف النفرة، كلوحة فنية رائعة من صنع إله قدير بديع السماوات السبع والأرضين.. بعكسها صورة الحياة الشفافة، فترجيع في أطرها صدى خطى الانسان منذ وطئت قدماه هذي الأرض، بإعادة المتخيل الإنساني إلى الوجود مرة بعد أخرى حتى يصل إلى مرحلة التكامل بالخلود.     
taleb1900t@yahoo.com
 

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


طالب عباس الظاهر
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2012/05/12



كتابة تعليق لموضوع : نظرات في القصة القصيرة (9)
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net