صفحة الكاتب : الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي

عيدُ الغدير.. قَمَرٌ بين الأعياد!
الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

بسم الله الرحمن الرحيم
 
لقد مَيَّزَ الله تعالى بينَ مخلوقاته، وفاضلَ بين أصنافِها وأفرادِها، ففضَّلَ الأنبياء على مَن دونَهم، والأتقياء على مَن عداهم، وشرَّفَ بعضَ الأماكن ورفَعَ قدرَها، فجعل مكَّة محجَّةً وقبلة للمسلمين، والعتبات المقدَّسة مزاراً وملاذاً للمؤمنين، ثمَّ فضَّلَ بعضَ الأيام والليالي، فجعل ليلة القدر خيراً مِن ألفِ شهر، وجعل ليوم الغدير فضلاً يليق بشأن صاحبه، ذاك أميرُ المؤمنين عليٌّ عليه السلام.
 
ففي الحديث عن الإمام الرضا عليه السلام:
إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ زُفَّتْ أَرْبَعَةُ أَيَّامٍ إِلَى الله كَمَا تُزَفُّ الْعَرُوسُ إِلَى خِدْرِهَا: يَوْمُ الْأَضْحَى وَيَوْمُ الْفِطْرِ وَيَوْمُ الجُمُعَةِ وَيَوْمُ الْغَدِيرِ!
 
هيَ أعظمُ أيَّامٍ يخصُّها الله تعالى بهذه الخصيصة، ففي الحديث تصويرٌ لطيف، رغم أنَّ اليومَ ليس فتاةً حسناء، والله تعالى لا يحلُّ في مكان كي تُزَفَّ إليه.
ومهما تكُن كيفيَّةُ هذه (الزَّفة) في يومٍ يحوي ما لم يخطُر على قلب بَشَر، فإنَّ اللافت هو قولُ الإمام عليه السلام:
 
وَإِنَّ يَوْمَ الْغَدِيرِ بَيْنَ الْأَضْحَى وَالْفِطْرِ وَالجُمُعَةِ كَالْقَمَرِ بَيْنَ الْكَوَاكِبِ (إقبال الأعمال ج‏1 ص464).
 
لقد طغى نورُ الغَديرِ على ما سواه كطغيان نور القمر بين الكواكب، ونورُه عند ظهوره ليلاً يكون أعظمَ الأنوار.
وهكذا يقتبسُ الغديرُ عظمته من الولاية التي لَم ينادَ في الإسلام بشيء كما نودي بها.
 
ولقد تكثَّرَت سِماتُ هذا اليوم وصفاته وخصائصه حتى فاقَت الإحصاء، وقد كان مِن أبرَزِها أنَّهُ يومُ كمال الدين، وقبول أعمال المؤمنين دون سواهم، ولقد كان من خصائصه أنَّه:
 
1. يومُ مَرغَمَةِ الشِّيطان!
 
لقد وصفَ أميرُ المؤمنين عليه السلام يوم الغدير بأنَّه: يَوْمُ دَحْرِ الشَّيْطَانِ (مصباح المتهجد ج‏2 ص756).
ووصفه الإمام الرضا عليه السلام بأنَّه: يَوْمُ مَرْغَمَةِ الشَّيْطَانِ (إقبال الأعمال ج‏1 ص464).
 
يدلُّ هذان الحديثان على أنَّ الشيطان صارَ ذليلاً يومَ الغدير، وأنَّ باب هزيمته أمام بني آدم قَد فُتِحَ على مصراعيه، وأنَّه أُبعِدَ مُكرَهاً عن تَسَيُّد هذه الأمة بعد إغوائها، وأنَّ الغدير هو يوم طرده وتنحيته عما أرادَهُ بالأمة من ضلالٍ وإغواء.
 
لقد بلغت عظمةُ البلاغ في يوم الغدير أن نزلت آية: ﴿الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذينَ كَفَرُوا مِنْ دينِكُمْ﴾!
 
ولكن: يَئِسَ الْكَفَرَةُ وَطَمَعَ الظَّلَمَة (إقبال الأعمال ج1 ص458).
 
إبليسُ كان ممَّن حَلَّت بهم كارثة، فصَرَخَ صرخَةً لم يسمع الأبالسة صرخةً أوحشَ منها! لقد كان إبليسُ معاصراً لكل الأنبياء السابقين، ورافَقَ الأمم السابقة كلَّها، لكنَّه لم يرَ فِعلاً أعظم مما جرى في الغدير، فقد أدركَ أنَّ ولاية عليٍّ عليه السلام فيه هي باب الهداية الأعظم، حتى قال لأبالسته:
فَعَلَ هَذَا النَّبِيُّ فِعْلًا إِنْ تَمَّ لَمْ يُعْصَ الله أَبَداً! (الكافي ج‏8 ص344).
 
لا تزالُ صرخةُ إبليس تلك تَرُنُّ في أذن وقَلبِ كلِّ مؤمن، وإن لَم يُشاهِد تلك الواقعة بأمِّ عينه، بل رآها بعين قلبه وبصيرته.
 
المؤمن يعلم أنَّ الشيطان عدوٌّ له، وقد اتَّخذه عدوَّاً بأمر الله تعالى، والعاقلُ لا ينسى ما يُفرِحُ عدوَّه، ولا ما يُسيئه، وما مِن حَدَثٍ ساءَهُ يوماً كالغدير، وبيعةِ عليٍّ عليه السلام.
 
لذا عَرَفَ المؤمنُ أنَّ هذا اليوم سلاحٌ فتّاكٌ في وجه إبليس، ولقد كان له رنَّةٌ يومَ نُصِبَ عليٌّ عليه السلام، ولا يزال يستشعرُ الذلَّ ويُرغَمُ أنفُه كلَّما نظَرَ إلى مؤمنٍ موالٍ يتبعُ علياً ويطيع أمر الله ورسوله فيه.
 
لقد أسقِطَ في يَدِ إبليس في يوم الغدير، فكان يومَ دَحرِه، حتى جاءهُ مِن الأعوان والأنصار، بل الشُّركاء مَن أقدمَ على ما عَجِزَ عنه، ذاك حين قال المنافقون عن النبي صلى الله عليه وآله: (إِنَّهُ يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى)! ووصفوه بالجنون!
 
حينها: صَرَخَ إِبْلِيسُ صَرْخَةً بِطَرَبٍ، فَجَمَعَ أَوْلِيَاءَهُ فَقَالَ: .. هَؤُلَاءِ نَقَضُوا الْعَهْدَ وَكَفَرُوا بِالرَّسُولِ!
انتَعَشَت آمالُ إبليس بفعل هؤلاء، ولعلَّ فِعلَهم يمنعُ الأمَّة من التمسُّك بعليٍّ فتعود الأمة إلى ضلالها، وهكذا كان!
 
نحَّى الناسُ عليّاً عن مكانٍ وضعه الله فيه، فما كان إلا أن: لَبِسَ إِبْلِيسُ تَاجَ المُلْكِ! .. وَجَمَعَ خَيْلَهُ وَرَجْلَهُ ثُمَّ قَالَ لَهُمْ:
اطْرَبُوا، لَا يُطَاعُ الله حَتَّى يَقُومَ الْإِمَامُ! (الكافي ج‏8 ص344).
 
لقد تغَيَّرَت المعادلةُ بفعل شياطين الإنس، فأعانَ هؤلاء شيطان الجنِّ بعدما كاد اليأسُ يُصيبهم، وتفوَّقوا عليهم فيما عجزوا عنه.
ولا يزالُ إبليس منذ مئات السنين فَرِحاً، لا يؤرِّقُه إلا ثلَّةٌ من المؤمنين ثبتت على ولاية أمير المؤمنين عليه السلام.
 
لقد روي عن الباقر عليه السلام قوله لأصحابه:
إِنَّ الشَّيْطَانَ لمَّا يَئِسَ مِنْكُمْ أَنْ تُطِيعُوهُ فِي خَلْعِ وَلَايَتِنَا.. أَغْرَى النَّاسَ بِكُمْ حَسَداً لَكُمْ عَلَيْهَا (دعائم الإسلام ج1 ص47).
 
وهكذا يتكاتف أئمة الجورِ بتحريضٍ من إبليس، ويسعون لأذية المؤمن والتضييق عليه، ولقد أطاعَهُ الحُكّامُ والسلاطين في ذلك، بعدما لَبِسَ تاجَ المُلك، وهذه ممالكه في شرق الأرض وغربها:
 
اضْرِبْ بِطَرْفِكَ حَيْثُ شِئْتَ مِنَ النَّاس‏، فَهَلْ تُبْصِرُ إِلَّا فَقِيراً يُكَابِدُ فَقْراً أَوْ غَنِيّاً بَدَّلَ نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْراً (نهج البلاغة الخطبة 129).
 
المؤمنُ لا ينسى عدوَّه، ويعلَم أنَّه يألمُ مثلَه، لكنَّ المؤمن يألم من متاعب الدُّنيا فيصبر عليها ثم يُوفّى أجره بغير حساب، والمخالف وسيِّدُه الشيطان يألم لثبات المؤمن على ولاية عليٍّ عليه السلام، وفي عيد الولاية هذا يُثَبِّتُ المؤمن ولاءه ويجدِّده ويرسِّخه، ويزرعه في أبنائه كي يكونوا أنصاراً للحجَّة عند ظهوره، ذاك اليوم الذي يُطاعُ الله فيه بعد السقيفة حقاً.
 
2. يوم البرهان
 
لقد وصفَ أميرُ المؤمنين عليه السلام الغدير بأنَّه: يَوْمُ الْبُرْهَانِ (مصباح المتهجد ج‏2 ص756).
ففيه: وَضَحَتِ الْحُجَجُ! وهكذا أعطى الله تعالى المؤمنين بُرهاناً باهِراً نَيِّراً عظيماً، تقرُّ به عيونهم، ويثلج به فؤادهم.
 
ولقد استغنى المؤمنون عن بيان عظمته وقوَّته، حين فضَحَ الله المخالفين لهم في ذلك، فها هو أبو حنيفة النُّعمان يُصرِّحُ عندما يسمع ذكرَ أمير المؤمنين عليه السلام فيقول:
 
قَدْ قُلْتُ لِأَصْحَابِنَا: لَا تُقِرُّوا لهُمْ بِحَدِيثِ غَدِيرِ خُمٍّ فَيَخْصِمُوكُمْ!
 
تعجَّبَ السامعون لكلامه، فحديثُ الغدير أعظمُ بُرهاناً مِن أن يُنكَر، وأوضح مِن أن يُجحَد، فسألوه إن كان هذا الحديث عندَه حقاً أم لا؟
فقال: بَلَى هُوَ عِنْدِي وَقَدْ رُوِّيتُهُ! (الأمالي للمفيد ص26).
 
وهكذا صارَ الغديرُ حديثاً يُستَيقَنُ به ثمَّ يُجحَدُ ظُلماً وعلوّاً وحسداً!
فلله درُّه مِن بُرهانٍ ما أعظمه، وحديثٍ ما أمتنه، وبابٍ للحقِّ لا يُهزَم.
 
3. عيدٌ للأنبياء والمؤمنين
 
ولقد صارَ الغديرُ: يَوْم عِيدِ أَهْلِ بَيْتِ مُحَمَّدٍ!
من بعد أن كان عيداً يتعيَّدُ به الأنبياء، وكانوا: يُوصُونَ أَوْصِيَاءَهُمْ بِذَلِكَ فَيَتَّخِذُونَهُ عِيداً (الكافي ج‏4 ص149).
 
إنَّه أعظمُ الأعياد وأشرفُها، فلا ينبغي لمثل هذا العيد أن يبقى حِبراً على وَرَق، أو عقيدةً لا تظهَر في المجتمع المؤمن، لذا وردَ الحثُّ على اتخاذه عيداً والتعيُّد فيه، ليتحوَّل إلى أعظم مَظهرٍ اجتماعيٍّ يُرسِّخُ الولاية الحقة، ويعطي المؤمن قوَّةً وعزيمةً وثباتاً، ويشبُّ عليه الصغير، ويهرم عليه الكبير.
 
لقد حثَّت الشريعة على إبراز مظاهر العيد فيه، وإظهار البِشر والسرور والتبسُّم في وجوه المؤمنين، وجعلت في التزاور فيه بشارة بالجنة ونوراً في القبر، وأمَرَت بالتوسعة على العيال والنفس والإخوان، وبالتهادي والبذل، وجعلت لذلك ثواباً (عَلَى أَضْعَافَ الْأَعْيَادِ قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ)، وجعلت الدِّرهم فيه بمائة ألف درهم، وجعلَت لإطعام المؤمن ثواب إطعام جميع الأنبياء والصديقين.
 
وهكذا يشعرُ المؤمنُ في الغدير ببعض صفات إمامه، فالإمام هو:
الْأَنِيسُ الرَّفِيقُ، وَالْوَالِدُ الشَّفِيقُ، وَالْأَخُ الشَّقِيقُ، وَالْأُمُّ الْبَرَّةُ بِالْوَلَدِ الصَّغِيرِ، وَمَفْزَعُ الْعِبَادِ فِي الدَّاهِيَةِ النَّآدِ ! (الكافي ج1 ص200).
 
لقد أنارَ الله قلوب المؤمنين بالإمام، وبه طهَّرَ قلوبهم، فشعروا بشفقته وبرِّه وعطفه، وتيقَّنوا أن لا مفزع لهم في ما ينزل بهم إلا الإمام المعصوم، باب الله تعالى..
 
ونحنُ اليوم في عيد الإمامة، عيد الغدير.. نتوجهُ إلى إمامنا المنتظر..
نحارُ بأيٍّ لسانٍ نخاطبه عليه السلام..
وكيف نفزع إليه؟ وقد غمرتنا الذنوب، ولفحتنا الآثام، وسوّدت وجوهنا المعاصي!
بأيِّ قلب مملوء بحبِّ الدنيا نتوجه إليه وإلى الله به؟
 
إنَّ ما يشفع لنا هو حبُّ الإمام لشيعته وشفقته بهم، وأنَّ اليوم هو يوم العَودِ إلى الله ونبيه ووليه، فالغدير: يَوْمُ تَرْكِ الْكَبَائِرِ وَالذُّنُوب‏.
نتوكل على الله تعالى في هذا العيد العظيم، ونعودُ إليه، لينقذنا ببركة الإمام في يومه، يوم الجود والعطاء..
 
الْيَوْمُ الَّذِي يَجْعَلُ الله فِيهِ سَعْيَ الشِّيعَةِ مَشْكُوراً، وَذَنْبَهُمُ مَغْفُوراً، وَعَمَلَهُمْ مَقْبُولاً.
اللهم اجعلنا ممن قبِلتَه على ما فيه، وأصلحت شأنه، وحشرته مع إمامه، بحقِّه وفي عيده.
أسعد الله أيامنا وأيامكم.
وكلَّ عام وأنتم بخير.
عيد الغدير..
 
الإثنين 18 ذو الحجة 1443 هـ الموافق 18 - 7 - 2022 م


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2022/07/18



كتابة تعليق لموضوع : عيدُ الغدير.. قَمَرٌ بين الأعياد!
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net