صفحة الكاتب : الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي

يومَ يأتي المقتولُ بقاتِلِه!
الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

بسم الله الرحمن الرحيم

إنَّ جريمةَ القتل من أقدَم الجرائم التي ارتُكِبَت على وجه الأرض، ذاك حينَ أقدَمَ قابيلُ على قتل أخيه هابيل: ﴿فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الخاسِرين‏﴾ (المائدة30).

فكان سَفكُ الدِّماء بغير حَقٍّ أعظمَ معصيةٍ يُعصى الله تعالى بها، وصارَ مِن أعظم المحرَّمات، وذلك: لِعِلَّةِ فَسَادِ الخَلْقِ فِي تَحْلِيلِهِ لَوْ أُحِلَّ، وَفَنَائِهِمْ، وَفَسَادِ التَّدْبِيرِ (الفقيه ج3 ص565 عن الرضا عليه السلام).

إنَّ فتحَ باب القتل بغير حقٍّ يلزم منه فَسادٌ عامٌ، وفناءٌ للخلق بحيث ينزو من شاء كيف شاء على عباد الله، ويعود الآخر لينتقم من الأول وأهله وعشيرته بلا رادعٍ ولا قيدٍ، حتى لا يكاد يبقى على وجه البسيطةِ مَن ينجو من ذلك.

ولقد لاحظت الشريعة المقدَّسة الصالح العام فقدَّمته على ما عداه، فإنَّ ما يؤدي إلى ضررٍ عامٍ يحرم على كلِّ أحدٍ ولو لم يكن فيه ضررٌ على صاحبه، لأنَّ الإنسان جزءٌ من مجتمعٍ يلزم عليه الحفاظ عليه، ولا يجوزُ له الإقدام على ما فيه أذيَّةٌ لغيره صَوناً لهذا المجتمع عن الفساد.

لذا لا تُقرُّ المُجتمعاتُ البشريَّةُ قاطبةً بالحريَّة المطلقة لأفرادها، لما يترتَّب على ذلك من ظُلمِ الفَردِ للجماعة.

ولمَّا كان في القتل ظُلماً وعدواناً استلابٌ لأغلى ما وهبَ الله تعالى لعباده، وهي الحياة، اذ ليس لابن آدم رأسُ مالٍ أغلى من أيام حياته، وقفت الشريعةُ موقفاً شديداً منه، حتى عَدَّت قَتلَ الإنسان قتلاً للناس جميعاً!

فقال تعالى: ﴿مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى‏ بَني‏ إِسْرائيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَميعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَميعاً﴾ (المائدة32).

وكان لفظُ الآية خاصاً ببني إسرائيل، لكنه: (جَارٍ عَلَى جَمِيعِ الخَلْقِ، عَامّاً لِكُلِّ العِبَادِ، مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الأُمَمِ) كما عن أمير المؤمنين عليه السلام (وسائل الشيعة ج29 ص16).

وصارَ القَصاصُ في الدُّنيا تشريعاً إلهياً، يُجريه أنبياء الله وأولياؤه على الظالمين، ليكون فيه حِفظُ حَقِّ الفردِ أولاً بالاقتصاص من قاتله وظالمه، وحِفظُ النَّوعِ ثانياً بقطع دابر الفساد ومَنع ما يُودِي إلى الهَرَج والمَرَج بين العباد.

وصارَ القصاصُ من القاتل في الآخرة أوَّل ما يوقف الله العباد عليه يوم القيامة، فعن النبي صلى الله عليه وآله: 
أَوَّلُ مَا يَحْكُمُ الله فِيهِ يَوْمَ القِيَامَةِ الدِّمَاءُ، فَيُوقِفُ ابْنَيْ آدَمَ فَيَفْصِلُ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمَا مِنْ أَصْحَابِ الدِّمَاءِ.. حَتَّى يَأْتِيَ المَقْتُولُ بِقَاتِلِهِ فَيَتَشَخَّبَ فِي دَمِهِ وَجْهُهُ فَيَقُولَ: هَذَا قَتَلَنِي، فَيَقُولُ: أَنْتَ قَتَلْتَهُ؟ فَلَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَكْتُمَ الله حَدِيثاً (الكافي ج7 ص271).

فإنَّ خطورة الأمر قد جعلت محكمةَ الدِّماء سابقة لغيرها من المحاكم في يوم الجزاء، وقد لحظت حكمةُ السماء خطورة الأمر فجعلت المقتول يُحشرُ على هيئة المظلوم في ذلك اليوم، بحيث لا يجفُّ دمُه في تلك المحكمة بل يشخب ويسيل مُدَلِّلاً على ظالمه، بحيث يُسقط في يد القاتل فلا يتمكن من الإنكار، في محضر العزيز الجبار.

ويصدر في تلك المحكمة حُكمٌ يُخبرنا به الصادق عليه السلام بأنَّه: لَا يَدْخُلُ الجَنَّةَ سَافِكُ الدَّمِ وَلَا شَارِبُ الخَمْرِ وَلَا مَشَّاءٌ بِنَمِيمٍ (الكافي ج7 ص273).

ويتلوه أو يسبقُه حكمٌ آخر عن لسان الله تعالى لنبيِّه موسى عليه السلام: إِيَّاكُمْ وَقَتْلَ النَّفْسِ الْحَرَامِ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَمَنْ قَتَل‏ مِنْكُمْ نَفْساً فِي الدُّنْيَا قَتَلَهُ الله فِي النَّارِ مِائَةَ أَلْفِ قَتْلَةٍ مِثْلَ قَتْلَةِ صَاحِبِه‏ (المحاسن ج1 ص106).

ولئن كان هذا الرَّقمُ مَهولاً، فإنَّ العَبدَ يخشى من قَتلةٍ يُقتلُ بها في الدُّنيا، فكيف بمئة ألف قتلةٍ في يوم الجزاء.. إلا أن هذا لا يعني انتهاء عذابه بذلك، بل أعدَّ الله تعالى للقاتل قاتلاً لا يموت!

فعن النبي (ص) مُحَدِّثاً عن الرجل القويِّ الذي يستغلُّ قوَّته في سفك دماء العباد: 
لَا يَغُرَّنَّكُمْ رَحْبُ الذِّرَاعَيْنِ بِالدَّمِ، فَإِنَّ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَاتِلًا لَا يَمُوتُ!
قَالُوا: يَا رَسُولَ الله، وَمَا قَاتِلٌ لَا يَمُوتُ؟
فَقَالَ: النَّارُ (الكافي ج7 ص272).

فلئن قَتَلَ القاتلُ بريئاً مرَّةً، قَتَلَهُ الله مئة ألف قتلةٍ مثلما فعل بالمقتول، ثم أخلده الله إلى نارٍ تَظَلُّ تقتله أبد الآبدين، ودهر الداهرين.

هذا كلُّه لو كان المقتول واحداً، ولكن.. ماذا لو تعدَّدَ المقتولُ؟ فقتلَ شخصٌ واحدٌ ثانيةً وثالثةً ورابعةً؟ 
إنَّ للقاتل موضعاً من جهنم يدخُلُه سواءُ قتَلَ شخصاً أم قتل الناس جميعاً، لكنَّ مقدار العذاب يُضاعَفُ عليه بعدد من يقتل.

فعن الباقر عليه السلام: يُوضَعُ فِي مَوْضِعٍ مِنْ جَهَنَّمَ إِلَيْهِ يَنْتَهِي شِدَّةُ عَذَابِ أَهْلِهَا لَوْ قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً: أي أنَّ القاتلَ لواحدٍ يتساوى في الموضع مع القاتل لكلِّ الناس، غاية الأمر أن الأخير: يُضَاعَفُ عَلَيْهِ (الكافي ج‏7 ص271).

لقد تبيَّنَ بهذا أنَّ القتلَ مِن أعظم الجرائم وأخطرها على الإطلاق، وأنَّ الله تعالى أعدَّ للقاتل منزلةً كما لو أنَّه قتل أهل الأرض جميعاً، وان تفاوَتَ القَتَلَةُ في مقدار العذاب في تلك المنزلة، وهي وادٍ في جهنم مختصٍّ بهم.

لكنَّ لهذه الآية (مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ..) تأويلٌ أعظم، ومصداقٌ أتمّ، يكشفُ عن أمرٍ أشدَّ خطورةً، فكما أنَّ إحياء النفس كإحياء أهل الأرض، وقتل النفس كقتل أهل الأرض جميعاً.

فإنَّ في هداية النَّفس إلى الهدى والحقِّ إحياءٌ لها.
وفي إضلالها عن الحق وتوجيهها إلى الباطل قتلٌ لها.

فدعوة النفس للحق والباطل ثم استجابتها (تأويلها الأعظم) (تفسير العياشي ج‏1 ص313).

فإنَّ مَن أعان مؤمناً وأنقذه من الحَرقِ أو الغَرَق أو العدوّ فحفظَ حياته كان كمن أحيا الناس جميعاً، ومَن دعا مؤمناً للحق فاستجاب له كان كمَن هدى الناس جميعاً.

وأين حِفظُ حياة العبدِ على أهميَّتها من حِفظ دينه وإرشاده إلى ربه عزَّ وجل؟!

وقد قال الصادق عليه السلام في هذه الآية:
مَنْ أَخْرَجَهَا مِنْ ضَلَالَةٍ إِلَى هُدًى فَقَدْ أَحْيَاهَا.
وَمَنْ أَخْرَجَهَا مِنْ هُدًى إِلَى ضَلَالٍ فَقَدْ قَتَلَهَا! (المحاسن ج‏1 ص232).

هكذا يتبيَّن أنَّ المجتمعات البشريَّة ما أخطأت عندما أخذت بيد القاتل لتمنعه عن تنفيذ جريمته.

وما حادت عن الصواب عندما عاقبت القاتل بالقتل حِفظاً للنوع الإنساني وللنظم العام، ومنعاً من انتشار الفساد، واستئصالاً لشأفته، ودرءاً لخطره.
وأنَّها كُلَّما تهاوَنَت في إنزال العقاب بالقَتَلَة تفشَّت فيها الجريمة، واستسهلَ أبناؤها القتلَ وإن كان أعظم عند الله تعالى مما عداه.

لكن.. 
رغم ذلك.. غَفِلَت أغلبُ الأمم مراعاة الأسباب، فإنَّ القتل نتيجةٌ لقسوة القلوب وموتها، وما ذاك إلا لكثرة الذنوب والبعد عن الله تعالى.

ولطالما غضَّ الناسُ الطَّرفَ عن أبواق الضلال، وتجنَّبوا الوقوف في وجهها، فتُرِكَ الأمرُ بالمعروف والنهي عن المنكر.. فظهر من ألوية الضلال ما سهَّلَ نشرَ الرذيلة والفساد، والقتلُ من أعظم أفراده.

وليس للأمَّةِ خلاصٌ ممّا أصابها إلا بالعَودِ إلى الله سبحانه، والتمسُّك بصراطه المستقيم، والأخذ بيد كلِّ مُفسدٍ في الأرض:

1. يقتلُ الناس بسلبهم أرواحهم.
2. أو يقتلهم بسلبهم أديانهم.

وكلاهما من أصحاب الفساد العظيم.

ولا يصحُّ الاعتذار بالحريَّة الشخصية في مجتمعات المؤمنين للتهاون مع هؤلاء، فإنَّ راكباً في السفينة يريدُ إعطابها وقتلَ أهلها مَعَه لا يُسمحُ له بحالٍ أن يُقدم على ما يريد.

وهكذا مجتمعات المؤمنين، كلُّها في مركبٍ واحدٍ من مراكب الهُدى والرشاد، لا يصحُّ أن يُسمح لأحدٍ بأن يرفع فيه راية الضلال، ويقتل أبناءه، ويسلب أرواحهم أو أديانهم.

لهذا ضحَّى أعاظمُ الأمَّة بأنفُسِهِم، وهذا الحسين عليه السلام، بذل مهجته في الله تعالى ليستنقذ العباد (مِنَ الضَّلَالةِ وَالجَهَالةِ) (الى بَابِ الهُدَى وَالرَّشَاد).

فحَريٌّ بالمؤمنين أن يقفوا عند أسباب الإنحراف، ويقطعوا دابرَ الفساد، ويمنعوا كلَّ مظهَرٍ من مظاهر الجرأة على الله سبحانه وتعالى، ويهدموا معاول الضلال التي تسعى للفتك بالمؤمنين، لتردي بهم من شاهق الحقِّ إلى أودية الجهل والانحراف.

وأن يأخذوا بيد من يريد نشر الفساد فيمنعوه، قتلاً كان ذلك أو ترويجاً لسائر المحرَّمات جهاراً نهاراً، ليكونوا من الثابتين على الحق، فلا تأخذهم الهزاهز.

ثبَّتنا الله وجميع المؤمنين على الهدى والحق.
والحمد لله رب العالمين.

السبت 26 – 3 – 2022 م الموافق 23 شعبان 1443 هـ


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2022/03/26



كتابة تعليق لموضوع : يومَ يأتي المقتولُ بقاتِلِه!
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net