صفحة الكاتب : الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي

لِئامٌ.. في محضر الزَّهرَاء.. والحَورَاء !
الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

بسم الله الرحمن الرحيم

عن أمير المؤمنين عليه السلام أنَّه قال: 

إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى اطَّلَعَ إِلَى الْأَرْضِ فَاخْتَارَنَا: 
رسولُ الله تعالى وآلُهُ الأطهارُ هم خِيَرَةُ الله من خلقه، والله تعالى عَليمٌ حَكيمٌ لا يختار عَبَثاً، ولا ينتخبُ اعتباطاً، لا يرفَعُ حقيرَ النَّفس، ولا يَضَعُ الشَّريفَ العزيز، سبحانه مِن إلهٍ لا تتناهى عظمته.

لقد كشَفَ اختيارُ الله تعالى لهذه الثُلَّةِ الطاهرة أنَّهُم الصفوة وأهلُ الكمال، فحازوا عنده عَظيمَ الدّرجات، ثم تلاهم في الفضل شيعتهم !

يقول عليه السلام:

وَاخْتَارَ لَنَا شِيعَةً:

1. يَنْصُرُونَنَا 
2. وَيَفْرَحُونَ لِفَرَحِنَا 
3. وَيَحْزَنُونَ لِحُزْنِنَا (الخصال ج2 ص635).

فكان الشيعةُ أفضلَ الخَلقِ بعدَ محمدٍ وآله عليهم السلام، وهم لا يقتصرون على المؤمنين من أصحاب النبي وآله، ولا على أتباعهم المقرّين بفضلهم إلى يوم الدين، بل يدخل في شيعتهم أنبياء الله المتقدَّمون وغيرهم..

يتميَّزُ هؤلاء الشيعة بالنُّصرةِ لآل محمد، قولاً وفِعلاً، والفرح لفرحهم، والحزن لحزنهم.

وتبرُزُ هذه الصفات الثلاثة جليَّةً عند الشيعة الأبرار في هذه الأيام المباركة، أيامُ ولادةِ عَظيمةٍ من عظيمات الأسرة الطاهرة، سَيِّدَةٍ جليلةٍ، يحارُ أكابرُ الشيعة في منزلتها ومكانتها عند الله تعالى.

إنَّها عقيلة بني هاشم، وفخر المخدرات، وسليلة المجد والشَّرف، زينب بنت عليٍّ وفاطمة عليهم السلام.

هي مُناسبةٌ عظيمةٌ تَظهَرُ فيها:

1. نُصرَةُ المؤمنين للعترة الطاهرة، بإحياء أمرهم فيها، وزيارة قبورهم وتعاهدها، وبيان فضائلهم وذكر مناقبهم.. سيَّما الحوراء زينب عليها السلام.

2. وفرَحُ المحبّين لآل محمد حيث تطربُ القلوب في ذكرى الولادة الميمونة. 

3. وحُزنٌ مقرونٌ وممزوجٌ بالفرح، لا يُغادِرُ محافِلَ آل محمدٍ حتى في أعيادهم، فعنهم عليهم السلام: مَا مِنْ عِيدٍ لِلْمُسْلِمِينَ.. إِلَّا وَهُوَ يُجَدِّدُ لآِلِ مُحَمَّدٍ فِيهِ حُزْناً (الكافي ج4 ص170).

يستذكرُ المؤمنُ في هذه الأيام زينب عليها السلام، ومَن كانت لها قدوةً وأسوةً ومثالاً: أمُّها الزهراء عليها السلام..

لقد ورثت الحوراء من أمِّها إرثاً عظيماً تنوء الجبال عن حمله، سَمَت به إلى العلياء، ونالَت به معاقد العزّ والشَرَف، وضاهت به الأنبياء والمُرسَلين، حين وَرِثَت من أمِّها (العلم والفَهم) من غَيرِ مُعَلِّمٍ ولا مُفَهِّمٍ، سوى الله عزّ وجل !

حتى قال لها الإمام المعصوم عليه السلام: وَأَنْتِ بِحَمْدِ اللَّهِ عَالِمَةٌ غَيْرُ مُعَلَّمَةٍ، فَهِمَةٌ غَيْرُ مُفَهَّمَة ! (الإحتجاج ج2 ص305).

فما كان لزينب عليها السلام مُعَلِّمٌ كسائر الخلق، بل كان تعليمُها من الله تعالى، وهيَ خصيصةُ أقرب الخلق إلى الله تعالى، كما وصفهم عزَّ وجلَّ في كتابه، فقال عن يعقوب عليه السلام: (وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناه‏) (يوسف68)
وعن داوود وسليمان: (فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلاًّ آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً) (الأنبياء79)
وعن الخضر: (وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً) (الكهف65)

ثم عن نبيه محمد صلى الله عليه وآله: (عَلَّمَهُ شَديدُ الْقُوى‏) (النجم5)

هكذا ضاهَت هذه السيِّدَةُ العظيمةُ الأنبياء.. في تلقِّي علوم السماء !
فأعطاها الله تعالى قُدرةً فائقة على الفَهم فلا تحتاجُ لتَفهيمٍ من أحد !

فمَن ذا يُدرِكُ شأنَها ؟! أو يعرفُ مِقدارَ فضلها ؟! 
وما الذي اتَّصَفَت به حتى صارت مستحقَّةً لهذا التعظيم من إله السماء ؟!

إنَّه أمرٌ يُحَيِّرُ العقول.. فنطوي عنه كشحاً، ونتأمَّل في مواقفها، حيث يستوقفنا موقفٌ تَطابَقَ فيه قولُها مع قولِ أمِّها الزَّهراء عليها السلام، في واحدٍ من أشدِّ الظروف التي قد تمرُّ بها امرأة في التاريخ.

موقفٌ ظَهَرَ فيه لؤم الأعداء مع الأم وابنتها، حيث حُكّامٌ يَرَونَ أنَّ لهم حقّ قَهرِ النساء ولو كنّ على هذه الدَّرَجة من العظمة ! لا لشيءٍ إلا لدَناءَةٍ وخساسَةٍ فيهم.. وحَسَدٍ وحقدٍ دفينٍ.. وخُبثٍ قلَّ نظيره، يسري منهم إلى حواشيهم ومَن حولهم..

الموقف الأول: لئيمٌ.. في محضر الزَّهراء !

كانت فَدَك أرضاً تحت يد الزهراء عليها السلام، أنحَلَها إياها النبيُّ صلى الله عليه وآله، فأراد الغاصبان سلبها، فقالت لهما: أَ لَيْسَتْ فِي يَدِي ؟ وَفِيهَا وَكِيلِي ؟ وَقَدْ أَكَلْتُ غَلَّتَهَا وَرَسُولُ الله (ص) حَيٌّ ؟

قَالا: بَلَى !

ليس لهما أن يطلُبا منها البَيِّنة، لأن فدَك تحتَ يدها، وهما المُدّعيان أنها فيءٌ للمسلمين، والبيِّنةُ لازمةٌ عليهما.

أتَمَّت عليها السلام الحجةَ عليهما حين قالت: 
أَ رَأَيْتُمَا إِنِ ادَّعَيْتُ مَا فِي أَيْدِي المُسْلِمِينَ مِنْ أَمْوَالهِمْ أَ تَسْالونَنِي البَيِّنَةَ أَمْ تَسْألونَهُمْ ؟
قَالا: بَلْ نَسْألكِ.

قَالتْ: فَإِنِ ادَّعَى جَمِيعُ المُسْلِمِينَ مَا فِي يَدِي تَسْألونَهُمُ البَيِّنَةَ أَمْ تَسْألونَنِي ؟
فَغَضِبَ عُمَرُ !

هكذا يغضبُ أهلُ الباطل من صوتِ الحقِّ المدوي جَلياً، يتلاعب الأوّلان بدين الله تعالى، ولمّا يعلو صوتُ الحق بالحجة، يصيرُ الغضبُ سلاحاً، ويتمسَّكُ الغاصِبان بضرورة البيِّنة !

تَحتجُّ عليهما بما سَمِعا من كلام النبيِّ صلى الله عليه وآله، من أنَّها سيدة نساء أهل الجنة، فيقرّا بذلك، فتقول: 

أَ فَسَيِّدَةُ نِسَاءِ أَهْلِ الجَنَّةِ تَدَّعِي البَاطِلَ وَتَأْخُذُ مَا لَيْسَ لَهَا ؟! 
أَ رَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ أَرْبَعَةً شَهِدُوا عَلَيَّ بِفَاحِشَةٍ أَوْ رَجُلَانِ بِسَرِقَةٍ أَ كُنْتُمْ مُصَدِّقِينَ عَلَيَّ ؟

فَأَمَّا أَبُو بَكْرٍ فَسَكَتَ، أَمَّا عُمَرُ فَقَال: نَعَمْ ! وَنُوقِعُ عَلَيْكَ الحَدَّ !

فَقَالتْ: كَذَبْتَ وَلَؤُمْتَ ! 
الا أَنْ تُقِرَّ أَنَّكَ لَسْتَ عَلَى دِينِ مُحَمَّدٍ (ص) !

إِنَّ الذِي يُجِيزُ عَلَى سَيِّدَةِ نِسَاءِ أَهْلِ الجَنَّةِ شَهَادَةً أَوْ يُقِيمُ عَلَيْهَا حَدّاً لَمَلْعُونٌ كَافِرٌ بِمَا أَنْزَلَ الله عَلَى مُحَمَّدٍ (ص) (سليم بن قيس ج2 ص678).

هكذا يكون اللّئام ! كلمةٌ لا يزال صداها يتردَّدُ على مرِّ التاريخ: (كَذَبْتَ وَلَؤُمْتَ) ! 
اللهُ تعالى يشهد بطهارة الزهراء عليها السلام ! وهنا لَئيمٌ مُستَعِدٌ لإقامة الحَدِّ على أطهَرِ مخلوقةٍ في الوجود ! بعدما رَدَّ كلامها !

إنَّ اللؤم خُلُقٌ رديءٌ يرجع إلى دناءة الأصل وحقارة النَّفس ! وهو داءٌ لا دواء له ! 

الموقف الثاني:  لئيمٌ.. في محضر الحوراء !

أسَّسَت حقارَةُ الأوَّلين لآلاف الظلامات على آل محمد ! حتى آل الأمرُ إلى أن تدخُلَ الحوراء زينب مع الإمام زين العابدين عليه السلام وسائر العلويَّات إلى مجلس الطاغية يزيد، حيثُ يقوم رجلٌ شاميٌّ إلى يزيد فيقول له: 

يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ ! هَبْ لِي هَذِهِ الجَارِيَةَ، يَعْنِي فَاطِمَةَ بِنْتَ الحُسَيْنِ !

سَلَبَ الأوائلُ فَدَكاً والإمامة، وسَلَبَ مَن وَرِثَهم خيامَ الحسين عليه السلام، أما قِمَّة الحقارة، ففيمن يريد أن يسلُبَ ابنة الحسين نفسَها وذاتَها ! لا قِرطَها وخلخالها !

فلاذَت بالحوراء: فَأَخَذَتْ بِثِيَابِ عَمَّتِهَا زَيْنَبَ بِنْتِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالبٍ (ع) فَقَالَتْ: أُوتَمُ وَأُسْتَخْدَمُ ؟!

لا حول ولا قوّةَ إلا بالله.. كلمةٌ تُقَطِّعُ القلوب.
يكفي تصوُّرُ بنات الوحي وهنَّ على هذه الحالة، لكي تضطربَ أركانُ المؤمن.. 

أمّا الحوراءُ زينب، فإنَّها تستحضرُ موقفَ أمِّها الزَّهراء، حين قالت للثاني: (كَذَبْتَ وَلَؤُمْتَ).

فَقَالتْ زَيْنَبُ لِلشَّامِيِّ: كَذَبْتَ وَلَؤُمْتَ !
وَالله مَا ذَاكَ لَكَ وَلَا لَهُ ! 

موقفٌ كمَوقِف أمِّها الطاهرة.. يمتلئ عِزّاً وعَظَمةً وهَيبةً وجَلالة، من امرأةٍ في محضر الأجلاف ! 

وكما غَضِبَ عُمَر من قول أمها، غضب يزيدُ من قولها، ثُمَّ قَال: إِنَّ ذَلِكِ لِي، وَلَوْ شِئْتُ أَنْ أَفْعَلَ لَفَعَلْتُ !
قَالتْ زَيْنَبُ: كَلَّا وَالله، مَا جَعَلَ الله ذَلِكَ لَكَ، الا أَنْ تَخْرُجَ مِنْ مِلَّتِنَا، وَتَدِينَ بِغَيْرِ دِينِنَا ! (الاحتجاج ج‏2 ص310).

هو مَجلِسٌ أفرَغَت فيه الحوراءُ زينب عن لسان أبيها وأمها، فليس في جلوس (اللئام) بمحضرها هَواناً بها من الله، بل طَيشٌ وجَهلٌ منهم، واستدراجٌ وإملاءٌ من الله تعالى، وهم أهلُ الجحود لأمر الله ورسوله، مَن أظهروا الكفرَ قولاً وعَمَلاً.

وليس أبلغَ مِن قولها عليها السلام فيهم:
فَتِلْكَ قُلُوبٌ قَاسِيَةٌ، وَنُفُوسٌ طَاغِيَةٌ، وَأَجْسَامٌ مَحْشُوَّةٌ بِسَخَطِ الله وَلَعْنَةِ الرَّسُولِ، قَدْ عَشَّشَ فِيهَا الشَّيْطَانُ وَفَرَخَ ! (الاحتجاج ج‏2 ص309).

هكذا تجلّى في الحوراء نَبَضُ الرسالة المحمدية، وروح الإمامة العلوية، وسموّ الحكمَة الحسنية، وعَبَقُ الشهادة الحسينية.. 

هكذا هي وريثةُ أمِّها الزَّهراء، وسَليلة الشَّرَفِ والطُّهر، تلهَجُ بالحقِّ في محضر اللئام ! وقد وصفهم بذلك الحسين عليه السلام من قبلُ حين أبى أن يؤثر: طَاعَةَ اللِّئَامِ عَلَى مَصَارِعِ الكِرَامِ ! (اللهوف ص98).

سَلامُ الله على الحوراء زينب.. 
المرأة العظيمة التي تَتَرَقرَقُ العَبَراتُ لذكرها، حتى في أيام ولادتها.. فسلام الله عليها آناء الليل وأطراف النهار..

رزَقَنا الله في الدنيا زيارتها، وفي الآخرة شفاعتها، وحشرنا معها ومع أخويها وأمها وأبيها وجدها..

والحمد لله رب العالمين
 


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2021/12/09



كتابة تعليق لموضوع : لِئامٌ.. في محضر الزَّهرَاء.. والحَورَاء !
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net