صفحة الكاتب : الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي

لماذا يبكي الشيعةُ الحسين ؟!
الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

 بسم الله الرحمن الرحيم
 
قَالَ أَبُو عَبْدِ الله الحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ (ع):
أَنَا قَتِيلُ العَبْرَةِ، لَا يَذْكُرُنِي مُؤْمِنٌ إِلَّا اسْتَعْبَرَ (الأمالي للصدوق ص137).
 
الإمامُ المعصوم، سَيِّدُ شباب أهل الجنة، يُحَدِّثُ عن نفسِه قَبلَ أن يُستشهَد..
 
هو مظلومٌ.. ولكنَّهُ ما قال أنَّه قتيل الظُّلامة..
هو شهيدُ الهدُى.. ولكنَّهُ ما قال أنَّهُ قتيلُ الهُدى..
 
بل قال: أَنَا قَتِيلُ العَبْرَةِ !
(العَبْرَةُ) هي (الدَّمْعَةُ)، وعَبْرَةُ الدَّمْعِ: جَرْيُه، واسْتَعْبَرَ: جَرَت عَبْرَتُهُ.
 
هُوَ قتيلُ الدُّمعة إذاً !
فمَن ذا الذي بَكاهُ حتى صار قتيلَ العَبرة ؟!
لقد ورد عنهم عليهم السلام أنَّه قد: بَكَتْهُ السَّمَاءُ وَمَنْ فِيهَا !
وَالأَرْضِ وَمَنْ عَلَيْهَا ! وَلَمَّا يَطَأْ لَابَتَيْهَا ! (مصباح المتهجد ج‏2 ص826).
 
لكنَّ الحديثَ خصَّ المؤمنين بالبكاء فقال: لَا يَذْكُرُنِي مُؤْمِنٌ إِلَّا اسْتَعْبَرَ !
 
فلماذا يبكي المؤمنون الحسين عليه السلام ؟ ولماذا تجري عَبرَتُهم عليه ؟
 
هل يبكونه لنَيلِ الثواب ؟! وغفران الذُّنوب ؟! والنَّفع وجَني الثِّمار ؟!
أم يبكونَه حُبَّاً له ورحمةً به وشفقةً عليه ؟!
 
يعلم المؤمنون أنَّ للبكاء آثاراً عجيبة، لكنَّهم لا يبكون لأجلها.
 
فمَن قال أنّهم يبكون لغَرَضٍ يطلبونه ؟!
 
إن البكاء أثَرٌ لعاطِفَةٍ جيّاشةٍ، بحيث تدمع عينُ المحبِّ بعدما يعتصرُ قلبُه ألماً.. وقلوبُ المؤمنين تنكسرُ عند ذكر الحسين عليه السلام، والله تعالى عند المنكسِرَةِ قلوبهم.
 
ههنا يقول قائل:
لماذا تبكون وتعصون ؟!
لماذا تبكون ومجتمعكم متخلِّف جاهلٌ ؟!
 
فيُجيبُ مؤمنٌ:
نعصي لأنّنا لا نعرفُ الحسين حقاً، ونجهلُ ولا تستقيمُ أمورنا لأنّا لم نعطي آل محمد حقَّهم.
 
ظننتُم أنّنا نبكي الحسين لنتعلّم منه؟
 
لا والله.. إنّا وإن كنا نتعلم منه كل يومٍ وليلةٍ كيف نحيا بعِزَّةٍ وكرامة.. لكننا نبكيه لأن الله تعالى زَرَعَ في قلوبنا حبَّه ولَيَّنَها له.
 
هل يُفَكِّرُ العاقلُ بفائدة البكاء عند فقد الأحبة؟! أم تسيلُ عيناهُ عَطفاً وشفقةً ورحمةً لهم ؟!
ومَن أحبُّ إلى قَلب المؤمن من الحسين عليه السلام وآل الحسين ؟!
 
وهذا الإمام زين العابدين عليه السلام يتحدَّثُ عن حال الإمام الحسين عليه السلام لما برز ابنه عليّ للميدان:
فَلَمَّا بَرَزَ إِلَيْهِمْ دَمَعَتْ عَيْنُ الحُسَيْنِ (ع)، فَقَالَ: اللهمَّ كُنْ أَنْتَ الشَّهِيدَ عَلَيْهِمْ، فَقَدْ بَرَزَ إِلَيْهِمُ ابْنُ رَسُولِكَ، وَأَشْبَهُ النَّاسِ وَجْهاً وَسَمْتاً بِه‏ (الأمالي  للصدوق ص162).
 
فسالَت دموعُ الحسين عليه السلام رحمةً بولده وحُبَّاً له، وسالَت دموعُ الشيعة حُبَّاً للحسين عليه السلام ورحمةً له.
 
يوم الحسين أقرح جفوننا.. وأسبل دموعنا !
 
يقول الإمام الرضا عليه السلام:
إِنَّ يَوْمَ الحُسَيْنِ أَقْرَحَ جُفُونَنَا ! وَأَسْبَلَ دُمُوعَنَا ! (الأمالي للصدوق 127).
 
ههنا تحارُ العقول !
يعودُ الباحثُ إلى كُتُبِ اللغة لينظر في هذه الكلمات ومعانيها، فيجد أن الجَفْنَ معروفٌ واضحٌ، وهو غطاءُ العين مِن أَعلى وأَسفل.
 
أمّا القَرحُ، فهو الجُرحُ من أثر السِّلَاحِ، أو ألمُ الجِراح، أو الأثرُ من الجرح أو مِن غيرِه، كما يُقال: ما زلت آكل الورق حتى أقرح شفتيَّ.
وأَسْبَلَ المطرُ والدمعُ، إذا هطل.
 
فما الذي جرى مع آل محمدٍ عليهم السلام ؟! والإمام لا يتحدث عن نفسه فقط، بل (عنهم) عليهم السلام.
 
لقد هَطَلَت دموعهم لأجل الحسين عليه السلام، فتتابعت قطراتُها وسالَت، لكن إلى أيِّ حدّ؟
إلى حدِّ أنَّ أجفان آل محمدٍ قد تقرَّحَت !
 
فهَل أصابَ أجفانَ آل محمدٍ ما يُشبهُ الجراحَ من كثرة الدَّمع على الحسين؟! هل تشقَّقَت من الدموع كما يتشقَّقُ الجِلدُ من أثرِ السيف ؟!
أم كانت عيونُهم تتألَّمُ من أثَرِ البكاء كما تتألَّمُ قلوبُهم على الحسين ؟!
 
العبارةُ تحتمِلُ كلَّ ذلك، والله العالِمُ بحالِ تلك الأسرة الشريفة وعيونِها الطاهرة، وما تحمَّلَت وعانت، مما جرى على الحسين عليه السلام.
 
البكاءُ رحمةً للحسين !
 
لا يبكي الشيعةُ الحسينَ إذاً لتُغفَرَ ذنوبُهم وإن كانت تُغفر بذلك، وهل بكاه الرَّسول لتُغفَرَ ذنوبُه وهو المعصوم المطهَّر ؟!
 
ولا يبكيه الشيعةُ ليتعلّموا من مدرسته ويتطوروا وإن تعلَّموا منها وارتقوا، وهل بكاه ملائكة الرحمان لأجل ذلك ؟!
 
لقد دعا الإمام الصادق عليه السلام للعيون التي جَرَت دموُعها على آل محمد (ص)، لكنَّ سبب جريان الدُّموع في دعائه ما كان شيئاً سوى الرَّحمة لآل محمد عليهم السلام، فقال عليه السلام:
 
وَارْحَمْ تِلْكَ الأَعْيُنَ الَّتِي جَرَتْ دُمُوعُهَا رَحْمَةً لَنَا ! وَارْحَمْ تِلْكَ القُلُوبَ الَّتِي جَزِعَتْ وَاحْتَرَقَتْ لَنَا ! (كامل الزيارات ص117).
 
هيَ قلوبٌ عُجِنَت على حبِّ محمدٍ وآله، فجَزعَت واحترقت لهم، وأخَذَ هذا الجزع بيد أصحابها إلى طريق الله.
كيف لا ونور الإمام في قلوب المؤمنين: أَنْوَرُ مِنَ الشَّمْسِ المُضِيئَةِ بِالنَّهَار.
 
لقد طلبَ الإمام العسكريُّ عليه السلام من الله تعالى أن يصلي على الباكين على الحسين، وما كان بكاؤهم إلا (رحمةً وشفقةً) له عليه السلام، يقول الإمام:
أَلَا وَصَلَّى الله عَلَى البَاكِينَ عَلَى الحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ (ع) رَحْمَةً وَشَفَقَةً (تفسير الإمام ص369).
 
فأيُّ ثناءٍ استحقَّهُ هؤلاء لبكائهم رحمةً على الحسين ؟! وأيُّ رحمةٍ من الله تتنزل عليهم بذلك ؟!
 
دموع الباكين وماء الحياة !
 
عن الإمام عليه السلام:
[أَلَا] إِنَّ الله لَيَأْمُرُ المَلَائِكَةَ المُقَرَّبِينَ أَنْ يَتَلَقَّوْا دُمُوعَهُمُ المَصْبُوبَةَ لِقَتْلِ الحُسَيْنِ (ع) إِلَى الخُزَّانِ فِي الجِنَانِ، فَيَمْزِجُونَهَا بِمَاءِ الحَيَوَانِ، فَيَزِيدُ فِي عُذُوبَتِهَا وَطِيبِهَا ألفَ ضِعْفِهَا !
 
لقد اختار الله تعالى آل محمد والنبيين والملائكة المقرَّبين وفضَّلهم على غيرهم لعلمه بأنّهم: لَا يُوَاقِعُونَ مَا يَخْرُجُونَ بِهِ عَنْ وَلَايَتِه‏ (عيون أخبار الرضا ج1 ص270).
 
وهؤلاء الملائكة هم الصفوة والنُّخبة، وهم الذين يتلقَّون دموع الشيعة التي تبكي الحسين !
 
الدَّمعُ في الظاهر يسقط على خدود الباكين أوّلاً ثمّ يتناثر.. لكنَّ الملائكة المقربين يتلقَّون الدُّموع ويذهبون بها إلى خزّان الجنان، فيمزجونها بماء الحياة، والله يعلَمُ ما هو..
 
فتصيرُ دموعُ الباكين عذبَةً طيِّبَةً بعدما كانت مالحة !
 
ماذا يفعلُ بها الملائكة بعد ذلك ؟! عِلمُ ذلك عند الله تعالى، لكنّ ما نعلمه هو أنّ هذه الدموع هي التي قال عنها الإمام عليه السلام:
وَمَا بَكَى أَحَدٌ رَحْمَةً لَنَا وَلِمَا لَقِينَا إِلَّا رَحِمَهُ الله قَبْلَ أَنْ تَخْرُجَ الدَّمْعَةُ مِنْ عَيْنِهِ، فَإِذَا سَالَتْ دُمُوعُهُ عَلَى خَدِّهِ، فَلَوْ أَنَّ قَطْرَةً مِنْ دُمُوعِهِ سَقَطَتْ فِي جَهَنَّمَ لَأَطْفَأَتْ حَرَّهَا حَتَّى لَا يُوجَدَ لَهَا حَرٌّ! (كامل الزيارات ص102).
 
أيُّ معادلةٍ هذه لقطراتٍ سالت على الحسين الشَّهيد ؟! ومَن ذا يُدركُ أبعادَ ذلك وعظمته ؟!
 
لقد قال الإمام زينُ العابدين عليه السلام: أَيُّمَا مُؤْمِنٍ دَمَعَتْ عَيْنَاهُ حَتَّى تَسِيلَ عَلَى خَدِّهِ فِينَا لِأَذًى مَسَّنَا مِنْ عَدُوِّنَا فِي الدُّنْيَا بَوَّأَهُ الله بِهَا فِي الجَنَّةِ مُبَوَّأَ صِدْقٍ (كامل الزيارات ص100).
 
هكذا صارَ الحُسينُ قتيلَ العَبرة ! يبكيه المؤمنون أسىً ورحمةً وشفقةً عليه، وحبَّاً به عليه السلام.
 
فيجزيهم ربُّهم ثواباً عظيماً، ويجعل يومهم في القيامة يومَ فرحٍ وسرور، ويقرّ أعينهم بذلك.
 
اللهم اجعلنا منهم، وعظِّم أجورنا بمصابنا بسيِّد الشهداء، واحشرنا معه بحق دموع الباكين عليه.
وإنا لله وإنا إليه راجعون.
 


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2021/08/15



كتابة تعليق لموضوع : لماذا يبكي الشيعةُ الحسين ؟!
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net