صفحة الكاتب : الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي

عاشوراء.. سرُّ الله !!
الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

بسم الله الرحمن الرحيم
 
زلزالٌ في نواميس الطبيعة.. هذا ما يعتقد الشيعة أنَّهُ جرى في يوم عاشوراء، حيث اقشعرَّت أظلّة العرش، وبكت السماوات والأرض !
وهيّجت عاشوراءُ الحرارةَ في قلوب المؤمنين، ولا تزال تنقلهم إلى عالَم الألم والحزن والبكاء..
 
ولطالما حاول المؤمنون فَهمَ شيءٍ ممّا جرى في ذلك اليوم الرَّهيب.. يوم الحسين.. يوم عاشوراء.. يوم الكآبة والحُزن عند المعصومين، يوم الكرب والبلاء..
لأنهم يؤمنون بأن العِلم والفَهم خيرٌ محض.. ولأنَّ الحُبَّ المقرونَ بالمعرِفَةِ أسمى وأشرف وأرفع..
فقطعوا أشواطاً في فَهم ما بلغهم عن مفردات عاشوراء..
 
وغاصوا في قراءاتٍ تحليليةٍ لكلِّ محور من محاورها..
وتمعَّنوا في الظروف الموضوعيّة لتلك الأحداث.. وبثوا ذلك في كتبهم.. ونطقَ به علماؤهم، ولهج به خطباؤهم، وحفظه عامَّتُهُم عن ظهر قَلب..
 
ولا ينازعنّ عاقلٌ في رجحان ذلك، فإن فيه تشجيعاً على التعقُّل والتفهم والتدبُّر والمعرفة..
 
لكنَّ الشيعة ما غاب عنهم يوماً أنَّ فهمهم هذا إنما هو فهمٌ إنسانيٌّ بحسبهم، يتناسب مع مستوى إدراكهم، دون أن يبلغ حقائق الأمور التي لا يدركها إلا المعصوم!
 
وقراءةُ فعل المعصوم بحسب المعطيات والظروف الموضوعية وإن كان يتناسب مع تعامل الشريعة بحسب الظواهر بلا شك، لكنه لا يُظهر لنا ملاك تصرف المعصوم، ولا يكشف لنا أسرار وأبعاد فعله بالكامل، فهذا مما لا سبيل لإدراك شيءٍ منه إلا بتوسُّط المعصوم نفسه..
 
فإنَّ الشيعة يُفَرِّقون بين إدراك بعض المصالح من أيِّ عمل، وبين الداعي والدافع لهذا العمل، والذي لا يعرفه إلا الله تعالى، العالم المحيط بالأمور، أو من أطلعه الله عليه.
 
ويعتقد الإمامية بأن الطريق الوحيد لمعرفة (علّة) الحكم الشرعي الثابت والإحاطة بكلّ جهاته تنحصر بنصّ المعصوم على ذلك.. وإن تَلَمَّسوا بعضَ الحِكَم والآثار لأيِّ حكم شرعي، وأدركوا توافقه مع الفطرة البشرية والحاجة الإنسانية على مر العصور..
 
وإذا كان ما ثبت بالنص هذا حاله، ففعل المعصوم (والفعلُ صامتٌ) أولى بعدم الإحاطة بأبعاده ما لم يخبر بها الإمام.
 
وإذا كانت هذه القرون تتوالى، ويغوصُ أساطينُ المذهب وكبارُ علمائه في روايات آل محمدٍ ليستخرجوا دُرَرَاً من الجمع بين (ظواهر) النصوص، والتنبُّه إلى (بعض إشاراتها)، فإنهم يقفون عند هذه الظواهر، ولا يزعمون أنهم أحاطوا بحقائق الأحكام وعللها.. إنما بما يعذُرُنا أمام الله تعالى في امتثال أوامره عز وجل..
 
ولقد تظافر النقل عنهم: إِنَّا لَنَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ بِهَا سَبْعُونَ وَجْهاً، لَنَا مِنْ كُلِّهَا الْمَخْرَج‏ (بصائر الدرجات ج1 ص329).
وقد روي عن أبي عبد الله ع:  يَا أَبَا مُحَمَّدٍ، إِنَّ عِنْدَنَا والله سِرّاً مِنْ سِرِّ الله، وَعِلْماً مِنْ عِلْمِ الله، وَالله مَا يَحْتَمِلُهُ:
1. مَلَكٌ مُقَرَّبٌ
2. وَلَا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ
3. وَلَا مُؤْمِنٌ امْتَحَنَ اللَّهُ قَلْبَهُ لِلْإِيمَانِ
وَالله مَا كَلَّفَ الله ذَلِكَ أَحَداً غَيْرَنَا، وَلَا اسْتَعْبَدَ بِذَلِكَ أَحَداً غَيْرَنَا (الكافي ج1 ص402).
 
أشار عليه السلام إلى صنفٍ أسمى من علومهم التي خصهم الله تعالى بها دون خلقه، حتى ملائكته المقربين، وأنبيائه المرسلين، وتعبير الإمام بالتكليف والعبادة (كَلَّفَ.. اسْتَعْبَدَ..) لا يعني ارتباطها بالأحكام الشرعية للخلق، فتلك مما أمروا بتبليغه، إنما هي علومٌ وتكاليفٌ وعباداتٌ خاصةٌ بينهم وبين ربهم عز وجل، تتناسب ومقامهم الشريف الذي لا يطمح له طامح.
 
والصِّنف الآخر من الأسرار والعلوم هو ما أُمِرُوا بتبليغه، فإنهم لم يجدوا له موضعاً حتى (خَلَقَ اللَّهُ لِذَلِكَ أَقْوَاماً.. فَقَبِلُوهُ وَاحْتَمَلُوهُ، وَبَلَغَهُمْ ذِكْرُنَا فَمَالَتْ قُلُوبُهُمْ إِلَى مَعْرِفَتِنَا وَحَدِيثِنَا..)
 
ومَن سوى هذه القلة المؤمنة (اشْمَأَزُّوا مِنْ ذَلِكَ، وَنَفَرَتْ قُلُوبُهُمْ، وَرَدُّوهُ عَلَيْنَا، وَلَمْ يَحْتَمِلُوهُ، وَكَذَّبُوا بِه‏) !
 
إنَّهُ إذاً عالَم الأسرار !
فَقِسمٌ من العلوم أمرهم الله ببلاغها، فقبلته فرقةٌ واشمأزت منه أخرى..
وقسمٌ اختصهم الله تعالى به، ضلَّت العقول وحارت الألباب عن وصف شأنٍ من شأنه !!
 
وكانوا أسراراً حملة للأسرار..
فورد في زيارة أول إمام منهم: يَا سِرَّ الله !
وأخبروا عن أنفسهم بأنهم: َ مَوْضِعُ سِرِّ الله !
وأنهم: الْبَابُ الْمَأْمُونُ عَلَى سِرِّ اللَّهِ الْمَكْنُون‏ !
 
ثم ما لبث المؤمن أن رأى نفسَه أمام حُجُبٍ مغلَقَة، فسَلَّمَ بأنه قرينُ الملائكة في لزوم الإقرار بالجهل!
1. أما الملائكة فلقوله تعالى (إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُون‏)
2. وأما الإنس فلقوله عز وجل (وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُون‏)
 
فأنَّى لنا أن نحيط خبراً بأسرار الله تعالى !
 
أفلا تكون عاشوراء التي خرقت كلَّ ميزانٍ سِرَّاً من سرّ الله ؟
 
أم كيف يمكن أن نفهم مفردةً من مفرداتها ؟
حسبُك ما قاله جبرئيل لسيد الكائنات في وصف ما جرى يوم عاشوراء..
 
قال عليه السلام: تَزَعْزَعَتِ الْأَرْضُ مِنْ أَقْطَارِهَا ! وَمَادَتِ الْجِبَالُ وَكَثُرَ اضْطِرَابُهَا ! وَاصْطَفَقَتِ الْبِحَارُ بِأَمْوَاجِهَا ! وَمَاجَتِ السَّمَاوَاتُ بِأَهْلِهَا ! غَضَباً لَكَ يَا مُحَمَّدُ وَلِذُرِّيَّتِكَ، وَاسْتِعْظَاماً لِمَا يَنْتَهِكُ مِنْ حُرْمَتِكَ..
وَلَا يَبْقَى شَيْ‏ءٌ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا اسْتَأْذَنَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فِي نُصْرَةِ أَهْلِكَ الْمُسْتَضْعَفِينَ الْمَظْلُومِينَ..
.. فَعِنْدَ ذَلِكَ يَضِجُّ كُلُّ شَيْ‏ءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرَضِينَ بِلَعْنِ مَنْ ظَلَمَ عِتْرَتَكَ وَاسْتَحَلَّ حُرْمَتَكَ (كامل الزيارات ص264).
 
كيف لنا أن نتصور ذلك على حقيقته فضلاً عن أن نحيط به ؟!
الأرض تتزعزع من أقطارها.. والجبالُ تميد.. والسماوات تموجُ بأهلها.. غَضَباً لما جرى على الحسين عليه السلام !!
 
الجمادات تستأذن الله تعالى في نصرة سيد الشهداء !!
ولمّا لم يأتها الإذن ضجّت باللعن على ظالميه !!
 
ولئن أدركت عقولنا القاصرة شيئاً مما يصلح لتقريب الصورة إلى الذِّهن، وإقناع المخاطَب أو المستمع، فأنّى لها أن تُدرك حقيقة قول سيّد الشهداء عليه السلام:
رَبِّ إِنْ تَكُنْ حَبَسْتَ عَنَّا النَّصْرَ مِنَ السَّمَاءِ فَاجْعَلْ ذَلِكَ لِمَا هُوَ خَيْرٌ ! (الإرشاد ج2 ص108).
 
نعم لا يُعدَم الشيعة فَهماً تقرُّ به قلوبهم، وتطمئن به نفوسهم، ويُلجِمُون به عدوهم، يستند إلى الحجة والبرهان التي توارثوها عن العترة الطاهرة..
 
فإنَّهم تَلَمَّسوا حِكَماً من أفعال المعصوم عليه السلام، وأدركوا وجوهاً محتملةً للكثير من تلك المفردات:
 
- كإخراج النساء والأطفال إلى عاشوراء، حيث تمت الحجة بذلك، وتكامل دور المأموم مع الإمام..
- وامتناع العباس عن شرب الماء عطشاناً مواساةً لإمامه المعصوم.
- وحمله الطفل الرضيع واستسقائه له وإظهار خلوّ القوم من الإنسانية مطلقاً..
- وميّزوا بين التصبُّر أمام العدو الشامت تارة، وبين إظهار الحزن والجزع وحتى الإدماء تارة أخرى..
 
وغيرها العشرات بل المئات مما يعرف أطفالُ الشيعة وعوامهم فضلاً عن علمائهم إجاباتٍ متعددةٍ عن وجه الحكمة فيها ولو على سبيل الإحتمال..
 
فَهُم ما ادَّعوا يوماً أنَّ فَهمهم هذا فهم إحاطة.. وكيف يحيطون بأسرار الله تعالى ؟!
وكيف يقيسون أفعال المعصوم على أنفسهم ؟!
 
إنّهم المُسَلِّمون لله ورسوله وعترته.. تَنَزَّهوا عما نَهَجَه الأراذلُ حُسَّادُ آل محمد، الذين صاروا مصداقاً لقوله تعالى (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى‏ ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِه‏).
 
وطَهَّروا قلوبهم بحبّ آل محمد فيما دنّسها غيرهم بحسد آل محمد..
فحملَ الحسدُ وطلبُ الدنيا أولئك على (الجحود والإنكار)..
 
فمنهم من لَبِسَ لباسَ العدوّ، فكان قاتلاً للحسين عليه السلام ولشيعته على مرّ التاريخ!
ومنهم من لَبِسَ لباس الصديق، فسلك منهج التشكيك بنهج محمد وآل محمد !
 
ولا نزال نعيشُ آثارَ يوم الطف، حينما قتلت أمّة الرسول فرخه، فقال جبرئيل عن هذه الأمة:
يَضْرِبُهَا اللَّهُ بِالاخْتِلَافِ فَتَخْتَلِفُ قُلُوبُهُم‏ (كامل الزيارات ص61).
 
وقال أصدق من أقلّت الغبراء أبو ذر الغفاري:
إِنَّ اللَّهَ سَيَسُلُّ سَيْفَهُ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ، لَا يَغْمِدُهُ أَبَداً، وَيَبْعَثُ نَاقِماً [قَائِماً] مِنْ ذُرِّيَّتِهِ فَيَنْتَقِمُ مِنَ النَّاسِ (كامل الزيارات ص74).
 
اللهم عجل لوليِّك الفرج.
واجعلنا من المنتقمين معه.
 
والحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه
 
أول محرم الحرام 1439 للهجرة
من جوار عمّة الجواد (ع).. واهبة الجنان.. فاطمة المعصومة عليها السلام


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2021/08/06



كتابة تعليق لموضوع : عاشوراء.. سرُّ الله !!
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net