صفحة الكاتب : شعيب العاملي

س13: لماذا ينظرُ أهلُ الدّين نظرةً سوداويةً للحياة ؟
شعيب العاملي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

السؤال رقم13
لماذا ينظر أهل الدين نظرة سوداوية، ويعطلون مظاهر الحياة، ويوصلون الناس لليأس والإحباط ؟
أليس الأولى بهم أن يكونوا دعاةً أمامَ الناس إلى حياةٍ مشرقةٍ وغدٍ أفضل ؟
 
الجواب:
 
بسم الله الرحمن الرحيم
 
يكاد يُخيَّل لبعض الناظرين في أحوال حَمَلة الرسالات وأتباعهم، أنهم قومٌ مغرقون في التشاؤم، والنظرة السلبية القاتلة، في كل ما يخص شؤون الحياة، صغيرها وكبيرها.
 
ويتوهم بعضٌ أن النصوص الدينية مشحونةٌ بما يثقل كاهل المؤمنين بذلك، ويودي بهم إلى سُحُبٍ من الظلام الدامس في قراءتهم للحاضر والمستقبل..
 
ولعلّ أوّل ما يتبادر إلى ذهن أحدهم عشرات الآيات الشريفة التي تضع المؤمن في عداد الأقلية، وتثبت للأكثريّة المقابلة صفاتٍ تخالف التعقّل والتدبّر، وتنفي عنهم العلم الحق، والعمل الصالح، فلا يبقى محلٌّ لشيء سوى اليأس!
 
لكن الموازين المنطقية والعلمية والإنسانية لا تُقرّ هذا الحُكمَ على أهل الإيمان بهذه البساطة، إذ لا بدّ من إدراك ما تُثبته تلك النصوص الشريفة، وفَهم حقيقة موقف هذه الشريحة التي تملك من مقوّمات الحياتين: الدنيوية والأخروية ما لا يملك غيرها، وإن ظهر العكس أحياناً كثيراً.
 
وقد يساهم في بيان ذلك أمور منها:
 
الأمر الأول:
أنّ هناك فرقاً بين مقام القراءة الواقعية لتقييم العالم الذي نعيش فيه، وبين مقام تحديد التكليف والسلوك والالتزام به.
وهذان وإن أثّر أحدهما في الآخر إلا أن الإنصاف يقتضي التمييز بينهما وبين مواردهما.
 
فإن الآيات الشريفة وإن أكدت أن الأكثرية هي ممن (لا يعقلون) و (لا يعلمون) و (لا يؤمنون) وأنهم (الكافرون) (الفاسقون) (للحق كارهون) وأنهم (كاذبون) (لا يشكرون)..
إلا أن هذا كان في المقام الأول وهو بيانُ واقعٍ نعيشُ بعضَه، لا بيان تكليف المؤمن وكيف ينبغي أن يكون.
 
فإنّ على العاقل كما يخبر صادق آل محمد (ع) عن حكمة آل داود: أن يكون عارفاً بزمانه‏ (الكافي ج2 ص116).
لأنّ: العالم بزمانه لا تهجم عليه اللوابس (الصادق عليه السلام، الكافي ج1 ص27).
 
وأوّل معرفة الزمان معرفة أهله..
وإذا كان الحاضر يهتفُ مُصَدِّقاً للتاريخ في كثيرٍ من هفواته، مُكرِّراً لأشنع ما فيه من سَقَطات، مُغيِّراً للهوية الإنسانية، بما يراه الناس كلّ يوم من ظلمٍ وقهرٍ ووحشية، سواء تجلّت بصورة الوحوش الكاسرة, أو تستّرت خلف دموعٍ مخادعة..
فإن كلّ إنسان يقرّ في وقفاته مع نفسه بأن الأزمنة المتتالية ليست أزمنة شَرع السماء، ولا هي بدولة الحق المنشودة، التي يعيش في ربوعها الطير آمناً من قاتله، فإن تلك الدولة آخر الدول.
 
وكان لا بدّ للمؤمن أن يتنبه إلى هذا الواقع في قراءته الفكرية، وإدراكاته العامة والخاصة، وكان في الآيات الشريفة وأمثالها خير منبّه ومرشد لذلك.
 
الأمر الثاني:
أن هذا الإدراك يأخذ بيد المؤمن إلى طريق التوجه الخالص نحو الله تعالى، بعد اليأس عما في يد الناس، فيكون موسى عليه السلام نموذجاً له حينما قال أصحابه (إنا لمُدرَكون) فأجاب (كلا إن معي ربي سيهدين).
 
ويكون أمامه خطاب الله تعالى للخاتم صلى الله عليه وآله، حينما تُحاكُ الدسائس حوله (فأعرض عنهم وتوكل على الله كفى بالله وكيلاً).
 
ويتكرر الخطاب نفسه في الكتاب المجيد في قوله تعالى: (ولا تطع الكافرين والمنافقين ودع أذاهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلاً)
 
فهؤلاء الكافرون والمنافقون الذين كانوا ولا زالوا أكثريةً بين بني البشر، والذين يؤذون النبي والمؤمنين، لا ينبغي أن يكونوا عائقاً أمام أهل الإيمان في توكلهم على الله تعالى وتوجههم نحوه، مهما بلغ قهرهم في الدنيا.. ثم تأتي ساعة يصفها الله تعالى (يومَ لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم..)
 
ولم يكن (انثيال الناس على فلانٍ يبايعونه) سبباً في أن يغير الليثُ ابن ابي طالب علياً عليه السلام موقفاً، أو يبدّل قولاً لله تعالى، بل كان كان كما قال عليه السلام: إني والله لو لقيتهم واحداً وهم طلاع الأرض كلها ما باليت ولا استوحشت، وإني من ضلالهم الذي هم فيه والهدى الذي أنا عليه لعلى بصيرةٍ من نفسي، ويقينٍ من ربي (نهج البلاغة ص452).
 
فلا محلّ لليأس عند الصفوة من الخلق وأتباعهم من أهل الإيمان، ولا يُقابَل كل سوءٍ في الحياة بغير التوكل على الله تعالى، والصبر على النوائب، فيزيدهم ذلك بهاءً وسماحةً ونوراً في الدنيا والآخرة.
 
وهم يفرّقون تماماً بين قراءة الواقع على حقيقته، ومعرفة ما فيه من زلاتٍ وهناتٍ، ليكون الإنسان بصيراً بما يُقدِم عليه، وبين معرفة التكليف الشرعي الإلهي..
 
كيف.. وقد شبّه رسول الله ص (بهجة) إمامهم علياً (ببهجة سليمان بن داوود) (وقوّته بقوة داود) (أمالي الصدوق ص8)
ووصفهم علي (ع) بقوله: المؤمن هو الكيّس الفَطِن، بشره في وجهه، وحزنه في قلبه، أوسع شي‏ء صدراً.. (الكافي ج2 ص226).
 
فأين ترى لهؤلاء من نظير؟! أيوصف هؤلاء بأنهم أهل الكآبة واليأس والإحباط؟!
 
الأمر الثالث:
أن الجمع بين الجهتين الأولى والثانية بواقعيةٍ، ودون طغيانِ إحداهما على الأخرى، يتوافق تماماً مع الطبيعة الإنسانية وروح الإيمان.
فبعد الإيمان بالله تعالى والتوكل عليه واليأس عما في يد الناس، وبعد معرفة أن الدنيا دار امتحان، وأنها لا تساوي عند الله جناح بعوضةٍ فأمكن أن يسود فيها ظالم، وبعد أن كانت المآسي فيها عظيمةً على سادات الخلق، كان الإنسان المؤمنُ حزيناً لأجلهم في أيام حزنهم، فَرِحَاً في أيام فرحهم: والذين يفرحون لفرحنا ويحزنون لحزننا ويخافون لخوفنا ويأمنون إذا أمنا (كامل الزيارات ص101).
 
نعم قد يبثُّ أحدهم شكواه لأخيه فيظنه غير صابرٍ أو محتسب، أو يراه مفرِطاً في التشاؤم، والحال أنه يعمل بحديث الصادق عليه السلام: من شكا إلى أخيه فقد شكا إلى الله، ومن شكا إلى غير أخيه فقد شكا الله‏ (قرب الإسناد 78).
 
فلا تراه أمام الخلق كما تراه أمام أخيه المؤمن، يبث له همه كما يبثه لله تعالى، عسى الله تعالى أن يفرج عنهم جميعاً.
 
أما في حياته فيكون وقوراً يعلو محياه البشر، يتأمل عفو الله تعالى ويرشد الناس إليه، ويعينهم عليه، ويحثهم على التقوى والعبادة، ويبشرهم بمغفرة الله تعالى ورحمته..
ثم هو بعد إلقاء الحجة يلتزم بأمر الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله: (فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء فلا تذهب نفسك عليهم حسرات...).
 
كل هذا وهو مهمومٌ لأجل سادته وهم القائلون: نَفَسُ المهموم لنا المغتم لظلمنا تسبيح، وهمّه لأمرنا عبادة (الكافي ج3 ص572)
 
نعم إنه هَمٌّ ممدوح، لا يتعارض مع الدعاء برفع الهمّ والغم عموماً كما ورد في الدعاء: يا كاشف غمي اكشف عني غمي وهمي وكربي‏.. وفي دعاءٍ آخر: وأن تجعل القرآن نور بصري وربيع قلبي وجلاء حزني وذهاب همي‏..
 
وكلّ هذا لا ينافي التسليم لله تعالى بل يُعين عليه.. ويوصل إليه..
فيصير أحدهم مصداقاً لقول الصادق عليه السلام: إن القلب ليتجلجل في الجوف يطلب الحق، فإذا أصابه اطمأن وقرّ (الكافي ج2 ص421).
 
إنهم أصحاب القلوب المطمئنة، يؤمنون بأنَّ للبيت رباً يحميه، وأن الله لا يكلف نفساً إلا وُسعها، ويسألونه أن لا يستبدل بهم غيرهم، ويعيشون حياتهم كما أرادها الله لهم، فرحين لأفراح أحب خلقه إليه، يصيبهم غم وحزن إذا أصاب ذلك العترة الطاهرة، لا مكان لليأس أو القنوط بينهم ولا عندهم، البشر في وجوههم، يعينون إخوانهم بما أعطاهم الله..
اللهم اجعلنا منهم واختم لنا ولهم بحسن العاقبة..
 
والحمد لله رب العالمين


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


شعيب العاملي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2021/07/17



كتابة تعليق لموضوع : س13: لماذا ينظرُ أهلُ الدّين نظرةً سوداويةً للحياة ؟
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net