من ذاكرة كتابات في الميزان واقعة الطف بين الملحمة والدراما
د . شفيق مهدي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

قصة = ملحمة = دراما:
والقصة هنا هي (الحكاية – فابولا) كما يرويها الحكواتي أو (الرو زخون)، إذ تقع في حكاية (واقعة الطف) كل عناصر الترقب والتشويق، والقصة هنا تتجه باتجاهين:
الأول: الخيال والتخيل والمخيال الشعبي.
الثاني: ما وثقته المصادر والمراجع التاريخية.
الحكواتي:
وقيمة الحكواتي هنا الإيضاح والوضوح مستعيناً بـ(المنبر الحسيني) بتصميمه التقليدي المعروف في البلدان الإسلامية، وهو ذاته المنبر الموجود في المساجد، غير أنه منبر مجرد من الزخارف والألوان في الغالب، وغالباً ما يُغطى بالقماش الأسود إعلاناً عن الحزن المستمر والدائم على شهداء الطف أو اللون الأخضر والأسود، أو الأخضر لوحده، كما الأسود لوحده لون العلويين ورمزهم على مستوى العمائم أو الرايات أو الوشاح الذي يغطي الرأس والكتفين، وجزء من الصدر، وأعلى الظهر.
 ومن على هذه المنصة – المنبر – يقدم الحكواتي – الملا – الشيخ – السيد – حكاية العاشر من عاشوراء، وهنا تمتزج المخيلة بالحدث التاريخي من أجل هدف واحد هو التأثير في المتلقي، والذي نسميه الجمهور الحسيني تحديداً، وهو جمهور عام وواسع، يجلس فيه الصغير والكبير، وأكثر الناس حظوة هو الجمهور الذي يقترب من  المنبر، أو الحلقة الخاصة بالمنبر، وتتحدد المجالس، ولكل مجلس الحكواتي الخاص به، والجمهور حر فيما يختار من هؤلاء المشايخ أو القراء، وهؤلاء يظهرون في أيام (العشرة من عاشوراء)، ثم ينتهي أمرهم بعد هذا قليلاً قليلاً؛ لكي يظهر في مجلس الحزن على الموتى، مستذكرين حادثة وواقعة الطف، بوصفها (عبرة) و(تذكرة) عن استشهاد، وكتضحية أهل بيت رسول الله (ص) في هذا اليوم المهول.
 وقليلاً ما نشاهد تأثر الناس بإعلاء فقهاء المذهب، أو ممن لديهم منزلتهم العلمية – آيات الله - ممن يعتلي هذا المنبر، إلا أنهم لا يتمكنون من استدرار عاطفة (المجلس) التي يصل حدها الأقصى في هذه الفترة، خصوصاً وأن معظمهم لا يجيد الإنشاد، وإنما البحث والدرس والفتاوى في أحوال العباد، وهو من اختصاصهم.
 ويحضر هؤلاء الكبار من رجال الدين من فقهاء، وآيات، وحجج... هذه المجالس للتبرك وإعلان الحزن. والحكواتي يمزج في الحكاية  القصة بالإنشاد عن طريق النثر تارة، وعن طريق الشعر تارة أخرى. والشعر إما أن يكون من اللغة المحكية أو من الفصحى، مما قاله الشعراء عموماً في هذه الواقعة، معتمداً على مقدمة إنشادية، تعتمد على المقامات الموسيقية التي تثير الحزن والألم، وتنتهي كذلك بالانشداد مع ازدياد شدة الحزن إلى أقصاه، مما يترك المجلس في حالة حزن شديد جداً، يتقوم هذا على صوت لا بد أن يكون مؤثراً جداً، ينشد العاطفة كما هو في (الرادود).
المنشد – الرادود:
وهو أداء صوتي تتخلله بعض الحركات، ويستعمل في هذا الأداء (المنبر الحسيني) أو دكة أو أي مرتفع – ليشرف على الناس وتشاهد الناس جميعاً وهو يرتبط في كل الأحوال بعينة خاصة من الحاضرين – أهل اللطم -  ويعتمد في مجمل عمله على قصائد من  الشعر الشعبي – اللهجة المحكية – أو من القصائد باللغة الفصحى، وعلى إيقاع محدد يتم المنشد عمله وينجزه بما يمكنني من تسمية قصائده (القصائد التراجيدية) شديدة الحزن، وغالباً ما تكون على إيقاع واحد من أول الإنشاد إلى آخره، من المستهل إلى الخاتمة، والهدف من هذا هو تسيير المواكب – اللطم – الضرب بالسلاسل الحديدية – التطبير – أو الإنشاد في المجالس ضمن مكان محدد – الحسينية – أو الشارع، والهدف هو استثارة وتفريغ الشحنة العاطفية لدى هؤلاء الرواد والحضور – وهو كما جمهور الحكواتي أو (الروه زخون) عام وشامل من الرجال والنساء اللاتي يعزلن في مكان مخصص في المجلس، أو في مسيرة الموكب... وقد اشتهر العديد من كتاب القصائد الحسينية، كما اشتهر الكثير من المنشدين – الرواديد – لكنني أعتقد أن الشيخ (عبد الزهرة الكعبي) أعظمهم جميعاً، وأكثرهم تأثيراً في الناس، لامتلاكه القدرة على الجمع بين شخصية الحكواتي والمنشد في الوقت نفسه، وأعده – تحليلاً – قريناً بشخصية (هوميروس) الاغريقية الذي كتب وحرر (الالياذة) و(الأوديسا)، غير أن ما تركه (هوميروس) هو المكتوب فقط، أما الشيخ فقد ارتبط اسمه بصبيحة العاشر من عاشوراء، إذ يستمر الناس جميعاً لسماع (المقتل) على صوته الشجي والمعبر وهو أشهر قراء هذه الليلة أو هذا اليوم في تاريخ المنبر الحسيني، وأكثرهم (حفظاً) و(توثيقاً) لهذه الواقعة، منذ بدايتها وحتى نهايتها، وكان تأثيرها بالغاً وشديداً في عصر الراديو، إذ ننتظر بالدقائق والثواني لسماع ملحمة الطف بصوته الشجي، وهذا ما أعده علمياً (المنشد الملحمي الشعبي) الذي ترك في وجدان الملايين من الناس أثراً لا يُمحى، وفي قراءته تتوافر كافة عناصر الملحمة من الوصف إلى السرد، ومن البداية إلى النهاية، ومن  الصوت إلى الترقب والتشويق، إلى إثارة العواطف واستدرار شدة الحزن، وفي فترة زمنية محدودة (90) دقيقة أو في هذه الحدود.
يروي لنا هذا الشيخ الجليل كل ما حدث وما وقع في هذه الملحمة، وبطريقة لم تتكرر ولن تتكرر، معتقداً بأنه لا يوجد من سبقه ولا يمكن أن يوجد من يلحقه، وكما أن (هويروس) وحده وليس هناك من قلده، فأن الشيخ وحده كذلك لا يمكن تقليده أو استعادته أو استنساخ طريقته...
 إن المستمع يسمعه غير أنه يرى المعركة كلها، ويسمع العويل، عويل نساء آل البيت، ويشاهد سيدنا العباس في ذهابه وإيابه، ويرى وسامة القاسم وجماله، ويرى طلة علي الأكبر وخروجه للمعركة، ويشعر كأنه حاضراً مشهد اللقاء المهول بين الإمام الحسين وبين ولده لحظة استشهاده (فلذة كبده)، ثم يروي لنا سماعاً الأشد مأساوية في الحدث كله لحظة الاستشهاد – الإمام الحسين -  وعن طريق صوته وإنشاده تتحول طاقة اللغة إلى مقدرة حركية وصورة حسية – واقعية عن الحوار عن الجاني والضحية وطريقة الاستشهاد، وما حدث للطبيعة، وما أصاب ماء الفرات، وما وقع للشمس، وما كان للأرض والتراب والجو... وهذه كلها عناصر مؤسسة ومحققة في العمل الملحمي الكلاسيكي، سواء في الإلياذة أو الأوديسا أو الإنياذة.. مختصراً الفعل الخارجي – المعركة – والدراما، ومستوياتها أي السرد والصراع (البداية والوسط والنهاية) الحكاية والحبكة، وتقدم مسيرة الحدث والنهاية في ساعة واحدة...
وهذه ورقة ستكون كتاباً في قابل الأيام إن شاء الله تعالى.


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


د . شفيق مهدي

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2021/07/13



كتابة تعليق لموضوع : من ذاكرة كتابات في الميزان واقعة الطف بين الملحمة والدراما
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net