صفحة الكاتب : د . حسن محمد احمد

الذاكرة السياسية للشعوب ذاكرة سمكية لا تعي الدروس ولا تتعظ بالعبر
د . حسن محمد احمد

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

 إن الذاكرة المنظمة كالحديقة المزهرة أو البستان النضر تزوره فيسرك منظره وتعود منه وقد امتلأت نفسك بهجة وسرورًا وغمرتك السكينة والطمأنينة وأنت منشرح الصدر، أما الذاكرة المضطربة فهي كالمخزن الخرب متى ما زرته ملأك الهم واغتمت نفسك وعدت وأنت منهك ومكدود الجسد وحائر الذهن مشتت الفكر. وفي هذه الأسطر نيمم أنظارنا نحو الذاكرة السياسية لشعب مكلوم هده الدهر وأحنت ظهره السنون.

إن من يصوب أنظاره تلقاء ذاكرة الشعوب، لاسيما شعوب دول العالم الثالث والتي نحن جزء منها، يجدها ذاكرة ملأى بالثقوب، ومصابة بأعطاب كثيرة، وتكاد تكون أشبه بذاكرة السمك، الذي لا ذاكرة له تقريبًا، ويتجلى ذلك، بوضوح جلي، في التاريخ والذاكرة السياسية، فالذاكرة السياسية للشعوب لا تكاد تعي شيئًا ولا تذكر إلا ما تريده لها الأنظمة والسلطة الحاكمة أن تتذكره، وكأن لسان حال الشعب يقول: النسيان نعمة يتمتع بها كل من يريد أن يركن إلى دعة الجسد ويستمرئ الخمول الذهني.

وإذا عدنا بذاكرتنا إلى سنوات خلت، 1939م عند اندلاع الحرب العالمية الثانية، وهي ليست بالبعيدة، نجد أن الإنجليز قد وعدوا الشعوب المستعمرَة بالاستقلال إن أعانتهم في الحرب، وبالفعل لم ينس الإنجليز وعدهم لنا، فكونوا من مؤتمر الخريجين الجمعية التشريعية التي صوتت على الاستقلال، ولكن هل تعلم أن كفة الاستقلال قد رجحت بصوت واحد فقط!؟؛ مما يعني أن ما يقرب من 50% من ممثلي الشعب السوداني كانوا يريدون بقاء المستعمِر، ولكن الإنجليز احترموا هذا الصوت الواحد وعملوا بموجبه على تنفيذ رغبة الأغلبية، فأجروا أول انتخابات برلمانية في العام 1953م والتي اكتسحها الإتحاديون بزعامة الأزهري (1900-1969م)، ليصبح في العام 1956م أول رئيس وزراء لجمهورية السودان، وفي 1958م أجريت أول انتخابات بعد الاستقلال وتولى فيها عبد الله خليل (من حزب الأمة) رئاسة الوزراء ولكنه ما لبث أن سلم الحكم للعسكر (الفريق إبراهيم عبود 1900-1983م) تسليم وتسلم والفريق عبود برئ، براءة الذئب من دم ابن يعقوب، من تهمة الإنقلاب العسكري، واستتب الأمر لعبود لست سنين (1958-1964م) حيث عادت الأحزاب مرة أخرى في  أكتوبر من نفس العام، وتم التوافق على فترة انتقالية مدتها عام يرأسها سر الختم الخليفة ولم يكتمل العام لتجرى انتخابات مبكرة في العام 1965م تولى فيها محمد أحمد محجوب (من حزب الأمة) رئاسة الوزراء، ولم تدم خلافات الأحزاب وصراعاتها على الكراسي والمناصب طويلا، ففي العام 1969م تزعم الملازم أول جعفر محمد نميري (1930 – 2009م)، انقلابًا عسكريًا تحول فيه حكم السودان إلى نظام جمهوري رئاسي بدلاً من رئاسة الوزراء، وفي العام 1985م تمت الإطاحة بجعفر نميري على يد المشير عبد الرحمن محمد حسن سوار الذهب (1934- 2018م)، الذي وعد فأوفى بوعده حيث سلم الحكم، بعد عام واحد، للصادق المهدي الذي انتخب كرئيس للوزراء (1986م)، غير أن الذاكرة السمكية للأحزاب لم تستوعب الدرس، كما في 1964-1969م، لتعصف رياح الخلافات والصراعات الحزبية بالديمقراطية الثالثة في السودان، وليعود السودان، مرة أخرى لأيد العسكر والنظام الرئاسي الجمهوري في العام 1989م بعد إنقلاب تزعمه العميد عمر حسن أحمد البشير (1944م)، والذي استمر باعتقال عمر البشير وأعضاء حكومته من حزب المؤتمر الوطني في العام 2018م، ليتولى الحكم من بعده كوكبة متشرزمة (مجلس السيادة) وهو مكون من قسمين: مجلس عسكري، يرأسه عبد الفتاح البرهان، وآخر مدني، يرأسه حمدوك. ولا يبدو أن الذاكرة السمكية، حتى الآن، قد وعت الدروس واعتبرت بالتاريخ الطويل من الخلافات والأحقاد الشخصية تتفجر بين المجلسين وهي التي تحرك الضغائن والأحقاد والثارات القديمة.

      نعود بعد هذه الرحلة الطويلة لنطرح بعض الأسئلة والاستفسارات: لماذا لم يصوت الكثير من أعضاء الجمعية التشريعية للاستقلال؟ والإجابة، في ظني اليقيني، ضعف شخصيات المكون المدني وعدم قدرتهم على الإنسجام في ما بينهم، بالإضافة إلى قوة شخصية الزعامات الطائفية، عبد الرحمن المهدي (1885-1959م) وعلي المرغني (1880-1969م)، وهناك الكثير من القل والحسد والأحقاد التي انطبعت في نفوس السياسيين. وسؤال آخر: لماذا يستمر حكم العسكر لسنوات طوال على عكس الحكم المدني؟ والإجابة تكمن في أشباه المتعلمين ممن لم ينالوا من المعرفة سوى شهادات ورقية لا أكثر، فتراهم يلهثون خلف البذات العسكرية طمعًا في الكراسي الوزارية والحكم الولائي والأقليمي والمناصب السيادية .. وغيرها مما يجود به عليهم العسكر من فتات موائدهم، فيتهافتون عليها تهافت الذباب على ..، وعلى هذا النموذج فانظر وقس؛ لتجد صفًا طويلا وقائمة أطول ممن مهدوا الطريق للعسكر فصنعوا الطغاة الذين صعدوا على أكتافهم: عبد الخالق محجوب، عمر الحاج موسى، إسماعيل الحاج موسى، دفع الله الحاج يوسف، النزير دفع الله، منصور خالد، على شمو، حسن الترابي، بهاء الدين إدريس، سبدرات.. والقائمة تطول والمجال لا يتسع للسرد، وليتهم توقفوا عند هذا الحد ولكننا نجد أن كل من الصادق المهدي وحسن الترابي قد لجئا إلى العسكر في سبيل تحقيق مآربهما الدنيئة، ألا وهي الوصول إلى كرسي الحكم حتى ولو على ظهر الدبابات، وهذا ليست بالشئ المستغرب من أناس ليست لديهم من هم في هذا الكون سوى الشغف بكرسي الحكم ذلك الشغف الذي أعمى البصيرة والبصر وطغى على كل ما سوه من أحلام وآمال.

بيد أن ثمة أسئلة تثير الدهشة ويحار العقل في الإجابة عنها: ما هي الجريرة التي ارتكبها الأزهري ومحجوب وما هي التهمة التي أودعا بسببها السجن؟ ليموت الأزهري في غياهبه، دون حتى نعي يليق بمكانته كأول رئيس وزراء للسودان؟ هل كان فوزهما في الإنتخابات الحرة جريرة يستحقان بسببها السجن؟؟، ولماذا لم يثر ذلك الشعب الذي ناضلا من أجله؟ ولماذا لم يستنكر تلك الجريمة النكراء التي اغترفتها، في حقهما، الأيدي الآثمة؟. كل تلك الأسئلة لا إجابة لها سوى في أذهان أولئك الذين خدعهم لمعان الشهادات الورقية وبرقها الخلب، فساندوا الأنظمة الاستبدادية فصنعوا منه الفراعنة والطغاة طمعًا في فتات موائدهم، ثم راحوا يتباكون ويزرفون الدمع على ديمقراطية وأدوها بأيديهم الآثمة.


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


د . حسن محمد احمد
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2021/06/21



كتابة تعليق لموضوع : الذاكرة السياسية للشعوب ذاكرة سمكية لا تعي الدروس ولا تتعظ بالعبر
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net