صفحة الكاتب : رضوان السلامي

التطفيف مشكلة العصر
رضوان السلامي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

(وَيْلٌ لِلمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكتالُوا عَلَى الناسِ يَستَوفُونَ * وَإِذا كالُوهُم أَوْ وَزَنُوهُم يُخسِرُونَ * أَ لا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُم مَبْعُوثُونَ * لِيَومٍ عَظِيمٍ * يَومَ يَقُومُ الناسُ لِرَبِّ العالَمِينَ) المطففين/1-6.
في هذه الآيات من الكتاب الكريم، يعالج القرآن ظاهرة من أمر الظواهر أسى في الحياة الاقتصادية والاجتماعية، والتي تعتبر سببا رئيسيا من أسباب البلاء والنقمة على الناس، بالرغم من أن كثيرا منهم يتلذذ بما يجنيه من أرباح، فينقلب الى أهله مسرورا بما كسب، متجاهلا ما يحيطه الله به من المقت والغضب، لأن كل همه أن يكون فارس السوق الذي لا يطأطئ رأسه لخسارة يوما ما، فهو يغالب غيره على الربح من أين جاءه من حله أو من غير حله.
فهنا يوجه الله تعالى انذاره ووعيده الى هذا الفصيل من البشر الذين سماهم بـ(المطففين) وعرفهم بأنهم يأخذون أكثر من حقهم ويعطون دون الحق... فقد روي أن رجلا يقال له جهينة، كان له صاعان يكيل بأحدهما للناس قليلا، ويكتال بالآخر لنفسه كثيرا، فانزل الله سبحانه وتعالى: (ويل للمطففين، الذين اذا اكتالوا على الناس يستوفون، واذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون).
وعن بن عباس، قال: (لما قدم النبي ص المدينة كانوا من أخبث الناس كيلا فأنزل الله سبحانه (ويل للمطففين) فأحسنوا الكيل بعد ذلك) سنن ابن ماجة2/78، وعن جابر بن عبد الله، قال: قال رسول الله ص: (إذا وزنتم فأرجحوا..) نفس المصدر.
واعلم ان السوق أمانة وليس هناك ما هو أقدس من الامانة، ولا أخس وأرذل من الخيانة، بابتزاز الناس وأخذ أموالهم ظلما وخلسة، قليلا كان المأخوذ أم كثيرا، اذ لا يحل مال امرئ الا عن طيب نفسه، وبما أن المسلم من سلم الناس من يده ولسانه، فهو أمين لا تمتد يده الى مال امرء بالغصب والسرقة والابتزاز، ولا ينال لسانه حرمة، ولا يهدد كرامة بغيبة او نميمة أو كذب او بهتان، فالناس منه في سلام على أموالهم وأنفسهم وكراماتهم.
أما التطفيف: الذي هو: البخس في الكيل والوزن، ونقص المكيال: وهو أن لا تملأه الى أصباره، قال ابو اسحاق: المطففون الذين ينقصون المكيال والميزان.. وإنما قيل للفاعل مطفف، لأنه لا يكاد يسرق في المكيال والميزان الا الشيء الخفيف الطفيف) لسان العرب 2/598 مادة طفف.
فهو اذن خيانة للامة في اقتصادها وحرمة أموالها، وذلك: لأن الامة التي اختارها الله عز وجل لصدارة الأمم، قد عهد الى كل فرد من افرادها ان يحفظ الامانة، ويوفي بالعهد، وان يعرف ماله وما عليه، فيستوفي الحق لنفسه، ويعطي الحق من نفسه، وبذلك تعيش الامة بعضها لبعض، ويشفق بعضها على بعض، فلا يختلس بعضها حق بعض بخيانة او سرقة او غش لذا جاء في الحديث الشريف: (من غشنا ليس منا) سنن ابن ماجه 2/749.
ويعتبر السوق مركز الامانة الاقتصادية للامة، وملتقى مصالحها المشتركة، فاذا ما تلوث بالغش والسرقة والتعدي والبخس في المكيال والميزان، فقد تداعت الحياة وانهارت القيم، ومحقت البركة، وسحبت العناية الربانية.
ولا أعتقد ان الامانة في السوق الاقتصادية تقتصر على الأثر الديني والاخلاقي فحسب، بل تعتبر الامانة وتجريد السوق من الخيانة والشبهة أسلوبا فنيا، قد يلتزمه الانسان الاوربي البعيد عن قيم واخلاقية الرسالات السماوية.. ولكن الاسلام قد جمع بين الفن والقيم الدينية في كافة شعب الحياة، وفي الحياة الاقتصادية خاصة لاستدرار الخير والبركة للحياة، من خلال الحث على الامانة والصدق، والتحذير من الخيانة.
ولم تكن هذه الدعوة مقتصرة على حياة المسلمين، بل هي دعوة الانبياء في كل العصور السابقة، كما قال تعالى: (وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ) هود: 84-85، أراكم بخير: أي برخص السعر والخصب عن ابن عباس.
اما التطفيف: فانه سبب الغلاء وزوال النعمة وحلول النقمة، فلا تمحقوا خيراتكم وخصبكم بخيانة السوق وبخس المكيال وابتزاز الناس، فان رفاهية الحياة الاقتصادية بالأمانة، والأمانة مفتاح كل بركة وخير للحياة.
ويشمل التطفيف على مستوى السوق الاقتصادية، أربعة انواع شاعت ممارستها في معاملات المطففين:
الأول: التطفيف بالكيل، في الوقت الذي بارك رسول الله ص للأمة كيلها ودعا لها بالخير، وأنبأها أن بركة طعامها في الكيل (فقال ص: كيلوا طعامكم يبارك الله لكم) صحيح البخاري 3/67.
وعن أنس (رض) ان رسول الله ص قال: (اللهم بارك لهم في مكيالهم وبارك لهم في صاعهم ومدهم يعني أهل المدينة). صحيح البخاري 3/68. وفي ذات الوقت ينبغي أن لا يباع أو يكال بصاع غير صاع المصر الذي تعارف عليه اهله. فعن الحلبي عن أبي عبد الله ع قال: (لا يصلح للرجل أن يبيع بصاع غير صاع المصر) الوسائل 17/347.
الثاني: التطفيف بالوزن، وهو ما يقوم به المطففون من نقص العيارات التي توضع في مقابل المبيع، أو تثقيل أو عرقلة كفة المبيع بشيء ينقص وزنه.
الثالث: التطفيف في العد، كما يتعاطى ذلك في ذرع القماش والأرض بما يتعارف عليه الباعة المطففون من مقاييس ناقصة للطول، أو ما يتلاعبون به حال القياس.
الرابع: التطفيف بالاحتيال وخلط الرديء بالجيد، والمطلوب بغيره والذي يندرج تحت عنوان الغش والتدليس، الذي يأخذ به البائع كثيرا ويعطي قليلا، وهو من أهجن أنواع التطفيف، إذ يجمع به المطفف بين الغش من ناحية وبين اعطاء القليل من ناحية أخرى. كما يروى ان رسول الله ص مر برجل يبيع طعاما فأدخل يده فيه فإذا هو مغشوش، فقال رسول الله ص: (ليس منا من غش) سنن ابن ماجه2/749.
وفي حديث المناهي عن رسول الله ص انه قال: (من غش مسلما في شراء أو بيع فليس منا ويحشر يوم القيامة مع اليهود لأنهم أغش الخلق) الوسائل: 17/282.
وقال رسول الله ص: الا ومن غشنا فليس منا... قالها ثلاث مرات... ومن غش أخاه المسلم نزع الله بركة رزقه وأفسد عليه معيشته، ووكله الى نفسه) نفس المصدر/283.
ومن الممكن أن نوسع من مفهوم التطفيف، لانطباقه على كافة شؤون الحياة الاجتماعية، لأن المطفف هو الذي يجور في علاقته بأخيه المسلم، فان كان الحق له اخذ ضعفا، وان كان الحق عليه اعطاه لصاحبه بخسا، فهو يختلس الأمور لصالحه الخاص وأنانيته، ويريد أن ينتفع ولا ينفع، فهو في كل شيء يعطي قليلا ويأخذ كثيرا، فتراه لا يتورع أن يتربص بأخيه الهفوة ليسحق كرامته ويخرق حرمته، ويخفر ذمته، ولا يترك طريقا للخير أن يصله، فهو في علاقته به مجحف مطفف باخس لكل استحقاقاته في الحياة، فهو لا يقل عقوبة عن عقوبة بخس المكيال والميزان، لأن كليهما قد ضيع الحق ومنعه عن الناس، قال الامام الصادق ع: يا يونس من حبس حق المؤمن أقامه الله يوم القيامة خمسمائة عام على رجليه حتى يسيل من عرقه أودية وينادي مناد من عند الله هذا الظالم الذي حبس عن المؤمن حقه، فيولج أربعين يوما ثم يؤمر به الى النار) عقاب الأعمال 2/240.
وقال ع: من مشى في حاجة أخيه المسلم فلم يناصحه فيها كان كمن خان الله ورسوله وكان الله عز وجل خصمه) نفس المصدر.


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


رضوان السلامي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2021/06/01



كتابة تعليق لموضوع : التطفيف مشكلة العصر
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net